نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث عدي: ما منكم من أحد إلا وسيكلمه الله يوم القيامة

          6539- 6540- (حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ) قال: (حَدَّثَنَا أَبِي) حفص بن غياث (قَالَ: حَدَّثَنِي) بالإفراد، وفي رواية أبي ذرٍّ: <حدَّثنا> (الأَعْمَشُ) سليمان بن مهران (قَالَ: حَدَّثَنِي) بالإفراد أيضاً (خَيْثَمَةُ) بالخاء المعجمة والمثلثة المفتوحتين بينهما تحتية ساكنة، هو: ابن عبد الرَّحمن الجُعفي (عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ) بالحاء المهملة، هو: الطَّائي أنَّه (قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلعم : مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ) ظاهر الخطاب للصَّحابة ♥ ، ويلتحقُ بهم المؤمنون كلُّهم سابقهم ومقصِّرهم، أشار إلى ذلك ابن أبي جمرة. /
          (إِلاَّ وَسَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ) ╡، والواو عطفٌ على مقدر تقديره: إلَّا سيخاطبه وسيكلِّمه، وفي رواية أبي ذرٍّ: <إلَّا سيكلِّمه> بدون الواو، وفي رواية وكيع عن الأعمش عند ابن ماجه: ((سيكلِّمه ربُّه)) (يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَيْسَ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَهُ) وفي رواية أبي ذرٍّ: <ليس بينه وبينه> (تُرْجُمَانٌ) بضم الفوقية وفتحها وضم الجيم، وقال ابن التِّين: رويناه بفتح التاء، وقال الجوهريُّ: فلكَ أن تضمَّ التاء؛ لضمَّة الجيم، وجوَّز العينيُّ: فتح الجيم.
          يقال: ترجم كلامه: إذا فسَّره بكلامٍ آخر، والتُّرجمان: مفسِّر الكلام بآخر، ولم يذكر في هذه الرِّواية ما يقول له، وبيَّنه في رواية ابن خليفة عن عديِّ بن حاتمٍ في «الزَّكاة» [خ¦1413] بلفظ: ((ثمَّ ليقفنَّ أحدكُم بين يدي الله ليس بينه وبينه حجابٌ ولا ترجمان يترجم له، ثمَّ ليقولنَّ له: ألم أوتك مالاً، فليقولنَّ: بلى)).
          (ثُمَّ يَنْظُرُ فَلاَ يَرَى شَيْئاً قُدَّامَهُ) بضم القاف وتشديد الدال؛ أي: أمامه (ثُمَّ يَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ) ووقع في رواية عيسى بن يونس عن الأعمش في «التَّوحيد» على ما سيأتي [خ¦7512]، وعند مسلمٍ بلفظ: ((فينظر أيمن منه فلا يرى إلَّا ما قدَّم)). وأخرجه التِّرمذي من رواية أبي معاوية بلفظ: ((فلا يرى إلَّا شيئاً قدَّمه)). وفي رواية مُحِلِّ بن خليفة: ((فينظرُ عن يمينه فلا يرى إلَّا النَّار، وينظرُ عن شماله فلا يرى إلَّا النَّار)) [خ¦1413]، وهذه الرِّواية مختصرةٌ، ورواية خيثمة مفسَّرة فهي المعتمد.
          وقوله: ((أيمنَ)) و((أشأمَ)) بالنَّصب فيهما على الظَّرفية، والمراد بهما: اليمين والشِّمال، قال ابن هُبيرة: نظر اليمين والشِّمال هنا كالمثل؛ لأنَّ الإنسان من شأنه إذا دهمه أمرٌ أن يلتفت يميناً وشمالاً يطلب الغوث.
          وقال الحافظ العَسقلاني: ويحتمل أن يكون سبب الالتفات أنَّه يترجَّى أن يجدَ طريقاً يذهب فيها؛ لتحصل له النَّجاة من النَّار فلا يرى إلَّا ما يفضي به إلى النَّار، كما وقع في رواية مُحِلِّ بنِ خليفة.
          (فَتَسْتَقْبِلُهُ النَّارُ) وفي رواية عيسى بن يونس: ((وينظرُ بين يديه فلا يرى إلَّا النَّار)) [خ¦7512]. قال ابن هُبيرة: «تلقاء وجهه»، وفي رواية أبي معاوية: / ((ثمَّ ينظرُ تلقاء وجهه فستقبله النَّار))، قال ابن هُبيرة: والسَّبب في ذلك: أنَّ النَّار تكون في ممرِّه، فلا يمكنه أن يحيدَ عنها، إذ لا بدَّ له من المرور على الصِّراط.
          (فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَّقِيَ النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ) جزاؤه محذوفٌ؛ أي: فليفعل، ووقع في رواية وكيع كذلك، وفي رواية أبي معاوية: ((أن يقي وجهه من النَّار ولو بشقِّ تمرةٍ)). وفي رواية عيسى بن يونس: ((فاتَّقوا النَّار ولو بشقِّ تمرةٍ)).
          قال المظهريُّ: يعني: إذا عرفتم ذلك، فاحذروا من النَّار، فلا تظلموا أحداً ولو بمقدار شقِّ تمرةٍ، وقال الطِّيبي: ويحتمل أن يرادَ إذا عرفتم أنَّه لا ينفعكُم في ذلك اليوم شيءٌ من الأعمال الصَّالحة، وإنَّ أمامكم النَّار، فاجعلوا الصَّدقة جُنَّة بينكم وبينها ولو بشقِّ تمرةٍ.
