عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب ما يذكر في الفخذ
  
              

          ░12▒ (ص) بَابُ مَا يُذْكَرُ فِي الْفَخِذِ.
          (ش) أي: هذا بابُ ما يُذكَرُ في بيانِ حُكْمِ الفَخِذِ، ويجوز في خاءِ (الفخِْذِ) الكسرُ والسكونُ معًا.
          وقد ذكرنا وجهَ إدخالِ هذا البابِ بينَ الأبوابِ التي في حكم الثيابِ، ووجهُ مناسبتِه بما قبلَه.
          (ص) قالَ أبُو عَبْدِ اللهِ.
          (ش) هو البُخَاريُّ، وذكرَ نفسَه بكنيته، وليس هذا بموجودٍ في غالب النُّسَخ.
          (ص) وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَرْهَدٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ جَحْشٍ عَنِ النَّبِيِّ صلعم : «الْفَخِذُ عَوْرَةٌ».
          (ش) هذا تعليقٌ بصيغةِ التَّمريضِ ذكرَهُ عَن ثلاثةِ أنفسٍ:
          الأَوَّل: عَن عبدِ الله (ابنِ عَبَّاسٍ) وهو عندَ التِّرْمِذيِّ موصولٌ، أخرجه عَن واصلِ بنِ عبدِ الأعلى، عن يحيى بنِ آدمَ، عن إسرائيلَ بنِ يونسَ، عن أبي يحيى القَتَّات، [عَن مجاهدٍ، عن ابن عَبَّاسٍ: أنَّ النَّبِيَّ صلعم قال: «الفخِذُ عورةٌ»، وقال: هذا حديثٌ حَسَنٌ غريبٌ، و(أبو يحيى القتَّات) ] ضعيفٌ، وهو مشهورٌ بكنيته، واختُلِفَ في اسمه على سبعةِ أقوالٍ؛ قيل: مسلمٌ، وقيل: زاذان، وقيل: عبدُ الرَّحْمَن بنُ دينارٍ، وقيل: يزيدُ، وقيل: زبَّانُ، وقيل: عِمْرَان، وقيلَ: دينارٌ وهو المشهور، و(القتَّاتُ) بفتح القافِ وتشديد التَّاءِ المُثَنَّاة مِن فوقُ.
          وأَمَّا حديث جَرْهَدٍ؛ فأخرجه مالكٌ في «الموطَّأ» عن أبي النضر، عن زُرْعَةَ بن عبد الرَّحْمَن بن جَرْهَدٍ، عن أبيه، عن جدِّه _قال: وكان جدِّي من أهل الصفة_ قال: جلس رسول الله صلعم عندي وفخذي مكشوفةٌ، فقال: «خَمِّر عليك، أَمَا علمت أنَّ الفخذ عورةٌ»، قال الدَّارَقُطْنيُّ: روى هذا الحديثَ أصحابُ «الموطَّأ»؛ ابن بُكَيرٍ وابن وَهْبٍ ومَعْنٌ وعبد الله بن يوسف، وهو عند القعْنبيِّ خارج «الموطَّأ» في الزيادات من مالكٍ، ولم يذكره ابن القاسم في «الموطَّأ» ولا ابن عُفَيْرٍ ولا أبو مصعبٍ، ورواه عن مالكٍ ابنُ مهديٍّ وإبراهيم بن طَهْمان وعمرو بن مَرْزوقٍ وأبو قُرَّة وإسحاق بن عَدِيٍّ ومطرِّف وإسماعيل بن أبي أويسٍ، وفي رواية ابن بُكَيرٍ وابن طَهْمان ومطرِّف وغيرهم: زُرْعَةَ بن عبد الرَّحْمَن عن أبيه، من غير ذكر جدِّه، وعند ابن عساكرَ: رواه عبد الله بن نافعٍ عن مالكٍ، عن أبي النضر، عن زُرْعَةَ بن عبد الرَّحْمَن [بن جَرْهَدٍ، عن أبيه، عن جدِّه، ورواه قَبِيصَة عن الثَّوْريِّ، عن أبي النضر عن زُرْعَةَ بن عبد الرَّحْمَن، عن أبيه]، عن جدِّه جَرْهَدٍ، لم يذكر أباه، ورواه ابن أبي عمر عن ابن