التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب قول النبي: اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت

          ░60▒ بابُ قَوْلِ النَّبيِّ صلعم: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ).
          6398- ذكر فيه حديث شُعْبَةَ، عن أبي إسحاقَ، عن ابن أبي موسى، عن أبيه، عن النَّبيِّ صلعم أنَّه كان يَدْعُو بِهَذَا الدُّعاءِ: (رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي، وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي كُلِّهِ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطَايَايَ وَعَمْدِي وَجَهْلِي وَهَزْلِي، وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، أَنْتَ المُقَدِّمُ وَأَنْتَ المُؤَخِّرُ، وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
          وقال عبيدُ الله بن معاذٍ: حدَّثنا أبي، حدَّثنا شُعْبَةُ، عن أبي إسحاقَ، عن أبي بُرْدةَ بن أبي موسى، عن أبيه، عن النَّبيِّ صلعم.
          6399- ثمَّ ساق مِن حديث إسرائيلَ، حدَّثنا أبو إسحاقَ، عن أبي بكرِ بن أبي مُوسَى وأبي بُرْدة _أحسبُهُ_ عن أبي موسى الأشعرِيِّ، عن النَّبيِّ صلعم أنَّه كان يدعو: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي، وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي هَزْلِي وَجِدِّي وَخَطَايَايَ وَعَمْدِي، وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي).
          الشَّرح: ما ذكره عن عُبَيدِ الله يحتمل أن يكون البخاريُّ أخذه عنه في المذاكرة، و(عُبَيد الله) هذا هو عبيد الله بن معاذٍ العَنْبَرِيُّ أبو عَمْرٍو، وعنه مسلمٌ وأبو داودَ، وأخرج له البخاريُّ والنَّسائيُّ أيضًا، قال أبو داودَ: كان يحفظ نحو عشرة آلاف حديثٍ، وكان فصيحًا، مات سنة سبعٍ وثلاثين ومائتين، وليس في الكتب عُبَيد الله بن معاذٍ سواه، وزعم الإسماعيليُّ أنَّه سمِعَ مِن حفَّاظ الحديث مَن يقول: لم يسمع هذا الحديث أبو إسحاقَ مِن أبي بُرْدةَ، إنَّما سمعه مِن سعيد بن أبي بُرْدةَ.
          وقوله: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي) إلى آخره، أي: أنا متَّصِفٌ بهذه الأشياء، فاغفرها، قاله النَّوويُّ، قيل: إنَّه قاله تواضعًا وعدَّ على نفسه فواتَ الكمال ذنبًا، وقيل: أراد ما كان عن سهوٍ، وقيل: ما كان قبل النُّبوَّة، وعلى كلِّ حالٍ فهو مغفورٌ له ما تقدَّم مِن ذنبه وما تأخَّر، فدعا بهذا الدعاء وغيره تواضعًا لأنَّ الدَّعاء عبادةٌ، قال أهل اللُّغة: الإسرافُ: مجاوزة الحدِّ.
          قلتُ: وأظهرُ ممَّا ذكره أنَّه قاله تعليمًا لأُمَّتهِ.
          وقال الطَّبَرِيُّ: إن قلت: ما وجهُ دعائه صلعم ربَّهُ أن يغفر له خطيئته وجهله وما تقدَّم مِن ذنبه، وقد أعلمه اللهُ أنَّه قد غَفَر له ذلك كلَّه؟ فما وجه سؤاله ربَّه مغفرةَ ذنوبه، وهي مغفورةٌ، وهل يجوز _إن كان كذلك_ أن يسأل العبد ربَّه أن يجعله مِن بني آدمَ وهو منهم؟ وأن يجعل له يَدَيْن ورِجْلَين وقد جعلهما له؟ فالجواب أنَّه صلعم كان يسأل ربَّه في صلاته حين اقترب أجلُهُ وبعد أن نزل عليه {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1] / ناعيًا إليه نفسَهُ، فقال له: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:3] وكان صلعم يقول: ((إنِّي لأستغفرُ الله وأتوبُ إليه في اليوم سبعين مرَّةً)) فكان هذا مِن فعله في آخر عُمره، وبعد فتح مكَّةَ، وقد قال تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:2] باستغفارك منه فلم يسأل النَّبيُّ صلعم أن يغفرَ له ذنبًا قد غُفر له، وإنَّما غَفر له ذنبًا وعدَه مغفرةً له باستغفاره، وكذلك قال: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:3].
          قال غير الطَّبَرِيِّ: وقد اختلف العلماء في الذُّنوب، هل تجوز على الأنبياء ‰؟ فذهب الجمهور إلى أنَّهُ لا تجوز عليهم الكبائرُ لوجوب عصمتهم، وتجوز عليهم الصَّغائرُ.
