عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب وجوب الصلاة في الثياب
  
              

          ░2▒ (ص) بَابُ وُجُوبِ الصَّلَاةِ فِي الثِّيَابِ.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيانِ وجوبِ الصَّلاةِ في الثياب، والمراد: سترُ العورةِ، وقال أبو الوليد بن رُشدٍ في «القواعد»: اتَّفق العلماءُ على أنَّ سترَ العورةِ فرضٌ بإطلاقٍ، واختلفوا: هل هو شرطٌ مِن شروطِ صحَّة الصلاةِ أم لا؟ وظاهرُ مذهب مالكٍ أنَّها مِن سننِ الصلاة، مُستدِلًّا بحديث عَمْرِو بنِ سلمةَ لمَّا تقلَّصت بردتُه؛ فقالتِ امرأةٌ: غطُّوا عنَّا استَ قارئِكم، وعند بعضِهم: شرطٌ عندَ الذِّكْرِ دونَ النِّسيان، وعند أبي حنيفةَ والشَّافِعِيِّ وعامَّة الفقهاءِ وأهلِ الحديث: أنَّ ذلك شرطٌ في صحَّة الصلاة؛ فرضِها ونفلِها، وإِنَّما قال: (في الثياب) بلفظ الجمعِ نحوُ قولهم: (فلانٌ يركب الخيولَ ويلبس البرود).
          ووجهُ المناسبةِ بين البابين مِن حيث إنَّهُ ذكرَ في الباب السابق فرضيَّة الصلاةِ، وذكر في هذا أنَّ ذلك الفرضَ لا يقومُ إلَّا بستر العورةِ؛ لأنَّه فرضٌ مثلُها.
          فَإِنْ قُلْتَ: للصلاة شروطٌ غيرُ هذا، فما وجهُ تخصيصِه بالتقديم على غيره؟
          قُلْت: لأنَّه ألزمُ مِن غيره، وفي تركه بشاعةٌ عظيمةٌ؛ بخلاف غيرِه مِنِ الشروط.
          (ص) وَقَوْلِ اللهِ ╡: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}[الأعراف:31].
          (ش) هذا عطفٌ على قوله: (وجوب الصلاة) والتقدير: وفي بيان معنى قولِ اللهِ ╡، أراد بـ(الزينة) : ما يواري العورة، وبـ(المسجد) : الصلاة، ففي الأَوَّل إطلاق اسمُ [الحالِّ على المحلِّ، وفي الثاني إطلاقُ اسم] المحلِّ على الحالِّ؛ لوجود الاتِّصالِ الذاتيِّ بين الحالِّ والمحلِّ؛ وهذا لأنَّ أخذَ الزينةِ نفسِها _وهي عرضٌ_ محالٌ، فأريد محلُّها؛ وهو الثوبُ مجازًا، وكانوا يطوفون عراةً ويقولون: لا نعبدُ اللهَ في ثيابٍ أذنبنا فيها، فنزلت، لا يقال: نزول الآيةِ في الطَّوافِ، فكيف يثبت الحكمُ في الصلاة؟ لأنَّا نقولُ: العبرةُ لعموم اللَّفظ، لا لخصوص السبب، وهذا اللَّفظ عامٌّ؛ لأنَّه قال: {عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}، ولم يقل: عند المسجد الحرام، فيعمل بعمومه، ويقال: {خُذُوا زِينَتَكُمْ}[الأعراف:31] مِن قبيل إطلاق المُسبِّبِ / على السَّببِ؛ لأنَّ الثوبَ سببُ الزينةِ، ومحلُّ الزينة الشخصُ، وقيل: «الزينةُ» ما يُتزيَّن به مِن ثوبٍ وغيره؛ كما في قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ}[النور:31]، والسَّتر لا يجب لعينِ المسجد؛ بدليل جواز الطواف عريانًا، فعلم مِن هذا أنَّ سترَه للصلاةِ، لا لأجل الناس، حَتَّى لو صلَّى وحدَه ولم يستر عورتَه لم تجُز صلاتُه وإن لم يكن عندَه أحدٌ.
          وقال بعضهم بعدَ قوله: وقولِ اللهِ تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ}[الأعراف:31]: يشيرُ بذلك إلى تفسيرِ طاوُوسٍ؛ قال في قوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ}[الأعراف:31] قال: الثياب.