عُيَينة، عن أبي النضر، عن زُرْعَةَ بن مسلم بن جَرْهَدٍ، عن أبيه، عن جدِّه، وخرَّجه ابن حِبَّان في «صحيحه» من حديث أبي عاصمٍ عن سفيان، عن أبي الزناد، عن زُرْعَةَ بن عبد الرَّحْمَن، عن أبيه، عن جدِّه، ورواه التِّرْمِذيُّ عن ابن أبي عمر قال: حدَّثنا سفيان عن أبي النضر مولى عُمَر بن عُبيد الله، عن زُرْعَةَ بن مسلم بن جَرْهَدٍ الأسلميِّ، عن جدِّه جَرْهَدٍ قال: مرَّ النَّبِيُّ صلعم بجرهد في المسجد وقد انكشف فخذه، [وقال: «إنَّ الفخذ عورةٌ» هذا حديثٌ حسنٌ ما أرى إسناده بمتَّصلٍ، وقال: حدَّثَنا الحسن بن عليٍّ قال: حدَّثنا عبد الرزَّاق قال: أخبرنا مَعْمَرٌ عن أبي الزِّناد قال: أخبرني ابن جَرْهَدٍ عن أبيه: أنَّ النَّبِيَّ صلعم مرَّ به وهو كاشفٌ عن فخذِه، فقال النَّبِيُّ صلعم : «غطِّ فخذك] فَإِنَّها من العورة»، هذا حديثٌ حسنٌ، وأخرجه عن واصلٍ من حديث ابن عَبَّاسٍ أيضًا، وقد ذكرناه.
          ورواه الشَّافِعِيُّ عن سفيان، / عن أبي الزناد، عن آل جَرْهَدٍ، عن جَرْهَدٍ، ولمَّا ذكره ابن القَطَّان؛ أعلَّه بالاضطراب وبجهالة حال الراوي عن جَرْهَدٍ، ولمَّا ذكره البُخَاريُّ في «تاريخه» من حديث ابن أبي الزناد عن أبيه، عن زُرْعَةَ بن عبد الرَّحْمَن، عن جدِّه قال، ورواه صدقة عن ابن عيينة، عن أبي الزناد، عن آل جَرْهَدٍ، وعن سالم أبي النضر عن زُرْعَةَ بن مسلم بن جَرْهَدٍ عن جَرْهَدٍ، قال البُخَاريُّ: ولا يصحُّ، وقال ابن الحذَّاء: إِنَّما لم يخرِّجه البُخَاريُّ في مصنَّفه لهذا الاختلاف.
          و(جَرْهَد) بفتح الجيم، وسكون الراء، وفتح الهاء، وفي آخره دالٌ مُهْمَلةٌ، وفي «التهذيب»: جَرْهَدٌ الأسلميُّ: هو ابن رَزَاح بن عَدِيٍّ، وقيل غير ذلك، له صحبةٌ، عداده في أهل المدينة، له عن النَّبِيِّ صلعم حديثٌ واحدٌ: «الفخذ عورةٌ»، وفي إسناد حديثه اختلافٌ كثيرٌ، يقال: إنَّهُ مات سنة إحدى وستِّين، وقال أبو عمر: جعل ابن أبي حاتم جَرْهَد بن خويلد غير جَرْهَد بن رزاح، ثُمَّ قال: هذا وهمٌ، وهو رجلٌ واحدٌ من أسلم لا يكاد يُسَلَّم، له صحبةٌ.
          وأَمَّا حديث مُحَمَّد ابن جحشٍ فرواه الطبرانيُّ عن يحيى بن أيُّوب، عن سعيد بن أبي مريم، عن مُحَمَّد بن جعفرٍ، عن العلاء بن عبد الرَّحْمَن، عن أبي كثيرٍ مولى مُحَمَّد ابن جحشٍ، عنه قال: كنت أصلِّي مع النَّبِيِّ صلعم ، فمرَّ على معمرٍ وهو جالسٌ عند داره بالسوق، وفخذاه مكشوفتان، فقال: «يا معمر؛ غطِّ فخذيك فإنَّ الفخذين عورةٌ»، وقال ابن حزمٍ: راويه أبو كثيرٍ مجهولٌ، وذكره البُخَاريُّ في «تاريخه» وأشار إلى الاختلافِ فيه، ورواه أحمد في «مسنده» والحاكم في «مستدركه» من طريق إسماعيل بن جعفرٍ عن العلاء بن عبد الرَّحْمَن، عن أبي كثيرٍ مولى مُحَمَّد ابن جحشٍ، عنه.
