عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب التعاون في بناء المسجد
  
              

          ░63▒ (ص) بَابُ التَّعَاوُنِ فِي بِنَاءِ الْمَسْجِدِ.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيانِ تعاون الناسِ بعضُهم بعضًا في بناءِ المسجد، وأشار بهذا إلى أنَّ في ذلك أجرًا، ومَن زاد في عمله في ذلك؛ زادَ في أجرِه، وفي بعض النُّسَخ: <في بناء المساجد> بلفظ الجمع.
          (ص) وَقَوْلُ اللهِ ╡ : {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسْجِدَ اللهِ}[التوبة:17].
          (ش) كذا وقعَ في روايةِ الأكثرين، وفي رواية أبي ذرٍّ: <{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ / أَن يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللهِ} إلى قوله: {الْمُهْتَدِينَ}[التوبة:17-18]> ولم يقع في روايتِهِ لفظُ: (وقولُ اللهِ ╡ ).
          وسببُ نزول هذه الآيةِ: أنَّهُ لمَّا أُسِر العَبَّاسُ ☺ يوم بدرٍ؛ أقبل عليه المسلمون، فعيَّروه بالكفر، وأغلظ له عليٌّ ☺ ، فقال العَبَّاس: ما لكم تذكرون مساوئنا دونَ محاسننا؟! فقالَ له عليٌّ: ألكم محاسِنُ؟ قال: نعم؛ إنَّا لنعمُرُ المسجدَ الحرامَ، ونحجبُ الكعبةَ، ونسقي الحاجَّ، ونفكُّ العانيَ، فأنزل الله هذه الآيةَ، وقال بعضُهم في توجيه ذكر البُخَاريِّ هذه الآيةَ ههنا: وذكرُهُ لهذه الآيةِ مَصِيرٌ منه إلى ترجيحِ أحدِ الاحتمالَين مِن أحد الاحتمالَين؛ وذلك أنَّ قوله تعالى: {مَسَاجِدَ اللهِ}[التوبة:17] يحتمل أن يُراد بها: مواضعُ السجود، ويحتمل أن يُرادَ بها: الأماكنُ المتَّخَذةُ لإقامةِ الصلاة، وعلى الثاني: يحتمِلُ أن يُراد بـ«عمارتها»: بنيانُها، ويحتمل أن يُراد بها: الإقامةُ فيها لذكر الله تعالى.
          قُلْت: هذا الذي قاله هذا القائلُ لا يناسِبُ معنى هذه الآيةِ أصلًا، وإِنَّما يناسب معنى قوله تعالى: {إِنَّما يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}؛ الآيةَ[التوبة:18]، على أنَّ أحدًا مِنَ المفسِّرين لم يذكرْ هذا الوجهَ الذي ذكره هذا القائلُ، وإِنَّما هذا تصرُّفٌ منه بالرأي في القرآن، فلا يجوز ذلك، ويجب الإعراضُ عن هذا، قالَ المفسِّرون: معنى هذه الآيةِ: ما ينبغي للمشركين بالله أن يعمروا مساجدَ الله التي بُنيَت على اسمِه وحدَه [لا شريكَ له، وَمن قرأ: {مَسْجِدَ اللهِ}؛ فأرادَ به: المسجدَ الحرَامَ، أشرفَ المساجدِ في الأرضِ] التي بُنِي مِن أَوَّل يومٍ على عبادة الله وحدَه لا شريكَ له، وأسَّسه خليلُ الرَّحْمَن عليه الصلاة والسَّلامُ، هذا وهُمْ شاهدون على أنفسهم بالكفر، وقال الزَّمَخْشَريُّ: أَمَّا القراءةُ بالجمعِ؛ ففيها وجهان؛ أحدهما: أن يُراد به المسجدُ الحرامُ، وإِنَّما قيل: {مَسَاجِدَ اللهِ}؛ لأنَّه قِبلةُ المساجد [كلِّها وإمامُها، فعامرُه كعامرِ جميعِ المساجد، ولأنَّ كلَّ بقعةٍ منه مسجدٌ، والثاني: أن يُراد به جنسُ المساجدِ]، فإذا لم يَصلُحوا أن يُعمِّروا جنسَها؛ دخلَ تحت ذلك ألَّا يُعمِّروا المسجدَ الحرامَ الذي هو صدرُ الجنسِ ومقدِّمتُه، وهو آكدُ؛ لأنَّ طريقَه طريقُ الكناية؛ كما لو قُلْتَ: «فلانٌ لا يقرأ كُتُب الله»؛ أنفى لقراءةِ القرآن مِن تصريحك بذلك، ثُمَّ إنَّ البُخَاريَّ ذكرَ هذه الآيةَ مِن جملة الترجمة، وحديثُ الباب لا يطابقها، ولو ذكر قوله تعالى: {إِنَّما يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ}؛ الآيةَ[التوبة:18]؛ لكانَ أجدرَ وأقربَ للمطابقة، ولكن يمكن أن يُوجَّه ذلك وإن كان فيه بعضُ تعسُّفٍ؛ وهو أن يقالَ: إنَّهُ أشارَ به إلى أنَّ التعاون في بناءِ المساجد [المعتبرَ الذي فيه الأجرُ إِنَّما كان للمؤمنين، ولم يكن ذلك للكافرين وإن كانوا بنَوا مساجدَ]؛ ليتعبَّدوا فيها بعبادتِهم الباطلة، ألَا يُرى أنَّ العَبَّاس ☺ لمَّا أُسِر يومَ بدرٍ وعُيِّر بكفرِه وأغلظَ له عليٌّ ☺ ؛ ادَّعى أنَّهم كانوا يعمُرون المسجدَ الحرامَ، فبيَّن اللهُ ذلك أنَّهُ غيرُ مقبولٍ منهم؛ لكفرِهم؛ حيث أنزل على نبيِّه الكريم: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ الله}[التوبة:17] كما ذكرناه الآنَ، ثُمَّ أنزل في حقِّ المسلمين الذين يتعاونون في بناءِ المساجدِ قولَه: {إِنَّما يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ}؛ الآيةَ[التوبة:18]، والمعنى: إِنَّما العمارةُ المعتدَّةُ بها عمارةُ مَن آمن بالله، فجعلَ عمارة غيرهم كَلَا عمارةٍ؛ حيثُ ذكرها بكلمةِ الحصر، وروى عبدُ بنُ حمُيد في «مسنده»: (حدَّثنا يونس بن مُحَمَّدٍ: حدَّثنا صالحٌ المزِّيُّ عن ثابتٍ البُنانيِّ وميمونِ بنِ سَيَاه وجعفرِ بنِ زيدٍ، عن أنس بن مالكٍ ☺ قال: قال رسول الله صلعم : «إنَّ عُمَّارَ المساجدِ هم أهلُ الله»، ورواه الحافظُ أبو بكرٍ البَزَّارُ أيضًا، ولا شكَّ أنَّ أهلَ اللهِ هم المؤمنون.