نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك

          6537- (حَدَّثَنِي) بالإفراد (إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ) الكوسج المروزي، قال: (حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ) بن العلاء بن حسان القيسي، أبو محمَّد البصري، قال: (حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ أَبِي صَغِيرَةَ) بالحاء المهملة بعدها ألف ففوقية، وصَغِيرة: بفتح المهملة وكسر الغين المعجمة، وكنية حاتم: أبو يونس، واسم أبي صغيرة: مسلم بن يونس، وهو جدُّه لأمِّه، وقيل: زوج أمِّه.
          قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ) هو: عبدُ الله بن عبيد الله بن أبي مُليكة بن عبد الله بن جُدعان، يقال: اسم أبي مُليكة: زهير، التَّيمي المدني، أدرك ثلاثين من الصَّحابة، قال: (حَدَّثَنِي) بالإفراد (الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ) هو: ابنُ أبي بكرٍ الصِّديق ☺. قال: (حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ) ♦: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلعم ، قَالَ: لَيْسَ أَحَدٌ يُحَاسَبُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلاَّ هَلَكَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَيْسَ قَدْ قَالَ اللَّهُ) في كتابه العزيز ({فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ}) كتاب عمله ({بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} [الانشقاق:7-8]) أي: سهلاً من غير تعسيرٍ؛ أي: لا يحقِّق عليه جميع دقائق أعماله.
          تقدَّم في «تفسير سورة الانشقاق» [خ¦4939] من رواية يحيى القطَّان عن أبي يونس بلفظ: ((فقلت: يا رسول الله! جعلني الله فداءك أليس يقول الله تعالى)).
          (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلعم : إِنَّمَا ذَلِكِ) وفي رواية أبي ذرٍّ: <ذاكِ> بإسقاط اللام وكسر الكاف فيهما؛ أي: المذكور في الآية (الْعَرْضُ، وَلَيْسَ أَحَدٌ يُنَاقَشُ الْحِسَابَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلاَّ عُذِّبَ) وفي رواية القطَّان قال: ((ذلك العرضُ يعرضون، ومن نوقشَ الحساب هلك)) [خ¦4939].
          وقوله: «هلك» و«عُذِّب» يرجعان إلى معنًى واحد؛ لأنَّ المراد بالمحاسبة: تقرير الذُّنوب، فيستلزمُ المناقشة، ومن عُذِّب فقد هلك.
          وقال القرطبيُّ: قوله: ((حُوسب)) أي: حساب استقصاء، وقوله: ((عُذِّب)) أي: في النَّار جزاءً على السَّيئات التي أظهرها حسابه، / وقوله: ((هلك)) أي: بالعذاب في النَّار. قال: وتمسَّكت عائشة ♦ بظاهر لفظ الحساب؛ لأنَّه يتناولُ القليل والكثير، وقال القرطبيُّ: معنى قوله: ((إنَّما ذلك العرض)) أنَّ الحساب المذكور في الآية إنَّما هو أن تُعرضَ أعمالُ المؤمن عليه حتَّى يعرفَ مِنَّة الله تعالى عليه في سترها عليه في الدُّنيا، وفي عفوه عنها في الآخرة، كما في حديث ابن عمر ☻ في النَّجوى [خ¦2441].
          وقال القاضي عياض: قوله: «عُذِّب» له معنيان:
          أحدهما: أنَّ نفسَ مناقشة الحساب وعرض الذُّنوب والتَّوقيف على قبيحِ ما سلف، والتَّوبيخ تعذيبٌ.
          والثَّاني: أنَّه يفضي إلى استحقاق العذاب، إذ لا حسنةَ للعبد إلَّا من عند الله؛ لإقداره عليها، وتفضُّله عليه بها، وهدايته لها، ولأنَّ الخالصَ لوجهه قليلٌ. ويؤيِّد هذا الثَّاني قوله في الرِّواية الأخرى: ((هلك)).
          وقال النَّووي: التَّأويل الثَّاني هو الصَّحيح؛ لأنَّ التَّقصير غالبٌ على النَّاس، فمن استُقصى عليه ولم يُسامح هلك، وتعقَّب الأوَّل بأنَّ قوله: ((من نُوقش الحساب عُذِّب)) لا يدلُّ على أنَّ المناقشة والحساب نفسهما عذابٌ، بل المعهود خلافه، فإنَّ الجزاء لابدَّ أن يكون مسبَّباً عن الشَّرط.
