التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب التعوذ من أرذل العمر

          ░42▒ بابُ التَّعَوُّذِ مِن أَرْذَلِ العُمُرِ.
          {أَرَاذِلُنَا} [هود:27] سُقَّاطنا.
          (سُقَّاطٌ): جمع ساقِطٍ وهو اللئيم في حَسَبِهِ وَنَفْسِهِ، يُقال: قومٌ سَقْطَى وسُقَّاطٌ.
          6371- ثمَّ ذكر حديث أنسٍ: كان صلعم يتعوَّذ يقول: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الكَسَلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الجُبْنِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الهَرَمِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ البُخْلِ).وقد سلف [خ¦2823].
          وجميع أبواب الاستعاذة ما سلف وما يأتي تدلُّ آثارها على أنَّه ينبغي سؤالُ الله والرغبة إليه في كلِّ ما ينزل بالمرء مِن حاجاته، وأن يعيِّنَ كلَّ ما يدعو فيه، ففي ذلك إطالةُ الرغبةِ إلى الله والتضرُّعِ إليه، و ذلك طاعة الله، وكان صلعم يتعوَّذ بالله مِن كلِّ ذلك ويعيِّنُهُ باسمه، وإن كان الله قد عَصَمَهُ مِن كل شرٍّ ليُلْزِمَ نفسَه خوفَ الله وإعظامه وليسنَّ ذلك لأمَّته، ويعلِّمَهُم كيف الاستعاذة مِن كلِّ شيءٍ.
          وقد روى ثابتُ البُنَانِيُّ، عن أنسٍ ☺ قال: قال رسول الله صلعم: ((ليسأل أحدُكم ربَّه حاجَاتِهِ، حتَّى يسأله شِسْعَ نَعْلِهِ إذا انقطَعَ)) ليستشعِرَ العبدُ الافتقار إلى ربِّه في كلِّ أمرٍ وإن دقَّ، ولا يستحي مِن سؤاله ذلك.
          فالتعوُّذ مِن المحيا والممات دعاءٌ جامعٌ لمعانٍ كثيرةٍ لا تُحصى، وكذلك التعوُّذُ مِن المأثَمِ والمَغْرَمِ، رُوي عن عائِشَةَ ♦ أنَّ رجلًا قال لرسول الله صلعم: ما أكثرَ ما تستعيذُ مِن المأثَمِ والمَغْرَمِ! فقال ◙: ((إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ حَدَّثَ فَكَذَبَ وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ)).
          و(ضَلَعَ الدَّيْنِ): هو الذي لا يجدُ دَيْنَهُ مِن حيث يؤدَّيهِ، وهو مأخوذٌ مِن قول العرب: حِمْلٌ مُضْلِعٌ، أي: ثقيلٌ، ودابَّةٌ مُضْلِعٌ: لا تَقْوَى على الحَمْلِ، عن صاحب «العين»، فمَن كان هكذا فلا مَحَالةَ أنَّه يُوكِّدُ ذلك عليه الكذبَ في حديثه، والخُلْف في وعدِهِ.
          فإن قلت: كيف استعاذ مِن المَغْرَمِ، وكيف قال: ((إنَّ الله مع الدَّائنِ حتَّى يقضي دَيْنَهُ ما لم يكن فيه ما يَكْرَهُ الله))، فيما رواه جعفرُ بن محمَّدٍ عن أبيه، عن عبد الله بن جعفرٍ، وكان عبد الله بن جعفرٍ يقول: اذهب فخذْ لي بدينٍ؛ فإنِّي أكره أن أبيت ليلةً إلَّا واللهُ معي بعد ما سمعتُ رسول الله صلعم.
          قلت: كِلاهما صحيحٌ ولا تناقضَ بينهما، فالثاني في المستدِين الذي ينوي قضاء دَينهِ، وعنده في الأغلب ما يقضيهِ فاللهُ في عونِهِ على قضائه، والأوَّل الذي استدانَ على ثلاثة أوجهٍ: إمَّا فيما يكرهه الله ثمَّ لا يجد سبيلًا إلى قضائه فحقٌّ على الله أن يؤدِّيه، أو فيما لا يكرهه ولكن لا وجهَ عنده لقضائه إن طالبَهُ به صاحبُهُ، فهو معرِّضٌ لهلاك أموالِ النَّاسِ ومتلِفٌ لها، / أو نوى ترْكَ القضاء وعزمَ على الجَحْدِ فهو عاصٍ لربِّه وظالمٌ لنفسه، نبَّه عليه الطَّبَرِيُّ، فكلُّ هؤلاء في القضاء متخلِّفون، وفي حديثهم كاذبون، فكان معلومًا بذلك أنَّ الحال التي كره فيها صلعم الدَّيْن غيرُ الحال التي ترخَّص لنفسِهِ فيها، وذلك أنَّه ماتَ ودِرْعُهُ مَرْهُونةٌ عند يهوديٍّ بعشرين صاعًا مِن شعيرٍ.