          و(مُحَمَّد ابن جَحْشٍ) هو مُحَمَّد بن عبد الله بن جَحْشٍ، نُسِب إلى جدِّه، له ولأبيه عبد الله صحبةٌ، وزينب بنت جحشٍ أمُّ المؤمنين هي عمَّتُه، وكان مُحَمَّدٌ صغيرًا في عهد النَّبِيِّ صلعم ، وقد حفِظ عنه، وقال الواقديُّ: كان مولده قبل الهجرة بخمس سنين، هاجر إلى المدينة مع أبيه، له صحبةٌ، والله أعلم.
          [وأَمَّا معمرٌ المذكورُ في الحديث المذكور؛ فهو ابن عبد الله بن نَضْلَة العَدَويُّ، وقد أخرج ابن قانعٍ] هذا الحديثَ من طريقِه أيضًا.
          (ص) وَقَالَ أَنَسٌ ☺ : حَسَرَ النَّبِيُّ صلعم عَنْ فَخِذِهِ.
          (ش) هذا أيضًا تعليقٌ، ولكنَّه وصله في هذا الباب كما يأتي قريبًا.
          و(حَسَرَ) بفتح حروفها المهمَلات، ومعناه: كشف، وسنتكلَّم فيه مستقصًى عن قريبٍ.
          (ص) وَحَدِيثُ أَنَسٍ أَسْنَدُ، وَحَدِيثُ جَرْهَدٍ أَحْوَطُ حَتَّى نَخْرُجَ مِنَ اخْتِلَافِهِمْ.
          (ش) لمَّا وقع الخلاف في الفخذ؛ هل هو عورةٌ أم لا؟ فذهب قومٌ إلى أنَّهُ ليس بعورةٍ، واحتجُّوا بحديث أنسٍ، وذهب آخرون إلى أنَّهُ عورةٌ، واحتجَّوا بحديث جَرْهَدٍ، وبما رُوي مثله في هذا الباب، كأنَّ قائلًا قال: إنَّ الأصل أنَّهُ إذا رُوي حديثان في حكمٍ، أحدهما أصحُّ من الآخر؛ فالعمل يكون بالأصحِّ، فههنا حديث أنسٍ أصحُّ من حديث جَرْهَدٍ ونحوه، فكيف وقع الاختلاف؟! فأجاب البُخَاريُّ عن هذا بقوله: (وَحَديثُ أَنَسٍ أَسْنَدُ...) إلى آخره، تقريره أن يقال: نعم؛ حديث أنسٍ أسند؛ يعني: أقوى وأحسن سندًا من حديث جَرْهَدٍ، إلَّا أنَّ العمل بحديث جَرْهَدٍ؛ لأنَّه أحوط؛ يعني: أكثر احتياطًا في أمر الدين، وأقرب إلى التقوى؛ للخروج عن الاختلاف، وهو معنى قوله: (حَتَّى نَخْرُجَ مِنَ اخْتِلَافِهِمْ) أي: مِنَ اختلاف العلماء، وهو على صيغة جماعة المتكلِّم مِنَ المضارع، بفتح النون وضمِّ الراء.