          قُلْت: هذا تخمينٌ وحسبانٌ، وليس عليه برهانٌ، وقد اتَّفق العلماءُ على أنَّ المرادَ منه سترُ العورة، وعن مجاهد: وارِ عورتَك ولو بعباءةٍ، وفي «مسلم» مِن حديث أبي سعيدٍ مرفوعًا: «لا ينظرُ الرَّجلُ إلى عورة الرجل، ولا المرأةُ إلى عورةِ المرأة»، وعن المسورِ قال له النَّبِيُّ صلعم : «ارجع إلى ثوبِك؛ فخذه، ولا تمشوا عراةً»، وفي «صحيح ابنِ خزيمة» عن عائشة ترفعه: «لا يقبل اللهُ صلاةَ امرأةٍ قد حاضت إلَّا بخمار»، وقال ابن بَطَّالٍ: أجمع أهلُ التأويل على نزولِها في الذين كانوا يطوفون بالبيت عراةً، وقال ابن رُشدٍ: مَن حملَه على الندب؛ قال: المراد بذلك الزينةُ الظاهرةُ؛ مِنَ الرداءِ وغيرِهِ مِنَ الملابس التي هي زينةٌ، مستدلًّا بما في الحديث: (أنَّهُ كان رجالٌ يصلُّون مع النَّبِيِّ صلعم عاقدي أُزْرِهم على أعناقهم؛ كهيئة الصِّبيان)، ومَن حمله على الوجوبِ؛ استدلَّ بحديث مسلمٍ عَنِ ابن عَبَّاس: (كانت المرأة تطوف بالبيت عريانةً فتقول: مَن يعيرني تِطوافًا؟ وتقول:
اليوم يبدو بعضُه أو كلُّه
          فنزلت: {خُذُوا زِينَتَكُمْ}[الأعراف:31].
          (ص) وَيُذْكَرُ عَنْ سَلَمَةَ ابْنِ الأَكْوَعِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلعم قَالَ: «يَزُرُّهُ وَلَوْ بِشَوْكَةٍ».
          (ش) هذا أخرجه أبو داود: حدَّثنا القَعْنَبِي: حدَّثنا عبدُ العزيز _يعني ابنَ مُحَمَّدٍ_ عن موسى بن إبراهيمَ، عن سلمة ابن الأكوع قال: (قُلْت: يا رسول الله؛ إنِّي رجل أصيدُ، أفأصلِّي في القميصِ الواحدِ؟ قال: «نعم؛ وازرُرْه ولو بشوكةٍ»)، وأخرجه النَّسائيُّ أيضًا.
          قوله: (أَفَأُصَلِّي؟) (الهمزة) فيه للاستفهام؛ فلذلك قال في جوابه: (نَعَمْ) أي: صلِّ.
          قوله: (وَلَوْ بِشَوْكَةٍ) (الباء) فيه تتعلَّق بمحذوفٍ؛ تقديره: ولو أن تزرَّه بشوكةٍ، وهذه اللَّفظةُ فيما ذكره البُخَاريُّ بالإدغام على صيغةِ المضارع، وفي رواية أبي داودَ بالفكِّ على صيغة الأمر، مِن زرَّ يزُرُّ، من (باب نصَر ينصُرُ)، ويجوز في الأمر الحركاتُ الثلاثُ في الرَّاءِ، ويجوز الفكُّ أيضًا، فهي أربعةُ أحوالٍ، كما في (مُدَّ) الأمرُ، ويجوزُ في مضارعِهِ الضمُّ والفتحُ والفكُّ، وقال ابن سِيدَه: الزرُّ الذي يوضَعُ في القميصِ، والجمع: أزرارٌ وزرورٌ، وأزرَّ القميصَ: جعلَ له زرًّا، وأزرَّه: شدَّ عليه أزرارَه، وقال ابن الأعرابيِّ: زرَّ القميصَ إذا كان محلولًا فشدَّه، وزرَّ الرجلُ: شدَّ زرَّه، وأورد البُخَاريُّ هذا لدلالته على وجوبِ سترِ العورة، وإشارةً إلى أنَّ المرادَ بـ«أخذِ الزينةِ» في الآية السابقة: لُبسُ الثيابِ، لا تزيينُها وتحسينُها، وإِنَّما أمرَ بالزرِّ؛ ليأمَن مِن الوقوعِ عَن بدنه، ومِن وقوعِ نظرِه على عورته مِن [زيقِه حالةَ الرُّكوع، ومن هذا أخذَ مُحَمَّد بن شجاع مِن أصحابنا أنَّ مَن نظر على عورتِه مِن] زيقه؛ تفسُد صلاتُه، كما ذكرناه عن قريبِ.