          ومطابقة الحديث للتَّرجمة أنَّ فيه نوع مناقشةٍ أيضاً، وقد مضى الحديث مطولاً في «الزَّكاة»، في «باب الصَّدقة قبل الرَّد» [خ¦1413].
          (قَالَ الأَعْمَشُ) سليمان هو موصولٌ بالسَّند المذكور، وقد أخرجه مسلمٌ من رواية أبي معاوية عن الأعمش كذلك (حَدَّثَنِي) بالإفراد (عَمْرٌو) بفتح العين، وهو: ابن مرَّة، وصرَّح به في رواية عيسى بن يونس (عَنْ خَيْثَمَةَ) ابن عبد الرَّحمن (عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ) ☺، وسقط في رواية أبي ذرٍّ: <ابن حاتم> أنَّه (قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلعم : اتَّقُوا النَّارَ ثُمَّ أَعْرَضَ) أي: عن النَّار لمَّا ذكرها كأنَّه ينظر إليها (وَأَشَاحَ) بهمزة مفتوحة فشين معجمة وبعد الألف حاء مهملة؛ أي: أظهر الحذرَ منها. قال الخليل: أشاح بوجهه عن الشَّيء: نحَّاه عنه، وقال الفرَّاء: المُشِيح: الحذر والمجد في الأمر والمقبل في خطابه.
          قال الحافظ العَسقلاني: فيصحُّ أحد هذه المعاني أو كلِّها؛ أي: حَذِرَ النَّار كأنَّه ينظر إليها أو جدَّ على الوصيَّة باتِّقائها، أو أقبل على أصحابهِ في خطابه بعد أن أعرضَ عن النَّار لمّا ذكرها.
          وحكى ابن التِّين: أنَّ معنى أشاحَ: صدَّ وانكسَ، وقيل: صرفَ وجهه كالخائف أن تنالُه.
          قال الحافظ العسقلانيُّ: والأوَّل أوجه؛ / لأنَّه قد حصل من قوله «أعرض»، ووقع في رواية أبي معاوية في أوَّله: ذكر رسول الله صلعم النَّار فأعرض وأشاح حتَّى ظنَّنا أنَّه كان ينظر إليها. وكذا أخرجه الإسماعيليُّ من رواية جرير عن الأعمش، قال ابن هُبَيرة: ورواية أبي جمرة في الحديث أنَّ الله يكلِّم عباده المؤمنين في الدَّار الآخرة بغير واسطةٍ.
          (ثُمَّ قَالَ: اتَّقُوا النَّارَ ثُمَّ أَعْرَضَ وَأَشَاحَ ثَلاَثاً) أي: قال صلعم وفعله ثلاثاً (حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا) أي: إلى النَّار (ثُمَّ قَالَ: اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ) من كسب طيبٍ (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) ما يتصدَّق به (فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ) أي: بدفعه؛ أي: السَّائل بكلمةٍ تطيب قلبه، أو بالدَّلالة على هدى، أو بالصُّلح بين اثنين، أو فصل بين متنازعين، أو حل مشكلٍ، أو كشف غامضٍ، أو تسكين غضب، قاله ابن هُبَيرة.
          وعبارته: المراد بالكلمة الطَّيبة هنا ما يدلُّ على هدى، أو يردُّ ردى، أو يدفع ناراً، أو يسكِّن غضباً.
          وفي الحديث: الحثُّ على الصَّدقة. وقال ابنُ أبي جمرة: وفيه دليلٌ على قبول الصَّدقة ولو قلَّت، وقد قيَّدت في الحديث الآخر بالكسب الطَّيب، وفيه إشارةٌ إلى ترك احتقارِ القليل من الصَّدقة وغيرها. وفيه حجَّةٌ لأهل الزُّهد حيث قالوا: الملتفت هالكٌ يُؤخذُ من أنَّ نظر المذكور عن يمينه وشماله فيه صورة الالتفات، وكذا لمَّا نظرَ أمامه استقبلته النَّار.
          وفيه دليلٌ على قرب النَّار من أهل الموقف، وقد أخرج البيهقيُّ في «الشعب (1)» من مرسل عبد الله بن باباه بسندٍ رجاله ثقاتٌ رفعه: ((كأنِّي أراكُم بالكَوْم جُثَاً من دون جهنَّم)).
          وقوله: ((جُثاً)) بضم الجيم بعدها مثلثة مقصور جمع: جاثي. والكَوْم _بفتح الكاف وسكون الواو_ المكان العالي الَّذي تكون عليه أمَّة محمَّد صلعم كما ثبتَ في حديث كعب بن مالكٍ ☺ عند مسلمٍ: أنَّهم يكونون يوم القيامة على تلٍّ عال.
          وفيه: أنَّ احتجاب الله تعالى عن عباده ليس بحائلٍ حسِّيٍّ، بل بأمرٍ معنويٍّ يتعلَّق بقدرته سبحانه وتعالى، يؤخذ من قوله: ((ثمَّ ينظرُ فلا يرى قدَّامه شيئاً)). / ثمَّ إنَّه ذكر رواية الأعمش أولاً عن خيثمة بلا واسطةٍ، ثمَّ ذكر روايته ثانياً بالواسطة.


[1] كذا في المخطوط، والصواب: البعث. كما في فتح الباري