          ولأجل هذه النكتة لم يقل البُخَاريُّ: باب الفخذ عورة، ولا قال أيضًا: باب الفخذ ليس بعورةٍ، بل قال: (بابُ ما يذكر في الفخذ)، أَمَّا القوم الذين ذهبوا إلى أنَّ الفخذ ليس بعورةٍ؛ فهم: مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي ذئبٍ وإسماعيل ابن عُلَيَّةَ ومُحَمَّد بن جرير الطَّبَريُّ وداود الظاهريُّ وأحمد في رواية، ويروى ذلك أيضًا عن الإصطخريِّ من أصحاب الشَّافِعِيِّ، حكاه الرافعيُّ عنه، وقال ابن حزمٍ في «المحلَّى»: والعورة المفروض سترها / عن الناظر وفي الصلاة مِنَ الرجال: الذَّكَر وحلْقة الدبُر فقط، وليس الفخذ منه عورةً، وهي مِنَ المرأة جميع جسمها حاشى الوجهَ والكفَّين فقط، الحرُّ والعبد والحرَّة والأمة سواءٌ في ذلك، ولا فرق، ثُمَّ قال بعد أن روى حديث أنس الذي أخرجه البُخَاريُّ: «إنَّ رسول الله صلعم غزا خيبر...» وفيه: «ثُمَّ حسر الإزار عن فخذه حَتَّى إنِّي أنظر إلى بياض فخذ النَّبِيِّ صلعم » فصحَّ أنَّ الفخذ مِنَ الرجل ليس عورةً، ولو كان عورةً؛ لمَا كشفها الله تعالى من رسوله المطهَّر المعصوم مِنَ الناس في حال النبوَّة والرسالة، ولا أراها أنسَ بن مالك ولا غيره، وهو تعالى عصمه من كشف العورة في حال الصبا وقبل النبوَّة.
          وأَمَّا الآخرون الذين هم خالفوهم وقالوا: الفخذ عورةٌ؛ فهم جمهور العلماء مِنَ التَّابِعينَ ومَن بعدهم؛ منهم: أبو حنيفة ومالك في أصحِّ أقواله والشَّافِعِيُّ وأحمد في أصحِّ روايتيه وأبو يوسف ومُحَمَّدٌ وزُفَر بن الهذيل، حَتَّى قال أصحابنا: إنَّ صلاةَ مكشوفِ الفخذ فاسدةٌ، وقال الأوزاعيُّ: الفخذ عورة إلَّا في الحمَّام، وقال ابن بَطَّالٍ: أجمعوا على أنَّ مَن صلَّى مكشوف العورة؛ لا إعادة عليه.
          قُلْت: دعوى الإجماع غير صحيحة، فيكون مراده إجماع أهل مذهبه.
          وفي «التوضيح»: حاصل ما في عورة الرجل عندنا خمسة أوجهٍ: أصحُّها وهو المنصوص: أنَّها ما بين السرَّة والركبة، وهما ليستا بعورة، وهو صحيح مذهب أحْمَد ابن حَنْبَل، وقال به زُفَر ومالكٌ، وثانيها: أنَّهما عورة، كالرواية عن أبي حنيفة، وثالثها: السرَّة من العورة، ورابعها: عكسه، وخامسها: للإصطخريِّ: القُبل والدبر، وهو شاذٌّ، انتهى، وفي «الوَبَري»: السرَّة مِنَ العورة عند أبي حنيفة، وفي «المفيد»: الركبة مركَّبة من عظم الفخذ والساق، فاجتمع الحظر والإباحة، فغُلِّب الحظرُ احتياطًا.
          وأَمَّا الجواب عن حديث أنسٍ ☺ ؛ فهو أنَّهُ محمول على غير اختيار الرسول صلعم فيه بسبب ازدحام الناس، يدلُّ عليه مسُّ ركبة أنس فخذَه صلعم ، وقال القرطبيُّ: ويرجِّح حديث جَرْهَد وهو أنَّ تلك الأحاديث المعارضة له قضايا معينة في أوقات وأحوال مخصوصة، يتطرَّق إليها الاحتمال ما لا يتطرَّق لحديث جَرْهَد، [فَإِنَّهُ أعطى حكمًا كليًّا، فكان أولى، وبيان ذلك: أنَّ تلك الوقائع تحتمل خصوصيَّة النَّبِيِّ صلعم ] بذلك، أو البقاء على البراءة الأصليَّة، أو كان لم يحكم عليه في ذلك الوقت بشيء، ثُمَّ بعد ذلك حكم عليه بأنَّه عورة.