          (ص) وَفِي إِسْنَادِهِ نَظَرٌ.
          (ش) أي: وفي إسنادِ الحديثِ المذكورِ نظرٌ، وجهُ النظر مِن جهةِ موسى بنِ إبراهيم، وزعم ابنُ القَطَّان أنَّهُ موسى بن مُحَمَّد بنِ إبراهيمَ بنِ الحارثِ التَّيميُّ، وهو منكَر الحديثُ، فلعلَّ البُخَاريَّ أراده؛ فلذلك قال: (فِي إِسْنَادِهِ نَظَرٌ)، وذكرَه مُعلَّقًا بصيغةِ التمريض، ولكن أخرجه ابنُ خزيمةَ في «صحيحه» عن نصرِ بن عليٍّ، عن عبد العزيز، عن موسى بنِ إبراهيمَ قال: (سمعت سلمة)، وفي رواية: (وليس عليَّ إلَّا قميصٌ واحدٌ، أو جبَّةٌ واحدةٌ، فأزرُّه؟ قال: «نعم؛ ولو بشوكة»)، ورواه ابن حِبَّان أيضًا في «صحيحه» عن إسحاقَ بنِ إبراهيمَ: حدَّثنا ابن أبي عمرَ: حدَّثنا عبدُ العزيز بن مُحَمَّد، عن موسى بن إبراهيم بن عبد الرَّحْمَن بن ربيعة، / عن سلمة ابن الأكوع قُلْت: (يا رسول الله؛ إنِّي أكونُ في الصَّيدِ، وليس عليَّ إلَّا قميصٌ واحدٌ، قال: «فازرُرْه ولو بشوكةٍ»)، ورواه الحاكم في «مستدركه» وقال: هذا حديثٌ مدنيٌّ صحيحٌ، فظهر بهذه الروايةِ أنَّ موسى هذا غيرُ موسى ذاك الذي ظنَّه ابنُ القَطَّان، وفيه ضعفٌ أيضًا، ولكنَّه دونَ ذاك، وروى الطَّحَاويُّ: (حدَّثنا ابنُ أبي داودَ قال: حدَّثنا ابنُ [أبي] قُتَيلة قال: أخبرنا الدَّراورديُّ عَن موسى بن مُحَمَّد بن إبراهيمَ، عن أبيه، عن سلمةَ ابنِ الأكوع)، وهذا اختلافٌ آخرُ، وقال بعضهم: من صحَّح هذا الحديثَ؛ فقد اعتمدَ على رواية الدراورديِّ.
          قُلْت: يجوز أن يكون وجهُ ذلك اعتمادًا على روايةِ موسى بن إبراهيم المَخْزُومِيِّ، لا على روايةِ موسى بن إبراهيم التَّيميِّ، و(المَخْزُومِيُّ) هو موسى بن إبراهيم بن عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن أبي ربيعةَ بنِ عبدِ الله بنِ عُمَر بنِ مخزومٍ، القرشيُّ المَخْزُومِيُّ، وهذا هو الوجهُ في تصحيح مَن صحَّحه، ويشهد لِما قلنا روايةُ ابنِ حِبَّانَ، ولا يبعدُ أن يكون كلُّ واحدٍ مِنَ المَخْزُومِيِّ والتيميِّ روى هذا الحديثَ عَن سلمةَ ابن الأكوع، وحمل عنهما الدراورديُّ ورواه.
          وقال هذا القائل: ذِكرُ مُحَمَّدٍ فيه شاذٌّ.
          قُلْت: حكمُه بشذوذه إن كان مِن جهة انفرادِ الطَّحَاويِّ به؛ فليس بشيء؛ لأنَّ الشاذَّ مِن ثقةٍ مقبولٌ.
          (ص) وَمَنْ صَلَّى فِي الثَّوْبِ الَّذِي يُجَامِعُ فِيهِ مَا لَمْ يَرَ فِيهِ أَذًى.
          (ش) قال الكَرْمَانِيُّ: هو مِن تتمَّةِ الترجمة، وقال صاحب «التَّوضيح»: وهذا منه دالٌّ على الاكتفاءِ بالظنِّ فيما يصلِّي فيه، لا القطع.
          وقال بعضهم: يشير إلى ما رواه أبو داود والنَّسائيُّ، وصحَّحه ابن خزيمة وابنُ حِبَّان مِن طريق معاوية بن أبي سفيان: «أنَّهُ سألَ أخته أمَّ حبيبة: هل كان رسولُ الله صلعم يصلِّي في الثوب الذي يجامِع فيه؟ قالت: نعم؛ إذا لم يرَ فيه أذًى».
