عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب عقد الإزار على القفا في الصلاة
  
              

          ░3▒ (ص) بَابُ عَقْدِ الإِزَارِ عَلَى الْقَفَا فِي الصَّلَاةِ.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيانِ عَقْدِ المُصلِّي إزارَهُ على قفاه والحال أنَّهُ داخلٌ في الصلاة.
          و(القَفَا) مقصورٌ: مُؤخَّرُ العُنُقِ، يُذكَّرُ ويٌؤنَّثُ، والجمع: قِفِيٌّ؛ مثل: عِصِيٍّ؛ جمع (عصًا)، وقد جاء (أَقْفِية) على غيرِ قياسٍ.
          ووجهُ المناسبةِ بينَ هذا البابِ والبابِ الذي قبلَهُ وبينَ الأبوابِ الخمسةَ عشرةَ التي بعدَه ظاهرٌ؛ لأنَّ الكلَّ في أحكام الثياب، غيرَ أنَّهُ تخلَّل فيها خمسةُ أبوابٍ ذكرَها وهي غيرُ متعلِّقةٍ بأحكامِ الثيابِ، وهي (باب ما يُذكَرُ في الفخذِ) و(بَابُ الصَّلاة في المِنْبَرِ والسُّطوحِ والخَشَبِ) و(بابُ الصَّلاةِ على الحصيرِ) و(بابُ الصلاةِ على الخُمْرةِ) و(باب الصلاةِ على الفِراشِ).
          أَمَّا مناسبةُ (باب الفخذ) بالبابِ الذي قبله هو أنَّ المذكورَ فيه هو الصلاةُ في ثوبٍ ملتحِفًا به؛ لسترِ العورة، والمذكور في الذي بعدَه حكمُ الفخذِ؛ وهو أنَّهُ عورةٌ، فإذا كانَ عورةً؛ يجب سترُه، والسَّترُ إِنَّما يكون بالثيابِ، فتحقَّقتِ المناسبةُ بينهما مِن هذا الوجهِ.
          وأَمَّا مناسبة (بابِ الصَّلاةِ في المِنبَرِ) بالباب الذي قبلَه؛ هي أنَّ الثوبَ فيه مُستَعْلٍ / على المُصلِّي، وفي الذي بعدَه المُصلِّي مُستَعْلٍ على الذي يُصلِّي عليه، فالمناسبةُ مِن حيثُ الاستعلاءُ متحقِّقةٌ وإن كان الاستعلاءُ في نفسِه مختلفًا.
          وأَمَّا المناسبةُ بينَ الأبوابِ الثلاثةِ، وهي (بابُ الصلاةِ على الحصيرِ) و(بابُ الصلاةِ على الخُمْرةِ) و(باب الصَّلاةِ عَلى الفراشِ) ؛ فظاهرةٌ جدًّا.
          وبقي وجهُ تَخَلُّلِ (بابِ: إذا أصابَ ثوبُ المصلِّي امرأتَهُ إذا سجَدَ)، ووجه ذلك: أنَّ السجدة فيه كانت على الخُمْرَةِ، وفي الباب الذي قبله كان: (على المِنْبَرِ أوِ السطوحِ)، وكلٌّ منهما مَسْجَدٌ؛ بفتح الجيم، فالمناسبةُ مِن هذه الجهةِ موجودةٌ.
          على أنَّا نقولُ: إنَّ هذه الوجوهَ التي ذكرناها إقناعيَّةٌ، وليست ببرهانيَّةٍ، والاستئناسُ في مثل هذا بأدنى شيءٍ كافٍ.
          (ص) وَقَالَ أَبُو حَازِمٍ عَنْ سَهْلٍ: صَلَّوْا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلعم عَاقِدِي أُزْرِهِمْ عَلَى عَوَاتِقِهِمْ.
          (ش) هذا تعليقٌ أخرجَهُ المُصنِّفُ مُسْنَدًا في البابِ الثالثِ؛ وهو (باب: إذا كان الثوبُ ضَيِّقًا) عَن مُسَدَّدٍ: (حدَّثنا يحيى عَن سفيانَ قالَ: حدَّثنا أبو حازمٍ عن سهلٍ...).
          ومطابقته للترجمة ظاهرةُ، وإِنَّما ذكر بعضَ هذا الحديثِ ههنا مُعلَّقًا، مع أنَّهُ ذكرَه بتمامه في الباب الثالث؛ لأجل الترجمة المذكورة، وذكرَ هذه الترجمةَ؛ لتأكيد سترِ العورة؛ لأنَّه إذا عقَدَ إزارَه في قفاه وركَعَ؛ لم تبدُ عورتُهُ، وقال ابنُ بَطَّالٍ: عقدُ الإزارِ على القفا إذا لم يكن معَ الإزارِ سراويلُ.
          و(أَبُو حَازِمٍ) بالحاء المُهْمَلة والزاي: اسمه سلمةُ بنُ دينارٍ، الأعرجُ الزاهدُ المَدَنِيُّ، و(سَهْلٌ) هو ابن سعدٍ السَّاعديُّ، أبو العَبَّاسِ، الأنصاريُّ الخزرجيُّ، وكان اسمُه حَزَنًا، فسمَّاه رسولُ الله صلعم سَهْلًا، مات سنة إحدى وتسعين، وهو آخرُ مَن ماتَ مِنَ الصحابة في المدينة.
          قوله: (صَلَّوْا) فعلٌ ماضٍ، و(عَاقِدِي أُزْرِهِمْ) أصله: عاقدينَ أزرهِم، فلمَّا أضيفَ؛ سقطَتْ منه النونُ، وهي جملة حاليَّةٌ، وفي رواية الكُشْميهَنيِّ: <عاقدُو أزرِهم> فعلى هذا هو خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ؛ أي: صَلَّوا وهُم عاقِدُو أُزْرِهِم، و(الأُزْرُ) بِضَمِّ الهمزة وسكون الزاي: جمعُ (إزارٍ)، وفي «المُحكَمِ»: «الإزارُ» الملحفةُ، والجمع: أَزَرَةٌ، وأُزُرٌ حجازيَّةٌ، وأُزْرٌ تميميَّةٌ، وهو يُذكَّرُ ويُؤنَّثُ، وقال الداوديُّ: سُمِّي إزارًا؛ لأنَّه يُشَدُّ به الظهرُ، قال تعالى: {فَآزَرَهُ}[الفتح:29]، وهو المِئْزَرُ واللِّحافُ والمِقْرَمُ والقِرَامُ، و(العَوَاتِقُ) جمع (العاتِق) وهو موضعُ الرِّداءِ مِنَ المَنكِبِ، فيُذكَّرُ ويُؤنَّث.