          فَإِنْ قُلْتَ: روى الطَّحَاويُّ وقال: حدَّثنا ابن مرزوق قال: حدَّثنا أبو عاصم عن ابن جُرَيْجٍ قال: أخبرني أبو خالد عن عبد الله بن سعيدٍ المدينيِّ قال: حدَّثتني حفصة بنت عمر ☺ قالت: كان رسول الله صلعم ذات يومٍ قد وضع ثوبه بين فخذَيهِ، فجاء أبو بكر ☺ فاستأذن، فأذن له النَّبِيُّ صلعم على هيئته، ثُمَّ جاء عمر ☺ بمثل هذه الصفة، ثُمَّ جاء أناسٌ من أصحابه والنَّبِيُّ صلعم على هيئته، ثُمَّ جاء عثمان ☺ ، فاستأذن عليه، فأذن له، ثُمَّ أخذ رسول الله صلعم ثوبه فجلَّله، فتحدَّثوا ثُمَّ خرجوا، فقُلْت: يا رسول الله؛ جاء أبو بكر وعمرُ وعليٌّ وأناسٌ من أصحابك وأنت على هيئتك، فلمَّا جاء عثمان؛ تجلَّلت ثوبك، فقال: «أوَلا أستحي ممَّن تستحي منه الملائكة؟»، قالت: وسمعت أبي وغيره يحدِّثون نحوًا مِن هذا، وأخرجه أحمد والطبرانيُّ أيضًا.
          قُلْت: أجاب الطَّحَاويُّ عنه: بأنَّ هذا الحديث على هذا الوجه غريبٌ؛ لأنَّ جماعة من أهل البيت روَوه على غير هذا الوجه المذكور، وليس فيه ذكر كشف الفخذين، فحينئذٍ لا تثبت به الحجَّة، وقال أبو عمر: الحديث الذي روَوه عن حفصة فيه اضطراب، وقال البَيْهَقيُّ: قال الشَّافِعِيُّ: والذي رُوي في قصة عثمان من كشف الفخذين مشكوكٌ فيه، وقال الطَّبَريُّ في كتاب «تهذيب الآثار»: الأخبار / التي رُويت عن النَّبِيِّ صلعم أنَّهُ دخل عليه أبو بكر وعمر وهو كاشفٌ فخذه واهيةُ الأسانيد، لا يثبت بمثلها حجَّة في الدين، والأخبار الواردة بالأمر بتغطية الفخذ والنهي عن كشفها أخبارٌ صحاح.
          وقول الطَّحَاويِّ: لأنَّ جماعة من أهل البيت روَوه على غير هذا الوجه، حديث عائشة وعثمان ☻ أخرجه مسلمٌ: حدَّثنا عبد الملك بن شُعَيْب بن الليث بن سعدٍ قال: حدَّثنا أبي عن جدِّي قال: أخبرنا عُقيل بن خالدٍ عن ابن شهاب، عن يحيى بن سعيد بن العاص: أنَّ سعيد بن العاص أخبره: أنَّ عائشة ♦ زوج النَّبِيِّ صلعم وعثمان ☺ ، حدَّثاه: أنَّ أبا بكرٍ ☺ استأذن على رسول الله صلعم وهو مضطجع على فراشه، لابسٌ مِرْط عائشة، فأذن لأبي بكرٍ وهو كذلك، فقضى إليه حاجته، ثُمَّ انصرف، ثُمَّ استأذن عمر ☺ ، فأذن له وهو على تلك الحال، فقضى إليه حاجته، ثُمَّ انصرف، قال عثمان: ثُمَّ استأذنت عليه، فجلس وقال لعائشة: اجمعي عليك ثيابك، فقضيتُ إليه حاجتي، ثُمَّ انصرفتُ، فقالت عائشة ♦: يا رسول الله؛ ما لي لم أرك فزعت لأبي بكر وعمر كما فزعت لعثمان؟! قال رسول الله صلعم : «إنَّ عثمان رجلٌ حَيِيٌّ، وإنِّي خشيتُ إن أذنتُ له على تلك الحال ألَّا يبلغ إليَّ في حاجته»، وأخرجه الطَّحَاويُّ أيضًا وقال: فهذا أصل هذا الحديث، ليس فيه ذكر كشف الفخذين أصلًا.
