التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب فضل ذكر الله ╡

          ░66▒ بابُ فَضْلِ ذِكْرِ اللهِ تَعَالى.
          6407- ذكر فيه حديث أبي مُوسَى ☺ قال: قال رسول الله صلعم: (مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لاَ يَذْكُرُه، / مَثَلُ الحَيِّ وَالمَيِّتِ).
          6408- وحديث جريرٍ، عن الأعمشِ، عن أبي صالحٍ، عن أبي هُرَيْرَةَ ☺ قال: قال رسول الله صلعم: (إِنَّ لِلَّهِ مَلاَئِكَةً يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ، فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللهَ تَنَادَوْا: هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ..) الحديثَ. وفي آخره: (هُمُ الجُلَسَاءُ لاَ يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ) بطوله. ثمَّ قال: رواه شُعْبَةُ، عن الأَعْمشِ، ولم يَرْفَعْهُ. ورواهُ سهيلٌ بن أبي صالحٍ، عن أبيه، عن أبي هُرَيْرَةَ ☺، عن النَّبيِّ صلعم.
          هذا حديثٌ شريفٌ في فَضْلِ ذِكر الله تعالى وتسبيحه وتهليله، وقد وردت في ذلك أخبارٌ كثيرةٌ منها: ما رواه زيدُ بن أسلَمَ عن ابن عُمَرَ ☻ قال: قلت لأبي ذرٍّ: يا عمُّ، أوصني، قال: سألت رسول الله صلعم كما سألتني فقال: ((ما مِن يومٍ ولا ليلةٍ إلَّا وللهِ فيه صدقةٌ يمنُّ بها على مَن يشاء مِن عبادهِ، وما مَنَّ الله على عباده بمثلِ أن يُلهمهم ذكرَهُ)).
          وروى شُعْبَة وسُفْيَانُ عن أبي إسحاقَ، عن أبي مسلمٍ الأغرِّ أنَّه شهدَ على أبي هُرَيْرَةَ ☺ وأبي سعيدٍ أنَّهما شهدا على رسول الله صلعم أنَّه قال: ((ما مِن قومٍ يذكرون الله إلَّا حفَّت بهم الملائكةُ وغشيتهم الرَّحمةُ، ونزلت عليهم السَّكينةُ، وذكرَهُم اللهُ فيمن عنده)).
          وقال معاذٌ ☺: ليس شيءٌ أنجى مِن عذاب الله مِن ذِكْر الله.
          وقال ابن عبَّاسٍ ☻ يرفع الحديث: ((مَن عَجَز منكم عن اللَّيل أن يُكابده، وبَخِل بالمال أن ينفقَهُ، وجَبُنَ عن العدوِّ أن يجاهده فليُكْثِر مِن ذِكْر الله)).
          وروى أبو سَلَمَةَ، عن أبي هُرَيْرَةَ ☺ قال: قال رسول الله صلعم: ((سيروا، سبَقَ المستهتَرُون. قيل: مَن هُم يا رسول الله؟، قال: الذين استُهتِروا، واستهتروا بذكرِ الله، يضَعُ الذِّكْرُ عنهم أثقالَهم ويأتون يوم القيامة خِفَافًا)).
          وروى أبو هُرَيرةَ ☺، عن رسول الله صلعم: ((ما جلس قومٌ مجلسًا لم يذكروا الله تعالى فيه، ولم يُصَلُّوا على نبيِّهِم صلعم إلَّا كان عليهم تِرَةً، فإن شاء عذَّبَهم وإن شاء غَفَرَ لهم)) رواه التِّرْمِذيُّ وحسَّنه، والحاكم وقال: صحيحٌ على شرط البخاريِّ.
          تِرَة _بكسر التاء المثنَّاةِ: فوق، وتخفيف الراء_ نقصٌ، أو تَبِعةٌ، أو حَسْرةٌ.
          وعن جابرٍ ☺ رفعه: ((ارتعوا في رياض الجنَّة، قالوا: يا رسول الله، وما رياض الجنَّة؟ قال: مجالس الذِّكْر، فاغدُوا وروحُوا في ذِكر الله، واذكروه في أنفسكم، مَن أحبَّ أن يعلم منزلتَهُ عند الله فلينظر كيف منزلةُ الله عنده، إنَّ الله يُنزل العبد مِن نفسِهِ حيث أنزلَهُ مِن نفسِهِ)).
          وروى الأعمشُ، عن سالمِ بن أبي الجَعْدِ قال: قيل لأبي الدَّرداء: إنَّ رجلًا أعتق مئةَ نسمةٍ. قال: إنَّ ذلك مِن مالٍ لكثيرٌ، وأفضلُ مِن ذلك إيمانٌ ملزومٌ بالليل والنهار، ولا يزال لسانُ أحدِكم رطبًا مِن ذِكْر الله.
          وعن ابن عبَّاسٍ ☻ قال: سأل موسى صلعم ربَّه ╡ فقال: ربِّ أيُّ عبادك أحبُّ إليك؟ قال: الذي يذكرُني ولا ينساني.
          ثمَّ قال ابن عبَّاسٍ: ما جلسَ قومٌ في بيتٍ مِن بيوت الله يذكرون الله إلَّا كانوا أضيافًا لله ما داموا فيه، حتَّى يتصعَّدوا عليه، وأظلَّتهم الملائكةُ بأجنحتها ما داموا فيه. ذكر هذه الآثارَ كلَّها الطَّبَرِيُّ في «آداب النفوس».