          وذهبت المعتزلةُ إلى أنَّه لا تجوز عليهم الصَّغائر، كما لا تجوز عليهم الكبائر، وتأوَّلوا قوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:2] فقالوا: إنَّما غَفرَ له تعالى ما يقعُ منه ◙ من سهوٍ، وغفلةٍ، واجتهادٍ، في فعل خيرٍ لا يوافق به حقيقةَ ما عند ربِّه، فهذا هو الذي غُفر له. وسُمِّي ذنبًا لأنَّ صفته صِفةُ الذَّنبِ المنهيِّ عنه إلَّا أن ذلك تعمُّدٌ وهذا بغير قصدٍ، وهذا تأويلٌ بعيدٌ مِن الصَّواب، وذلك أنَّه لو كان السَّهو والغفلةُ ذنوبًا للأنبياء يجب عليهم الاستغفار منها لكانوا أسوأ حالًا مِن سائر النَّاس غيرهم لأنَّه قد وردت السُّنَّة المجتمَعُ عليها أنَّه لا يُؤاخذ العباد بالخطأ والنسيان، فلا يحتاجون إلى الاستغفار مِن ذلك، وما لم يوجب الاستغفار فلا يُسمَّى عند العرب ذنبًا، فالنَّبيُّ صلعم هو المخبرُ لنا بذلك عن ربِّه تعالى أَوْلى بأن يدخل مع أمَّته في معنى ذلك، ولا يلزمه حكمُ السَّهو والخطأ، وإنَّما يقع استغفاره صلعم كفَّارةً للصغائر الجائزة عليه، وهي التي سأل الله غفرانَها له بقوله: ((اغفر لي ما قدَّمتُ وما أخَّرت)) وستأتي هذه المسألة في حديث الشفاعة في باب قوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] في كتاب الاعتصام إن شاء الله لأنَّ الحديثَ يقتضي ذلك [خ¦7410].
          وفيها قولٌ آخرُ محتمل _والله أعلم_ أن يكون دعاؤه ليغفر الله له ذنبَه على وجه ملازمة الخضوع لله، واستصحاب حال العبودية، والاعتراف بالتقصير شكرًا لِمَا ولَّاهُ ربُّه ╡ ممَّا لا سبيل له إلى مكافأته بعملٍ، كما كان يصلِّي حتَّى تَرِم قدماه، فيُقال له: قد غفرَ الله لك ما تقدَّم مِن ذنبك وما تأخَّر، فيقول: ((أفلا أكون عبدًا شكورًا)).
          وكان اجتهاده في الدُّعاء والاعتراف بالزَّلل والتقصير والإقرار بالافتقار إلى الله شكرًا لربِّه، كما كان اجتهادُه حتَّى تَرِم قدماه شكرًا لربِّه، إذ الدُّعاء لله مِن أعظم العبادة، وليسُنَّ ذلك فيُستشعرَ الخوف والحذرُ، ولا يَرْكَنُوا إلى الأمن، وإن كَثُرت أعمالهم وعبادتهم لله تعالى، وأشار المُحَاسِبيُّ إلى هذا المعنى فقال: خوفُ الملائكة والأنبياء لله هو خوفُ إعظامٍ لأنَّهم آمنون في أنفسهم، بأمان الله لهم فخوفهم تعبُّدٌ لله إجلالًا وإعظامًا.
          فائدة: هل يجوز أن يُدعى لسائر المسلمين بالمغفرة، منعه القَرَافِيُّ، وخالفه ابن عبد السَّلام.
          قال القَرَافِيُّ في «قواعده»: هو قول القائل: اللَّهُمَّ اغفِرْ لي ولجميع المسلمين دعاءٌ بالمُحَالِ لِمَا ثبت في نصوص الشريعة مِن كتابٍ أو سُنَّةٍ أنَّ بعض المسلمين _وهم أهل الكبائر_ يدخلون النَّار، ودخول النَّار ينافي الغفران، ويردُّ ما ذكرَهُ قولُ الله تعالى حكايةً عن نوحٍ صلوات الله وسلامه عليه:{رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح:28] ثمَّ دخول النَّار لا ينافي المغفرة مطلقًا، وإنَّما المنافاة للخلد؛ إذ الغفران ضربانِ: ابتداءٌ مِن غير عذابٍ كما قال: ((سترتُها عليك في الدُّنيا وأنا أغفرها لك اليوم))، وخروجه بالشَّفاعة أو غيرها، وهذا لا يُخرج كونَه غفرانًا يعمُّ المنكرَ _اللَّهُمَّ اغفر للخلق أجمعين_ أو يُدخل المخلَّد قال تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [الزخرف:74].
          فَصْلٌ: الخطيئة: الذَّنب، يُقال: خَطِئ يَخْطَأُ، والاسم: الخَطِيئةُ على فَعِيلةٍ، ولك أن تشدِّدَ الياء لأنَّ كلَّ ياءٍ ساكنةٍ قبلها كسرةٌ، أو واوٍ قبلها ضمَّةٌ، لا للإلحاق ولا مِن نفس الكلمة، فإنَّك تقلبُ الهمزة بعد الياء ياءً، وبعد الواو واوًا وتُدغم فتقول في حي حيي، والجِدُّ نقيضُ الهزل.