          فَإِنْ قُلْتَ: قد روى مسلمٌ أيضًا في «صحيحه» وأبو يَعْلَى في «مسنده» والبَيْهَقيُّ في «سننه» هذا الحديث، وفيه ذِكْر كشف الفخذين؛ فقال مسلمٌ: حدَّثنا يحيى بن يحيى ويحيى بن أيَّوب وقُتيبة وابن حُجْرٍ، قال يحيى بن يحيى: أخبرنا، وقال الآخرون: حدَّثنا إسماعيل _يعنون: ابن جعفر_ عن مُحَمَّد بن أبي حَرْمَلة، عن عطاءٍ وسليمان ابنَي يَسار وأبي سَلَمَةَ بن عبد الرَّحْمَن: أنَّ عائشة ♦ قالت: كان رسول الله صلعم مضطجعًا في بيته كاشفًا عن فخذَيْه _أو ساقَيْه_ فاستأذن أبو بكر ☺ ، فأذن له وهو على تلك الحال، فتحدَّث، ثُمَّ استأذن عمر ☺ ، فأذن له وهو كذلك، فتحدَّث، ثُمَّ استأذن عثمان ☺ ، فجلس رسول الله صلعم وسوَّى ثيابه _قال مُحَمَّدٌ: ولا أقول: ذلك في يوم واحدٍ_ فدخل فتحدَّث، فلمَّا خرج؛ قالت عائشة: دخل أبو بكر فلم تهتشَّ له، ثُمَّ دخل عمر فلم تهتشَّ له ولم تُبَالِه، فلمَّا دخل عثمان؛ فجلست وسوَّيت ثيابك، فقال: «ألَا أستحي من رجلٍ تستحي منه الملائكة؟!».
          قُلْت: لمَّا أخرجه البَيْهَقيُّ قال: لا حجَّة فيه، وقال الشَّافِعِيُّ: إنَّ هذا مشكوكٌ فيه؛ لأنَّ الراويَ قال: (فخذَيْه أو ساقَيْه)، فدلَّ ذلك على ما قاله الطَّحَاويُّ: إنَّ أصل الحديث ليس فيه ذِكْرُ كشفِ الفخذين، وقال أبو عُمَر: هذا حديثٌ مضطربٌ.
          (ص) وَقَالَ أَبُو مُوسَى: غَطَّى النَّبِيُّ صلعم رُكْبَتَيْهِ لَمَّا دَخَلَ عُثْمَانُ.
          (ش) وجه مطابقة هذا للترجمة من حيث إنَّ الركبة إذا كانت عورةً؛ فالفخذ بالطريق الأولى؛ لأنَّه أقرب إلى الفَرْج الذي هو عورةٌ إجماعًا.
          و(أَبُو مُوسَى) هو الأشعريُّ، واسمُه عبد الله بن قيسٍ.
          وهذا طرف حديث ذكره البُخَاريُّ في (مناقب عثمان ☺ ) من رواية عاصمٍ الأحول عن أبي عثمان النَّهْدِيِّ عنه، وفيه: أنَّ النَّبِيَّ صلعم كان قاعدًا في مكان فيه ماءٌ، قد انكشف عن ركبتيه _أو ركبته_ فلمَّا دخل عثمان؛ غطَّاها، وزعم الداوديُّ الشارح: إنَّ هذه الرواية المعلَّقة عن أبي موسى وَهْمٌ، وإنَّها ليست من هذا الحديث، وقد أدخل بعض الرواة حديثًا في حديث: إِنَّما أتى أبو بكر إلى رسول الله صلعم وهو في بيته منكشفٌ فخذه، فلمَّا استأذن عثمان؛ غطَّى فخذه، فقيل له في ذلك، فقال: «إنَّ عثمان رجلٌ حَيِيٌّ، فإن وجدني على تلك الحالة؛ لم تبلغ حاجته».
          قُلْت: الذي ذكرناه من رواية عاصمٍ يردُّ عليه، بيان ذلك: أنَّا قد ذكرنا أنَّ في حديث عائشة ♦: (كاشفًا عن فخذَيْه أو ساقَيْه)، وعند أحمد بلفظ: (كاشفًا عن فخذه) من غير شكٍّ، وعنده من حديث حفصة مثله، وقد ظهر مِن ذلك أنَّ البُخَاريَّ لم يُدخِل حديثًا في حديثٍ، بل هما قضيَّتان
           / متغايرتان، في إحداهما كشف الركبة، وفي الأخرى كشف الفخذ، ورواية أبي موسى التي علَّقها البُخَاريُّ في كشف الركبة، ورواية عائشة في كشف الفخذ، ووافقتها حفصة، ولم يذكر البُخَاريُّ روايتيهما، وإِنَّما ذكر مسلمٌ رواية عائشة كما ذكرنا.