          وأمَّا فتنةُ الغنى فيُخشى منها بَطَرُ المال وما يَؤول مِن عواقب الإسراف في إنفاقه وبذله فيما لا ينبغي ومنع حقوق الله فيه، ففتنةُ الغنى متشعِّبةٌ إلى ما لا يُحصى عدُّه، وكذلك فتنةُ الفقر يُخشى منها قلَّةُ الصَّبر على الإقلال والتسخُّط له وتزيين الشيطان للمرء حال الغنى، وما يؤولُ مِن عاقبة ذلك لضعف البشريَّةِ.
          وكذلك الاستعاذةُ مِن العجز والكسل، لأنَّهما يمنعانِ العبدَ مِن أداء حقوق الله تعالى وحقوقِ نفسهِ وأهلهِ، وتضييع النظر في أمر معاده وأمر دنياه، وقد أمَرَ المؤمن بالاجتهاد في العمل والإجمالِ في الطلب، وألَّا يكون عالةً ولا عيالًا على غيره ما مُتِّع بصحَّةِ جوارحِهِ وعقلِهِ.
          وكذلك الجُبن مهانةٌ في النفس وذلَّةٌ، ولا ينبغي للمؤمن أن يكون ذليلًا بالإيمان ولزوم طاعة الله التي تؤدِّي إلى النعيم المقيم، فينبغي للمؤمن أن يكثر التَّعَوُّذَ مِن ذلك.
          و(الهَرَمُ): هو أرذل العُمُر الذي ينتهي بصاحبه إلى الخَرَفِ وذهاب العقل، فيعود العالِمُ جاهلًا، ويصير إلى حالِ مَن لا ميزَ له، ولا يقدِرُ على أداء ما يلزمه مِن حقوق الله وحاجة نفسِهِ، مثلَ هذا خَشِيَ عُمَرُ ☺ حين قال لَمَّا كَبُر ما سلف، وكان سنُّه حينئذٍ _كما قال مالكٌ_ ستِّين سنةً، وقيل: خمس وخمسين، فخشي زيادة الضَّعْف فَيُضيِّعَ مما قلَّده الله شيئًا، ومَن متَّعَهُ اللهُ بصِحَّتِهِ لم يزدهُ العُمُر إلَّا خيرًا يستكثرُ مِن الحسناتِ ويَستعتبُ مِن السيِّئاتِ.
          وكذلك الهمَّ والحزنُ لا ينبغي للمؤمن أن يكون مهمومًا بشيءٍ مِن أمور الدُّنيا، فإنَّ الله قد قدَّر الأمور وأحكمها، وقدَّر الأرزاق، فلا يجلب الهمُّ للعبد في الدنيا خيرًا، ولا يأتيه بما لم يُقَدَّر له، وفي طول الهمَّ قلَّةُ الرِّضا بقَدِرِ الله وسخطُهُ على ربِّه، وقد كان عُمَرُ بن عبد العزيز يقول: اللَّهُمَّ رَضِّني بالقضاء، وحبِّب إليَّ القَدَرَ، حتَّى لا أحبَّ تقديم ما أخَّرت، ولا تأخير ما قدَّمت.
          ومن آمن بالقَدَرِ فلا ينبغي له أن يهتمَّ على شيءٍ فاته مِن الدنيا ولا يتَّهم ربَّه، فيما قضى له الخِيَرة، وإنَّما ينبغي للعبد الاهتمامُ بأمر الآخرة، ويفكِّرُ في معاده وعَرْضِهِ على ربِّه، وكيف ينجو من سؤاله عن الفَتِيل والنَّقِير والقِطْمير ولذلك قال ◙: ((لو تعلمون ما أعلمُ لضحكتم قليلًا ولبكيتُم كثيرًا)) فههنا يحسُنُ الهمُّ والبكاءُ، وغَلَبةُ الرِّجال أشدُّ مِن الموت لأنَّ المغلوب يصير كالعبد مِن غَلَبة قَهْرِهِ، وكذلك البُخَلُ استعاذَ منه لقوله تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9]، وقال ◙: ((وَأَيُّ دَاءٍ أَدْوَى مِنَ الْبُخْلِ)) ومعنى ذلك: أنَّ البخيلَ يَمنعُ حقوقَ الله وحقوقَ الآدميين ويمنعَ معروفَه ورِفْدَه، ويسيءُ عِشرة أهله وأقاربه.
          فإن قلت: قد دعا صلعم بالمُفَصَّلاتِ والجوامع، وكان السَّلف يستحبُّون الدُّعاء إلى الله بالجوامع كنحو الرَّغبةِ بالعفوِ والعافيةِ والمعافاةِ في الدُّنيا والآخرة، اكتفاءً منه بعلم الله بموضع حاجتهم ومبلغًا؟
          قيل: لكلِّ مَنزعٍ مِن ذلك حالةٌ يختار العمل به فيها على الآخر، فالجوامِعُ تحتاج في حال الحاجة إلى الإيجاز والاقتصاد، والمفصَّلات بالأسماء والصِّفات في حال الحاجة إلى إدامة الرَّغْبة إلى مَن بيدِهِ مفاتيحُ خزائن السماوات والأرض استفتاحًا بذلك مغاليقَها، وقد دعا صلعم بكلِّ ذلك في مواضعه.