عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب تحريم تجارة الخمر في المسجد
  
              

          ░73▒ (ص) بَابُ تَحْرِيمِ تِجَارَةِ الْخَمْرِ فِي الْمَسْجِدِ.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيانِ تحريم تجارةِ الخمر، ولا بدَّ فيه مِن تقديرِ مضافٍ؛ لأنَّ المرادَ بيانُ ذلك وتبيينُ أحكامِه، وليسَ المرادُ / بأنَّ تحريمَها مختصٌّ بالمسجد؛ لأنَّها حرامٌ سواءٌ كانت في المسجد أو في غيره.
          وقوله: (فِي المَسْجِدِ) يتعلَّق بـ(التحريم)، لا بـ(التجارة)، وقال صاحب «التوضيح» آخِذًا مِن كلامِ ابنِ بَطَّالٍ: وغرضُ البُخَاريِّ هنا في هذا الباب _والله أعلم_ أنَّ المسجدَ لمَّا كانَ للصلاة ولذكرِ الله تعالى، مُنزَّهًا عنِ الفواحشِ، والخمرُ والرِّبا مِن أكبرِ الفواحش يمنعُ مِن ذلك، فلمَّا ذكرَ الشارعُ تحريمَهما في المسجدِ؛ ذكر أنَّهُ لا بأسَ بذِكْرِ المحرَّماتِ والأقذار في المسجد على وجه النهي عنها والمنعِ منها، انتهى، وأخذ بعضُهم مِن كلامه فقال: «باب تحريم تجارة الخمر في المسجد»؛ أي: جواز ذكر ذلك.
          قُلْت: كلُّ هذا خارجٌ عن المَهْيَعِ وتصرُّفاتٌ بغيرِ تأمُّلٍ؛ لأنَّه لا فائدةَ في بيان جواز ذكرِ ذلك في المسجد؛ [إذ هو مبيَّن مِنَ الخارج، وليس غرضُ البُخَاريِّ ذلك، وإِنَّما غرضُه بيانُ أنَّ تحريمَ تجارة الخمرِ وقعَ في المسجدِ]؛ لأنَّ ظاهر حديثِ الباب يصرِّحُ بذلك؛ لأنَّ عائشةَ ♦ قالت: (لمَّا نزلتِ الآياتُ مِن سورةِ البقرة في الربا؛ خرج رسولُ الله صلعم إلى المسجد...) إلى آخره، فهذا ظاهرُه أنَّ تحريمَ تجارةِ الخمر بعدَ نزول آياتِ الربا.
          فَإِنْ قُلْتَ: كانَ تحريمُ الخمر قبلَ نزول آياتِ الربا بمدَّةٍ طويلةٍ، كما صرَّحوا به، فلمَّا حُرِّمتِ الخمرُ؛ حُرِّمتِ التجارةُ فيها أيضًا قطعًا، فمَا الفائدةُ في ذكر تحريمِ تجارتِها ههنا؟
          قُلْت: يحتمل كونُ تحريمِ التجارة فيها قد تأخَّر عن وقتِ تحريمِ عينِها، ويحتمل أن يكون ذكْرُه ههنا تأكيدًا ومبالغةً في إشاعةِ ذلك، أو يكون قد حضرَ المجلسَ مَن لم يبلغه تحريمُ التجارةِ فيها قبلَ ذلك، فأعاد صلعم ذكرَ ذلك؛ للإعلام لهم، وكانَ ذلك ورسولُ الله صلعم في المسجدِ، وهذا أيضًا هو موقعُ الترجمةِ، وليس ذلك مثلَ ما قالَ بعضهم: وموقع الترجمة أنَّ المسجدَ منزَّهٌ عنِ الفواحش فعلًا وقولًا، لكن يجوز ذكرُها فيه؛ للتحذيرِ منها، انتهى.
          قُلْت: إذا كان ذكرُ الفواحشِ جائزًا في المسجدِ لأجل التَّحذيرِ؛ فما وجهُ تخصيصِ ذكرِ فاحشةِ تحريمِ الخمر بالمسجدِ؟ وجوابُ هذا يلزمُ هذا القائلَ؛ فعلى ما ذكرنا لا يرِدُ سؤالٌ، فلا يحتاج إلى جوابٍ.