عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب السجود على الثوب في شدة الحر
  
              

          ░23▒ (ص) بَابُ السُّجُودِ عَلَى الثَّوْبِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيانِ سجودِ المصلِّي على طَرَف ثوبِه؛ مثل: كُمِّه وذَيله؛ لأجلِ شدَّة الحرِّ، ولفظ (الحرِّ) ليس بقيد؛ لأنَّ حُكمَ البرْدِ كذلك، وإِنَّما ذَكَرهُ موافقةً للفظ الحديث.
          والمناسبةُ بين البابين ظاهرةٌ.
          (ص) وَقَالَ الْحَسَنُ: كَانَ الْقَوْمُ يَسْجُدُونَ عَلَى الْعِمَامَةِ وَالْقَلَنْسُوَةِ وَيَدَاهُ فِي كُمِّهِ.
          (ش) مطابقةُ هذا الأثرِ للترجمة غيرُ ظاهرة إلَّا بالتعسُّف؛ لأنَّ الترجمةَ في السُّجود على الثوب، وهو لا يُطلَق على العِمامة، ولا على القَلَنْسوَة، ولكنْ لمَّا كان هذا البابُ والأبوابُ الثلاثة التي قبله في السُّجود على غير وجهِ الأرض، بل كان على شيءٍ هو على الأرض، وهو أعمُّ من أن يكون حصيرًا، أو خُمْرةً، أو فِراشًا، أو عِمامةً، أو قَلَنْسوة، وَنَحْوَ ذلك؛ فبهذه الحيثيَّة تدخلُ العِمامة والقَلَنسوة في الباب.
          و(الحَسَنُ) هو البِصْريُّ، وأراد بـ(القَوْمُ) الصحابة ♥ .
          و(القَلَنْسُوَةُ) : غِشاءٌ مُبطَّن، تُلْبَسُ على الرأس، قاله القزَّاز في «شرح الفصيح»، وعنِ ابنِ خالويه: العربُ تُسمِّي القَلَنْسوة بُرنُسًا، وفي «التلخيص» لأبي هلال العسكريِّ: البُرنُس: القَلَنْسوة الواسعة التي تُغطَّى بها العمائم، تَستُرُ مِنَ الشمس والمطر، وفي «المحكَم»: هي مِن ملابِسِ الرُّؤوس، معروف، وقال ابنُ هشام في «شرحه»: هي التي تقولُ لها العامَّة: الشاشيَّة، وذكر ثعلبٌ في «فصيحه» لغةً أخرى؛ وهي القُلَيْسِيَة؛ بِضَمِّ القاف، وفتح اللام، وسكون الياء، وكسر السين، وفتح الياء، وفي آخره هاءٌ، وفي «المحكَم»: وعندي أنَّ «قُلَيْسِيَة» ليست بلغةٍ، وإِنَّما هي مُصغَّرة، وفي «شرح الغَريب» لابن سِيدَه: وهي قَلَنْساة وقَلْساة، وجمعُها: قلانِس، وقلاسيُّ، وقَلَنْسٌ، وقَلَوْنَسٌ، ثُمَّ تُجمَعُ على «قُلُنْسٌ»، وفيه قلبٌ؛ حيث جُعِلَ الواوُ قبل النون، وعن يونس: أهلُ الحجاز يقولون: قَلَنْسيَة، وتميمٌ تَقولُ: قَلَنْسُوَة، وفي «شرح المرزوقيِّ»: قَلْنَستُ الشيءَ؛ إذا غطَّيتَه.
          قوله: (وَيَدَاهُ فِي كُمِّهِ) هكذا في رواية الأكثرين، وفي رواية الكُشْميهَنيِّ: <ويَدَيه في كُمِّه>.
          وجهُ الأَوَّل: أنَّ (يداه) كلامٌ إضافيٌّ مبتدأ، وقوله: (في كُمِّه) خبره، والجملةُ حالٌ، والتقدير: ويدا كلِّ واحدٍ / في كُمِّه؛ فلأجلِ ذلك قال: ويداه؛ وذلك لأنَّ المقامَ يقتضي أن يُقال: وأيديهم في أكمامهم.
          ووجه الثاني: أنَّ <يديه> منصوبٌ بفعل مقدَّرٍ؛ تقديره: ويجعل كلُّ واحدٍ يديه في كمِّه.
          وهذا التعليق وَصَله ابنُ أبي شَيْبَةَ في «مُصنَّفه» عن أبي أُسامة عن هشامٍ عن الحَسَن قال: (إنَّ أصحاب النَّبِيِّ صلعم كانوا يسجُدون وأيديهم في ثيابهم، ويسجُد الرجلُ منهم على قَلَنْسوتِه وعِمامته)، وأخرجه أيضًا عبد الرزَّاق في «مصنَّفه» عن هشام بن حسَّان عن الحَسَن نَحْوَه، وأخرج ابن أبي شَيْبَةَ عن هُشَيمٍ عن يونس عن الحسن: (أنَّهُ كان يسجد في طَيْلَسانه)، وأخرج عن مُحَمَّد بن أبي عَدِيٍّ عن حُمَيدٍ: (رأيتُ الحسَنَ يلبسُ أنْبِجانيًّا في الشِّتاء، ويُصلِّي فيه، ولا يُخرِجُ يديه)، وكان عبد الرَّحْمَن بن زيدٍ يسجد على كَوْر عِمامته، وكذلك الحسنُ، وسعيد بن المُسَيّبِ، وبَكْر بن عبد الله، ومكحولٌ، والزُّهْريُّ، وعبد الله بن أبي أوفى، وعبد الرَّحْمَن بن يزيدَ، وكان عُبَادَة بن الصامتِ وعليُّ بن أبي طالب وابنُ عُمَرَ وأبو عُبيدة وإبراهيم النَّخَعِيُّ وابنُ سِيرِين وميمونُ بن مِهْرَان وعروةُ بن الزُّبَير وعمرُ بن عبد العزيز وجَعْدةُ بن هُبَيْرة يكرهون السُّجودَ على العِمامة، وذَكَر مُحَمَّد بن أسلَمَ الطوسيُّ في كتابه «تعظيم قَدْرِ الصلاة» عن خلَّاد بن يحيى بن عبد الله بن المحرَّر، عن يزيد بن الأصمِّ عن أبي هُرَيْرَة: (أنَّ النَّبِيَّ صلعم سَجَد على كَوْر عِمامته) قال ابن أسلم: هذا سَنَدٌ ضعيفٌ.