التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب أفضل الاستغفار

          ░2▒ بابُ أَفْضَلِ الاسْتِغْفَارِ.
          وقوله تعالى: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} إلى قوله: {وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح:10- 12]، {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} الآية [آل عمران:135].
          6306- ثمَّ ساق حديث بُشَيْرِ بن كَعْبٍ العَدَوِيِّ عن شدَّاد بن أوسٍ ☺، أنَّ النَّبيَّ صلعم قال: (سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لاَ إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي إنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ قَالَ: مَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجنَّة، وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجنَّة).
          هذا الحديث أخرجه البخاريُّ عن أبي مَعْمَرٍ، حدَّثنا عبدُ الوارث: حدَّثَني الحسينُ _هو ابن ذَكْوَانَ_ حدَّثنا عبد الله بن بُرَيْدَة، عن بُشَيرٍ، عن شدَّادٍ به.
          وأخرجه التِّرْمِذيُّ مِن حديث الحسين بن حُرَيثٍ، عن عبد العزيز بن أبي حازمٍ، عن كثيرِ بن زيدٍ، عن عُثمانَ بن ربيعةَ، عن شدَّادٍ به، ثمَّ قال: حسنٌ غريبٌ مِن هذا الوجه.
          وأخرجه النَّسائيُّ مِن حديث حمَّاد بن سَلَمَة، عن ثابتٍ وأبي العوَّام، عن بُرَيْدَة، أنَّ ناسًا من أهل الكوفة كانوا في سفرٍ ومعهم شدَّادٌ، فذكره.
          وعند أبي داودَ والنَّسائيِّ رواه الوليدُ بن ثَعْلَبَةَ الطَّائيُّ، عن عبد الله بن بُرَيْدَة، عن أبيه قوله.
          وأخرجه أبو نُعَيْمٍ في «عمل يومٍ وليلةٍ» عن عليِّ بن هَارُونَ، حدَّثنا موسى بن هَارُونَ، حدَّثنا عليُّ بن حربٍ، حدَّثنا زيدُ بن الحُبابِ، حدَّثنا كَثِيرُ بن زيدٍ، عن المغيرة بن شُعْبَةَ، عن شدَّادٍ أنَّه صلعم قال له: ((يا شدَّادُ، أَلَا أدَّلُك على سيِّد الاسْتِغْفَارِ)). الحديث.
          ثمَّ قال: رواه الحسينُ بن ذَكْوَانَ عن ابن بُرَيْدَة عن بُشَيرٍ، ورواه محمَّد بن حبيبٍ عن السَّريِّ عن يحيى عن هِشَامٍ عن أبي الزُّهَيرِ، عن جابرٍ، عن رسول الله صلعم مثلَهُ.
          قال: والاستغفار يكفِّرُ الذُّنوبَ التي لا تُوجِب على مرتكبها حُكمًا في نفسٍ ولا مالٍ، وإن كان ذنبُهُ مِن الكبائر، وأمَّا مَن أوجبَ عليه في نفسه وماله حُكمًا لارتكابه ذلك الذَّنب، فالاستغفار لا يُجزئه مِن دون إقامة ذلك الحُكم والخروج منه لأنَّ قوله ◙: ((مَن قال: أستغفِرُ الله الذي لا إله إلا هو الحيُّ القيوم وأتوب إليه، غُفرت ذنوبُهُ وإن كان فرَّ مِن الزَّحف))، لأنَّ الفرار منه وإن كان مِن الكبائر فهو مِن الذُّنوب التي لا تُوجِبُ على مرتكبه حكمًا في نفسٍ ولا مالٍ، ولله أن يعفو ويصفح عن كلِّ ذنبٍ دون الشِّرك للآية الكريمة.
          فَصْلٌ: والمِدْرَارُ في الآية: المطرُ، أي: مُدِرٌّ ماءَ المطر، والآية الثانية رُوي عن عليٍّ ☺: كنتُ إذا سمعتُ مِن رسول الله صلعم حديثًا نفعني الله منه بما شاء أن ينفعني، وإذا حدَّثني رجلٌ مِن أصحابه استحلفْتُهُ، فإذا حلَفَ لي صدَّقته، فحدَّثني أبو بكرٍ ☺ _وصَدَقَ أبو بكرٍ_ قال: سمعتُ النَّبيَّ صلعم يقول: ((ما مِن رجلٍ يُذنب ذنبًا ثمَّ يقومُ فَيَتَطهَّرُ فيُحْسُنُ الطُّهُورَ ثمَّ يستغفرُ الله ╡ إلَّا غَفَرَ اللهُ له)) ثمَّ تَلَا هذه الآية.
          ومعنى: {لَمْ يُصِرُّوا} [آل عمران:135]: لم يمضوا، قاله مُجَاهدٌ، والمعروف أصرَّ إذا دامَ، وفي الحديث: ((ما أصرَّ مَن استغفرَ ولو عاد في اليوم سبعين مرَّةً))، وقيل: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ}: أي: يعلمون أنَّهُم إن تابوا تاب الله عليهم.
          فَصْلٌ: وقوله: (سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ): أي: أفضلهُ وأعظمهُ نفعًا لأنَّ فيه الإقرار بالألوهيَّةِ والعبوديَّةِ، وأنَّ الله خالقٌ، وأنَّ العبد مخلوقٌ.