          وأُجيب: بأنَّ التَّألم الحاصل للنَّفس بمطالبة الحساب غير الحساب ومسبَّب عنه، فجاز أن يكون بذلك الاعتبار جزاء.
          هذا وقيل في وجه المعارضة: أنَّ لفظ الحديث عامٌّ في تعذيب كلِّ من حُوسب، ولفظ الآية دالٌّ على أنَّ بعضَهم لا يعذَّب.
          وأُجيب: بأنَّ المراد بالحساب في الآية العرضُ وهو إبرازُ الأعمال وإظهارها؛ ليُعرَّف صاحبها بذنوبه ثمَّ يتجاوز عنها. ويؤيِّده: ما وقع عند البزَّار والطَّبري من طريق عبَّاد بن عبد الله بن الزُّبير: سمعتُ عائشة ♦ تقول: سألتُ رسول الله صلعم عن الحساب اليسير، قال: ((الرَّجل تُعرضُ عليه ذنوبه، ثمَّ يتجاوزُ له عنها)).
          وفي حديث أبي ذرٍّ عند مسلم: ((يُؤتى بالرَّجل يوم القيامة، فيقال: اعرضوا عليه صغارَ ذنوبه...)) / الحديث، وفي حديث جابرٍ ☺ عند ابن أبي حاتم: ((من زادت حسناتُه على سيئاته فذاك الَّذي يدخل الجنَّة بغير حسابٍ، ومن استوت حسناته وسيِّئاته، فذاك الَّذي يُحاسب حساباً يسيراً، ثمَّ يدخل الجنَّة، ومن زادت سيِّئاته على حسناته فهو الَّذي أوبقَ نفسه، وإنَّما الشَّفاعة في مثله)). ويدخل في هذا حديث ابن عمر ☻ في النَّجوى، وقد أخرجه المصنِّف في «كتاب المظالم» [خ¦2441]، وفي «تفسير سورة هود» [خ¦2441]، وفي «التَّوحيد» [خ¦7514]، وفيه: ((يدنو أحدكم من ربِّه حتَّى يضع كنفه عليه، فيقول: أعملتَ كذا وكذا؟ فيقول: نعم فيقرِّره، ثمَّ يقول: إنِّي سترتُ عليك في الدُّنيا فأغفرها لك اليوم)).
          وجاء في كيفيَّة العرض ما أخرجه التِّرمذي من رواية عليِّ بن علي الرِّفاعي عن الحسن عن أبي هريرة ☺ رفعه: ((يعرضُ النَّاس يوم القيامة ثلاثَ عرضاتٍ؛ فأمَّا عرضان فجدالٌ ومعاذير، وعند ذلك تطير الصُّحف في الأيدي، فآخذٌ بيمينهِ وآخذٌ بشماله)). قال التِّرمذي: لا يصحُّ؛ لأنَّ الحسن لم يسمع من أبي هريرة، وقد رواه بعضُهم عن علي بن علي الرِّفاعي عن الحسن عن أبي موسى. انتهى.
          وهو عند ابنِ ماجه وأحمد من هذا الوجه مرفوعاً، وأخرجه البيهقيُّ في «الشعب» بسندٍ حسنٍ عن عبد الله بن مسعودٍ ☺ مرفوعاً. قال التِّرمذي الحكيم: الجدال للكفَّار؛ لأنَّهم لا يعرفون ربهم، فيظنُّون أنَّهم إذا جادلوا نجوا، والمعاذير: اعتذارُ الله تعالى إلى آدم وأنبيائه بإقامة الحجَّة على أعدائه، والثَّالثة: للمؤمنين وهو العرض الأكبر.
          تنبيه: وقع في روايةٍ لابن مَرْدويه عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ♦ مرفوعاً: ((لا يُحاسَب رجلٌ مؤمنٌ يوم القيامة إلَّا دخل الجنَّة)) وظاهرهُ يعارض حديثها المذكور في الباب.
          وطريق الجمع بينهما: أنَّ الحديثين معاً في حقِّ المؤمن، ولا منافاة بين التَّعذيب ودخول الجنَّة؛ لأنَّ الموحِّد وإن قُضيَ عليه بالتَّعذيب، فإنَّه لا بدَّ أن يخرجَ من النَّار بالشَّفاعة، أو بعموم الرَّاحة.
          ومطابقته للتَّرجمة / ظاهرةٌ.