          قُلْت: لما قاله الكَرْمَانِيُّ وجهٌ؛ لأنَّه اقتبسَ هذا مِنَ الحديثِ المذكورِ، وأراد به إدخالَه في ترجمة الباب، وهذا كما رأيتَ قد أخذَ مِن ثلاثةِ أحاديثَ، وأدخلها في ترجمة الباب، الأَوَّل: حديث سلمة ابن الأكوعِ، وقد مرَّ، والثاني: حديث أمِّ حبيبة، أخرجه أبو داودَ قال: حدَّثنا عيسى بن حمَّادٍ المصريُّ قال: حدَّثنا اللَّيث عن يزيدَ بنِ أَبِي حَبِيب عن سويدِ بنِ قيسٍ، عن معاوية بن حُدَيجٍ، عن معاوية بن أبي سفيان: (أنَّهُ سأل أخته أمَّ حبيبة زوجَ النَّبِيِّ صلعم : هل كان رسولُ الله صلعم يصلِّي في الثوب الذي يجامعها فيه؟ فقالت: نعم؛ إذا لم يرَ فيه أذًى)، وأخرجه النَّسائيُّ وابن ماجه، الثالث: حديث أبي هُرَيْرَة ☺ ، على ما نذكره عن قريبٍ.
          قوله: (مَا لَمْ يَرَ فِيهِ أَذًى) سقط لفظة <فيه> مِن رواية المُسْتَمْلِي والحمُّويِّ، وفي رواية: <إذا لم يرَ فيه دمًا) و(الأَذَى) النَّجاسةُ.
          (ص) وَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلعم أَلَّا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ.
          (ش) وفي بعض النُّسَخ: <وأمَرَ النَّبِيُّ صلعم > هذا أيضًا اقتباسٌ مِن حديث أبي هُرَيْرَة ☺ ، وقد وصله البُخَاريُّ في الباب الثامِنِ بعدَ هذا البابِ قال: (بعثني أبو بكرٍ في تلك الحَجَّةِ في مُؤذِّنين يومَ النَّحرِ نؤذِّن بمنًى: ألَّا يحجَّ بعدَ العام مشركٌ، ولا يطوفَ بالبيت عريانٌ)، واستدلَّ به على اشتراط سترِ العورةِ في الصلاةِ؛ لأنَّه إذا كان شرطًا في الطواف الذي هو يشبه الصلاةَ؛ فاشتراطُهُ في الصلاةِ أولى وأجدرُ.
          وقال بعضهم: أشار بذلك إلى حديث أبي هُرَيْرَة. ولكن ليسَ فيه التصريحُ بالأمر.
          قُلْت: قد ذكرتُ لكَ أنَّ هذا اقتباسٌ، و(الاقتباسُ) ههنا اللُّغويُّ، لا الاصطلاحيُّ؛ لأنَّ الاصطلاحيَّ هو أن يُضمِّنَ الكلامَ شيئًا مِنَ القرآنِ أو الحديثِ، لا على أنَّهُ منه، وههنا ليسَ كذلك، بل المرادُ ههنا أخذُ شيءٍ مِنَ الحديث والاستدلال بِه على حكمٍ، كما كان يُستَدَلُّ به مِنَ الحديث المأخوذِ منه؛ فحديثُ أبي هُرَيْرَة المذكورُ يدلُّ على اشتراطِ سترِ العورةِ في الصلاةِ بالوجه الذي ذكرناه، وهو يتضمَّن أمرَ أبي بكر، وأمرُ أبي بكر بذلك مِن أمرِ النَّبِيِّ صلعم ، وأخذَ البُخَاريُّ مِن ذلك المتضمَّن صورةَ أمرٍ، فقال: (وأمرَ رسولُ الله / صلعم ألَّا يطوفَ بالبيتِ عُريَانٌ) واقتصرَ مِنَ الحديث على هذا؛ لأنَّه هو الذي يطابق ترجمةَ الباب؛ فافهم؛ فَإِنَّهُ دقيقٌ لم يتنبَّه عليه أحدٌ مِنَ الشُّرَّاح.
          قوله: (أَلَّا يَطُوفَ) بالنَّصبِ؛ لأنَّه في الحديثِ المأخوذِ منه عطفٌ على المنصوبِ؛ وهو قوله: (ألَّا يحجَّ بعدَ العامِ مُشرِكٌ).