          وفقهُ الباب: أنَّ معنى أمرِ الله تعالى المتعبِّدَ بذكره، وترغيبه فيه ليكون ذلك سببًا لمغفرته له ورحمته إيَّاهُ، لقوله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152] وذكرُ اللهِ العبدَ رحمةٌ له. قال ثابت البُنَانيُّ: قال أبو عثمان النَّهْدِيُّ: إنِّي لأعلمُ السَّاعةَ التي يذكرني اللهُ فيها. قيل: ومِن أين تعلمُهَا؟ قال: يقول الله: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ}.
          وقال السُّدِّيُّ: ليس مِن عبدٍ يذكر الله إلَّا ذكرَهُ، لا يذكرهُ مؤمِنٌ إلَّا ذكرَهُ الله برحمته، ولا كافرٌ إلَّا ذكرَهُ بعذابٍ. ورُوي معناه عن ابن عبَّاسٍ ☻.
          وقيل: المعنى: اذكروا نعمتي عليكم شكرًا أذكركم برحمتي، والزيادة مِن النِّعَم.
          ورُوي عن عُمَرَ بن الخطَّاب ☺ أنَّ الذِّكْر ذِكْران: ذِكْرُ الله عند أوامره ونواهيه، وباللِّسان، وكلاهما فيه الأجرُ، إلَّا أنَّ ذِكْر الله تعالى عند أوامره ونواهيه إذا فعل الذَّاكرُ ما أُمر به وانتهى عمَّا نُهي عنه، أفضلُ مِن ذكره باللسان مع مخالفة أمره ونهيه، والفضل كلُّه والشرفُ والأجرُ في اجتماعهما مِن الإنسان، وهو أن لا ينسى ذِكْر الله تعالى عند أمره ونهيه فينتهي، ولا ينساه مِن ذِكْرِهِ بلسانه. وسيأتي في كتاب الرِّقاق في باب: مَن همَّ بحسنةٍ أو سيئةٍ، هل تَكتب الحَفَظَةُ الذِكْر بالقلب؟ [خ¦6491] وما للسلف فيه، وسيأتي في الاعتصام في باب: قوله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:28] حديث أبي هُرَيْرَةَ ☺ عن رسول الله صلعم: ((إذا ذكرني عبدي في نفسِهِ ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأٍ ذكرتُه في ملأٍ خيرٍ منه)) الحديثَ [خ¦7405].
          قال الطَّبَرِيُّ: ومِن جسيمِ ما يُرجِّي به العبدُ الوصولَ إلى رضا ربِّه تعالى ذِكْرهُ إيَّاهُ بقلبه، فإنَّ ذلك مِن شريف أعماله عندي لحديث أبي هُرَيْرَةَ ☺.
          فإن قلت: فهل مِن أحوال العبدِ حالٌ يجب عليه فيها ذكر الله فرضًا بقلبه؟
          قيل: نعم، هي أحوالٌ أداءُ فرائضه مِن صلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ وحجٍّ، وسائر الفرائض، فإنَّ على كلِّ مَن لزمه عملُ شيءٍ مِن ذلك أن يكون عند دخولِهِ في كلِّ ما كان مِن ذلك له تطاولٌ وابتداءٌ بأوَّلٍ وانقضاءٌ بآخرَ أن يتوجَّهَ إلى الله بعمله، ويذكره في حال ابتدائه فيه، وما لم يكن له تطاولٌ منه فعليه توجُّهُه إلى الله بقلبه في حال عمله وذكره ما كان مشتغلًا به، وما كان نفلًا وتطوُّعًا فإنَّه وإن لم يكن فرضًا عليه فلا ينتفع به عامله إن لم يُرِد به وجهَ الله ولا ذَكَرَهُ عند ابتدائه فيهِ.
          فَصْلٌ: قوله: (تَعَالَوا: هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ) هذه لغةُ أهلِ نجدٍ، تُثنِّي وتَجمع، وتقول للنِّساء: هَلُمُّنَّ، وللواحد: هَلُمَّ، ولغة أهل الحجاز يستوي فيها المذكَّرُ والمؤنَّثُ والواحدُ والجمعُ، قال الله تعالى: {هَلُمَّ إِلَيْنَا} [الأحزاب:18] قال الخليل: أصلُهُ: (لُمَّا) مِن قولهم: لمَّ الله شعثَهُ أي: جمعَهُ، كأنَّهُ أراد: لمَّ نفسكَ إلينا أي: اقربْ، و (ها) / للتنبيه، وإنَّما حُذفت ألفُها لكثرة الاستعمال، وجُعلا اسمًا واحدًا.
          وقال ابن فارسٍ: أصلها (هل أمٌّ) كلامُ مَن يريد إتيان الطعام، ثمَّ كَثُرت حتَّى تكلَّم بها الدَّاعي مثل: تعال وحيَّ، كأنَّه يقولها مَن كان انتقل مِن مكانٍ إلى مكانٍ فوق. قال: ويحتمل أن يكون معناها: هل لك في الطعام أَمٌّ؟ أي: قَصْدٌ وإذنٌ.
          فَصْلٌ: قوله: (فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ) أي: يُطِيفونَ بهم، ويُقال: حفَّ به القومُ، أي: صاروا في الأَحْفَيةِ، ومنه: {الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ} [الزمر:75] ومنه: {وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ} [الكهف:22].
          فَصْلٌ: استدلَّ به بعض الأشاعرةِ على المعتزلة أنَّ الله تعالى يجوز أن يُرى.