          وقال الكَرْمَانِيُّ: الركبة لا تخلو إمَّا أن تكون عورةً أو لا، فإن كانت عورة؛ فلِمَ كشفها قبل دخول عثمان؟ وإن لم تكن؛ فلِمَ غطَّاها عنه؟
          قُلْت: الشقُّ الثاني هو المختار، وأَمَّا التغطية؛ فكانت للأدب والاستحياء منه.
          وقال ابن بَطَّالٍ: فَإِنْ قُلْتَ: فلِمَ غطَّى حين دخوله؟ قُلْت: قد بيَّن صلعم معناه بقوله: «أَلَا أستحي ممَّن تستحي منه ملائكة السماء» وإِنَّما كان يصف كلَّ واحدٍ مِن أصحابه بما هو الغالب عليه مِن أخلاقه، وهو مشهورٌ فيه، فلمَّا كان الحياء الغالبَ على عثمان؛ استحيا منه، وذكر أنَّ المَلَك يستحي منه، فكانت المجازاة له من جنس فعله.
          (ص) وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ ☺ : أَنْزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ وَفَخِذُهُ عَلَى فَخِذِي، فَثَقُلَتْ عَلَيَّ حَتَّى خِفْتُ أَنْ تَرُضَّ فَخِذِي.
          (ش) هذا أيضًا تعليقٌ وطرفٌ مِن حديثٍ وصله البُخَاريُّ في (تفسير سورة النساء) في نزول قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} الآية[النساء:95] حدَّثنا إسماعيل بن عبد الله: حدَّثني إبراهيم بن سعدٍ عن صالح بن كَيْسان، عن ابن شهاب: حدَّثني سهل بن سعدٍ الساعديُّ... الحديث، وفيه: (فأنزل الله على رسوله وفخذُه على فخذِي...) إلى آخره، وأخرجه أيضًا في (الجهاد) عن عبد العزيز بن عبد الله، وأخرجه التِّرْمِذيُّ في (التفسير) عن عبد بن حُمَيدٍ، وقال: حسنٌ صحيحٌ، وأخرجه النَّسائيُّ في (الجهاد) عن مُحَمَّد بن يحيى وعن مُحَمَّد بن عبد الله.
          قوله: (أَنْزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ) أي: قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[النساء:95].
          قوله: (وَفَخِذُهُ عَلَى فَخِذِي) جملة اسْميَّة حاليَّةٌ.
          قوله: (أَنْ تُرَضَّ) بِضَمِّ التاء المُثَنَّاة من فوق وفتح الراء، على صيغة المجهول، ويجوز أن يكون على صيغة المعلوم أيضًا، مِنَ الرَّضِّ؛ وهو الدقُّ، وكلُّ شيء كسرتَه فقد رضضتَه.
          وإيراد البُخَاريِّ هذا الحديثَ ههنا ليس له وجهٌ؛ لأنَّه لا يدلُّ على أنَّ الفخذ عورةٌ، ولا يدلُّ أيضًا على أنَّهُ ليس بعورةٍ، فأيُّ شقٍّ مال إليه لا يدلُّ عليه، على أنَّهُ مال إلى أنَّ الفخذ عورة، حيث قال: وحديث جَرْهَد أحوط، نعم؛ لو كان فيه التصريح بعدم الحائل؛ لدلَّ على أنَّهُ ليس بعورةٍ؛ إذ لو كان عورةً في هذه الحالة؛ لمَا مكَّن صلعم فخذَه على فخذ زيدٍ، وقال بعضهم: والظاهر أنَّ المصنِّف تمسَّك بالأصل.
          قُلْت: لم يبيَّن ما مرادُه مِنَ الأصل؟ فعلى كلِّ حالٍ لا يدلُّ الحديث على مراده صريحًا.