التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الدعاء برفع الوبأ والوجع

          ░43▒ بابُ الدُّعَاءِ بِرَفْعِ الوَبَاءِ والوَجَعِ.
          6372- ذكر فيه حديث عائِشَةَ ♦ قالت: قال النَّبيُّ صلعم: (اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا المَدِينَةَ كَمَا حَبَّبْتَ إِلَيْنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ، وَانْقُلْ حُمَّاهَا إِلَى الجُحْفَةِ، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي مُدِّنَا وَصَاعِنَا).
          6373- وحديث سعد: (عَادَنِي رَسُولُ اللهِ صلعم مِنْ شَكْوَى أَشْفَيْتُ مِنْهُ عَلَى المَوْتِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، بَلَغَ بِي مَا تَرَى مِنَ الوَجَعِ، وَأَنَا ذُو مَالٍ..) الحديثَ.
          وقد سلف غير مرَّةٍ [خ¦56] [خ¦1295]، ولم يذكر هنا دعاءَه برفع الوجع، وسلف في المرضى في باب: دعاء العائد للمريض، وقال فيه: ((اللَّهُمَّ اشْفِ سَعْدًا)) [خ¦5675].
          وفي دعائه صلعم برفع الوباء والوجع ردٌّ على مَن زَعَم أنَّ الوليَّ لا يكره شيئًا ممَّا قضى الله عليه ولا يسألهُ كشفَهُ عنه، ومَن فعل ذلك لم تصحَّ له ولايةُ الله، ولا خفاءَ بسقوط هذا لأنَّهُ صلعم قال: ((اللَّهُمَّ حبِّب إلينا المدينةَ وانقل حُمَّاها)) فدعا بنقلها عن المدينة ومَن فيها وهو داخلٌ في تلك الدعوة، ولا توكُّلُ أحدٍ يبلُغُ توكُّلَهُ، فلا معنى لقولهم، وقد سلف مستقصًى في الحجِّ [خ¦1889].
          فَصْلٌ: (الوباء): مهموز يُمدُّ ويُقصر، فجمعُ المقصور: أوباءٌ، والممدود: أوبئةٌ، ولَمَّا دعا بنقلها إلى الجُحْفَة لم تزل مِن يومئذٍ أكثر بلاد الله حُمًّى، وإنَّه يُتَّقى شربُ الماء مِن عينِها التي يُقال لها: عين حُمَّ، وقلَّ مَن شرِبَ منها إلَّا حُمَّ.
          وقيل: إنَّ أهل الجُحْفَة كانوا مشركين يوم دعا بنقل الحُمَّى إليهم.
          فَصْلٌ: وقوله: (فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ) هو الصَّواب، وغلط ابن عُيَينة حيث قال: كان ذلك / يوم الفتح. و(أَشْفَيْتُ): قاربتُ الموت.
          وقوله: (بَلَغَ بِي مِنَ الوَجَعِ مَا تَرَى) ولم ينكره عليه، ففيه ذكرُ المرء لِما نزل به إذا لم يُرِد الشكوى، وكان المقولُ له ممَّن تُرجى بركةُ دعائه، وقد قال ◙: ((وا رأساه)) وقال أيُّوبُ ◙: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} [الأنبياء:83].
          وقوله: (أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ: لاَ) احتجَّ به أهل الظاهر أنَّ مَن أوصى بأكثر مِن ثُلُثه لا يجوزُ وإن أجازه الوارث، قالوا: ولم يقل: إن أجاز ورثتك جازَ.
          وقوله: (الثُّلُثُ كَثِيرٌ) وقال ابن عبَّاسٍ: لو غضَّ النَّاسُ مِن الثُلُث إلى الرُّبُع فإنَّ رسول الله صلعم قال: (الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ) وبه قال سُحنُونُ، وقال جماعةٌ: الخُمُس.
          (والعَالَةُ): الفقراء أو الفاقة، والمعنى: ذوي فاقةٍ، و(يَتَكَفَّفُونَ): يسألون بأكفِّهم.
          وقوله: (أُخَلَّفُ بَعْدَ أَصْحَابِي؟) قيل معناه: بمكَّةَ، يبقى بعدهم لِمَا به مِن الوجع، وقيل: لَمَّا قال له: (لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً) فُهم عنه أنَّه لا يموتَ مِن مرضه فأجابه وهو: (إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ) إلى آخره.
          وقوله: (حَتَّى يَنْتَفِعَ بِكَ أَقْوَامٌ وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ) قيل: هُم مَن قتلوهم إذ لم يُسلموا، وقيل: إنَّ عُبَيد الله أمَّرَ عُمَرَ بن سعدٍ ولدَهُ على الجيش الذين لقوا الحسينَ فقتلوه بأرض كربلاءَ.
          وقوله: (لَكِنِ البَائِسُ سَعْدُ ابْنُ خَوْلَةَ) قيل: هو مرفوعٌ، وقيل: مِن قول الراوي.
          و(البائسُ): مَن أصابَهُ البؤس.
          وقول سعدٍ: (رَثَى لَهُ رَسُولُ اللهِ صلعم أَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ) كذا هو هنا مبيَّنٌ أنَّه مِن قول سعدٍ، وقالت جماعةٌ: هو مِن قول الزُّهريِّ.
          وقد قال ابن مُزْيَنٍ: إنَّما رَثَى له لأنَّه أسلم وأقام بمكَّةَ ولم يُهَاجر، وأُنكر ذلك عليه لأنَّه معدودٌ عند أهل الحديث فيمن شهد بدرًا، كما ذكره البخاريُّ وغيره.
          واختلفوا متى رجعَ إلى مكَّةَ؟ فقيل: مات بها في حَجَّةِ الوَدَاعِ، وإنَّما رثى له لأنَّه قال: ((كلُّ مَن يهاجر مِن بلدِهِ يكون له ثوابُ الهجرة مِن الأرض التي هاجر منها إلى الأرض التي هاجر إليها إلى يوم القيامة)) فحُرِم ذلك لَمَّا مات بمكَّةَ، وقيل: رجع إلى مكَّةَ بعد شهوده بدرًا.
          وفي البخاريِّ فيما سلف: ((يرحم الله ابن عَفْراءَ)) [خ¦2742]. قيل: هذا هو الذي رثى له رسول الله صلعم.
          وقال الدَّاوديُّ: لم يكن للمهاجرين الأوَّلين أن يقيموا بمكَّةَ حياةَ رسول الله صلعم إلَّا ثلاثةَ أيَّامٍ بعد الصَّدَرِ، فدلَّ ذلك أنَّ سعدَ بن خَوْلةَ توفِّي قبل تلك الحجَّة، وقد أطال المقام بها بغير عُذرٍ، ولو كان له عُذْرٌ لم يأثم؛ لأنَّهُ قال حين قيل له: إنَّ صفيَّةَ حاضَتْ قال: ((أحابستُنَا هي؟)) وليس تلك الحَجَّةُ حَجَّةَ الوَدَاع. ومات سعدُ بنُ خَوْلةَ وكان بدريًّا، وإنَّما أقام أكثر مما أُبيح له مِن المقام. قال: وقد تحتمل هذه اللفظة أن يقولها رسول الله صلعم ثمَّ يحجَّ بعد ذلك، فقرنها المحدِّث بهذا الحديث لأنَّها مِن تكملتِهِ، انتهى كلامه.
          والمعروف أنَّه لم يحجَّ بعد أن هاجر إلَّا حجَّةً واحدةً، حجَّة الوداع.