          وقوله: (وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ) يعني: العَهْدُ الذي أخذَهُ الله على عباده في / أصل خَلْقهم حين أخرجهم مِن أصلاب آبائهم أمثال الذَّرِّ، وأشهدهم على أنفسهم: ألستُ بربِّكم؟! قالوا: بلى. فأقرُّوا له في أصل خلقهم بالربوبيَّةِ وأذعنوا له بالوحدانيَّةِ.
          والوعد: ما وعدَهم أنَّه مَن مات منهم لا يشرك بالله شيئًا وأدَّى ما افترض الله عليه أن يُدْخله الجنَّةَ.
          فينبغي لكلِّ مؤمنٍ أن يدعو الله ╡ أن يُميته على ذلك العهد، وأن يتوفَّاهُ على الإيمان لينال ما وعد ╡ مَن وَفَّى بذلك اقتداءً بالشارع في دعائه بذلك، ومثلُ ذلك سأل الأنبياء ربَّهم في دعائهم فقال إبراهيم: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم:35]، وقال يُوْسُفُ: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف:101]، وقال أيضًا نبيُّنا عليه وعليهم أفضل الصَّلاة والسَّلام: ((وإذا أردتُ بقومٍ فتنةً فاقبضني إليك غير مَفْتُونٍ)).
          وأعلَمَ صلعم أمَّتَهُ بقوله: (أَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ) أنَّ أحدًا لا يقدر على الإتيان بجميع ما عاهدَ الله عليه، ولا الوفاء بكمال الطاعات والشُّكر على النعم، إذ نعمُهُ تعالى كثيرةٌ ولا يُحاط بها، أَلَا ترى قوله: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان:20] فمن يقدِرُ مع هذا أن يؤدِّي شكرَ النِّعمةِ الظاهرةِ، فكيف الباطنةِ! لكن قد رفق الله بعباده فلم يكلِّفهم مِن ذلك إلَّا وسْعَهُم، وتجاوزَ عمَّا فوق ذلك، وكان صلعم يمتثلُ هذا المعنى في مبايعتِهِ للمؤمنين فيقول: ((أَنَا مَعَكُم على السَّمعِ والطَّاعةِ فيما استطعتم)).
          قال ابن التِّين: يريد: أنا على ما عاهدتك عليه، وواعدتك مِن الإيمان بكَ، وإخلاصِ الطاعة لك ما استطعت مِن ذلك، وقد يكون معناه: إنِّي مقيمٌ على ما عهدتَ إليَّ مِن أمرك، ومتمسِّكٌ بك ومنتجِزٌ وعدَك في المثوبة والأجر عليه، واشتراطه في ذلك الاستطاعة معناه: الاعترافُ بالعجز والقصور عن كُنْهِ الواجب مِن حقِّه تعالى.
          وقال الدَّاوديُّ: عَهْدُ اللهِ الإسلامُ، ووعدهُ الإقرار بالجزاء يوم الدِّين.
          وقوله: (مَا اسْتَطَعْتُ) أي: مِن قولٍ أو عملٍ.
          فَصْلٌ: فإن قلت: أين لفظ الاستغفار في هذا الدُّعاء، وقد سمَّاه الشَّارع سيِّدَ الاستغفار؟ قيل: الاستغفار في لسان العرب: هو طلبُ المغفرة مِن الله تعالى وسؤالُه غُفْران الذُّنوب السَّالفة والاعترافُ بها، وكلُّ دعاءٍ كان فيه هذا المعنى فهو استغفارٌ، مع أنَّ في الحديث لفظ الاستغفار وهو قوله: (فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ).
          فَصْلٌ: معنى: (أَبُوءُ) أقرِّ بنِعْمَتِك وأُلْزِمُها نفسي، وأصلُ البَوَاءِ: اللُّزُوم، يُقال: أباءَ الإمامُ فلانًا بفلانٍ إذا ألزمَهُ دمَه وقتَلَه به، وفلان بوَّاءٌ لفلانٍ إذا قُتل به، وهو كقوله: بوَّأَهُ الله منزلًا، أي: ألزمَهُ اللهُ إيَّاهُ وأسكنَهُ إيَّاهُ. وعبارةُ صَاحِب «الأفعال»: باءَ بالذَّنْبِ: أقرَّ أي: أقرَّ بالنِّعْمَةِ والاستغفار مِن الذَّنْبِ، وقيل: (أَبُوءُ بِذَنْبِيْ) أي: أحمله كرهًا لا أستطيع صرفَه عن نفسي، ومنه {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} [البقرة:90].
          فصل: (مَنْ قَالَهَا مُوقِنًا بِهَا..) إلى آخره، يعني: مُخلصًا مِن قلبه ومصدِّقًا بثوابها فهو مِن أهل الجنَّة، وهذا كقوله ◙: ((مَن قام رمضانَ إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدَّمَ مِن ذنبه)) وقال الدَّاوديُّ: هذا يحتمل أن يكون مِن قوله: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] وعادته التبشيرُ بالشيء، ثمَّ بأفضلَ منه لا بأقلَّ مع ارتفاع الأوَّل، ويحتمل أن يكون ذلك ناسخًا، وأن يكون فيمن قاله ومات قبل فعْل ما يغفر له به ذنوبهُ.