عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب الاغتسال إذا أسلم وربط الأسير أيضا في المسجد
  
              

          ░76▒ (ص) بَابُ الاِغْتِسَالِ إِذَا أَسْلَمَ، وَرَبْطِ الأَسِيرِ أَيْضًا فِي الْمَسْجِدِ.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيانِ حكمِ اغتسالِ الكافرِ إذا أسلم، وبيانِ ربطِ الأسيرِ في المسجد، وهذه الترجمةُ وقعت هكذا في أكثر الرواياتِ، وليس في رواية الأصيليِّ وكريمةَ قولُهُ: (وربط الأسير أيضًا في المسجدِ)، ووقع عندَ البعض لفظ <باب> بلا ترجمةٍ، والصواب هنا النُّسخةُ التي فيها ذكر (البابِ) مفردًا بلا ترجمةٍ؛ لأنَّ حديثَ هذا البابِ مِن جنس حديث البابِ الذي قبله، ولكن لمَّا كانت بينهما مغايرةٌ ما؛ فصلَ بينهما بلفظ (باب) مفردًا، وأَمَّا قولُ ابنِ المُنيِّر: (وذِكْر هذا الحديثِ في «باب الأسير أو الغريم يُربَطُ في المسجد» أوقعُ وأنصُّ على المقصودِ؛ لأنَّ ثمامةَ كان أسيرًا، فرُبِط في المسجد، ولكنَّه لم يذكره هناك؛ لأنَّه صلعم لم يربطْهُ ولم يأمرُ بربطِهِ) ؛ فقولٌ صادِرٌ مِن غيرِ تأمُّلٍ؛ لأنَّ ابنَ إسحاقَ صرَّحَ في «مغازيه» أنَّ النَّبِيَّ صلعم / هو الذي أمرَهم بربطه، فإذا كانَ كذلك؛ كان حديثُ ثُمامةَ مِن جنسِ حديثِ العفريت، ولكن لمَّا كان بينهما مغايرةٌ ما؛ وهو أنَّ النَّبِيَّ صلعم همَّ بربطِ العفريتِ بنفسِهِ، ولكنَّه لم يربطْ؛ لمانعٍ ذكرناه، وههنا ربطَه غيرُه؛ فلذلك فصلَ البُخَاريُّ بينهما بلفظ (باب) مُفرَدًا، وهو أصوبُ مِنَ النُّسختَين المذكورتَين؛ لأنَّ في نسخةِ الجمهورِ ذكرَ الاغتسالِ إذا أسلمَ، وليس في حديث الباب ذكرٌ لذلك ولا إشارةٌ إليه، وفي نسخةِ الأصيليِّ ربطُ الأسيرِ غيرُ مذكورٍ، وحديث البابِ يصرِّح بذلك، وأبعدُ مِن الكلِّ النُّسخةُ التي ذكرها ابنُ المنيِّر، وهي (باب ذكر الشراء والبيع) فيه أبو هُرَيْرَة: (بعثَ رسولُ الله صلعم خيلًا...) الحديث، ثُمَّ قال: وجهُ مطابقة حديثِ ثُمامة للبيع والشراء في المسجدِ أنَّ الذي تخيَّل المنعَ مطلقًا إِنَّما أخذه مِن ظاهر أنَّ هذه المساجدَ إِنَّما بُنِيَت للصلاة ولذكرِ الله، فبيَّن البُخَاريُّ تخصيصَ هذا العمومِ بإجازةِ فعلٍ غيرِ الصلاة في المسجد، وهو رَبْطُ ثُمامةَ؛ لأنَّه مقصودٌ صحيحٌ، فالبيعُ كذلك، انتهى، ولا يخفى ما فيه مِنَ التكلُّفِ والتعسُّفِ، وقال صاحب «التلويح» بعد أن نقل هذا الكلام مُنكِرًا عليه ومُستبعِدًا وقوعَه منه:
وذاك لعمري قولُ مَن لم يمارسِ                     كتابَ الصَّحيحِ المنتقى في المدارسِ
ولم يرَ ما قد قاله في الوفود مِن                     سياقِ حديثٍ واضح متجانسِ
          وكان الشيخ قطب الدين الحلبيُّ ☼ تبِعَ ابنَ المنيِّر في ذلك، وأنكر عليه تلميذُه صاحبُ «التَّوضيح»، وهو محلُّ الإنكارِ؛ لأنَّ الترجمة التي ذكرها ليست في شيءٍ مِن نُسَخِ «البُخَاريِّ».
          (ص) وَكَانَ شُرَيْحٌ يَأْمُرُ الْغَرِيمَ أَنْ يُحْبَسَ إِلَى سَارِيَةِ الْمَسْجِدِ.
          (ش) مطابقةُ هذا الأثرِ للجزء الثاني مِنَ الترجمةِ ظاهرةٌ، وهو تعليقٌ مِنَ البُخَاريِّ، وقد وصلَه مَعْمَرٌ عن أيُّوبَ عنِ ابنِ سِيرِين قال: (كان شريحٌ إذا قضى على رجلٍ بحقٍّ؛ أَمَر بحبسه في المسجد إلى أن يقومَ بما عليه، فإن أعطى الحقَّ وإلَّا؛ أمرَ به في السجنِ).
          و(شُرَيحٌ) بِضَمِّ الشين المُعْجَمة، وفتح الراء، وسكون الياء آخِر الحروف، وفي آخره حاءٌ مُهْمَلةٌ، ابن الحارث، الكنديُّ، كان مِن أولاد الفُرْس الذين كانوا باليمن، وكان في زمن النَّبِيِّ صلعم ولم يلقَه، قضى بالكوفةِ مِن قِبَلِ عمرَ ☺ ومِن بعدِه ستِّين سنةً، مات سنة ثمانين.
          وقال ابنُ مالك: في إعراب هذا وجهان؛ أحدهما: أن يكونَ الأصلُ بـ«الغريم» و«أن يُحبَس» بدلَ اشتمالٍ، ثُمَّ حُذِفتِ الباءُ كما في قول الشاعر:
أمرتك الخيرَ....
          والثاني: أن يريدَ: كان يأمره أن ينحبسَ، فجعل المُطاوَعَ موضِعَ المُطاوِعِ؛ لاستلزامه إيَّاه، انتهى.
          قُلْت: هذا تكلُّفٌ، وحذفُ الباءِ في الشعر للضرورة، ولا ضرورةَ ههنا، وهذا التركيبُ ظاهرٌ، فلا يُحتَاج إلى مثل هذا الإعرابِ، ولا شكَّ أنَّ المأمورَ _هو الغريم_ أُمِر بأن يحبسَ نفسَه في المسجد، فإن قضى ما عليه؛ ذهبَ في حاله، وإلَّا؛ أُمِر به في السجنِ، و(أَنْ يُحبَسَ) أصلُه: بأن يُحبَس، و(يُحبَسَ) على صيغة المجهول؛ يعني: أمرَه أن يحبِسَ نفسَه في المسجد أوَّلًا، وعند المَطْلِ يُحبَس في السِّجنِ.