التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب استغفار النبي في اليوم والليلة

          ░3▒ بابُ اسْتِغْفَارِ النَّبيِّ صلعم في اليَوْمِ واللَّيْلَةِ.
          6307- ذكر فيه حديث أبي سَلَمَةَ بن عبد الرَّحمن قال: قال أبو هُرَيْرَةَ ☺: سمعتُ رسول الله صلعم يقول: (وَاللهِ إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي اليَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً).
          الشَّرح: أراد صلعم بذلك تعليمَ أمَّتهِ وملازمتَهُ الخضوعَ والعبوديةَ والاعترافَ بالتقصير، وإلَّا فهو مبرَّأٌ مِن كلِّ نقصٍ، قال صلعم: ((لو تعلمون ما أعلمُ لضحكتُم قليلًا ولبكيتُم كثيرًا))، وقال: ((أفلا أكونُ عبدًا شكورًا))، وقال: ((إنَّي أخشاكُم لله، وأعلمُكُم بما أتَّقِي))، وهذا أَوْلى مِن قول ابن الجوزيِّ: هَفَواتُ الطِّباَعِ لا يَسْلَمُ منها أحدٌ، فالأنبياءُ وإن عُصموا مِن الكبائر فلم يُعصموا مِن الصَّغائر، وتتحدَّد للطبع غفلاتٌ تفتقر إلى الاستغفار، فإنَّ المختارَ عِصْمَتُهم منها أيضًا.
          وقال بعضهم: إنَّه لم يزل في الترقِّي فإذا ترقَّى إلى حالٍ رأى ما قبلَها دونَهُ استغفرَ منه، كما قيل: حَسَناتُ الأبرارِ سيِّئاتُ المقرَّبين.
          وما ألطفَهُ، ومثْلُهُ المرادُ به عن الفتراتِ والغَفَلاتِ: عن الذِّكْر الذي كان شأنه على الدَّوام عليه، أو همُّهُ بسبب أُمَّتِهِ، وما اطَّلع عليه مِن أحوالها بعدُ، أو سببُهُ اشتغاله بالنَّظرِ في مصالح الأُمَّةِ عن عظيمِ مقامِهِ، أو شكرًا لِمَا أَوْلى، ولا شكَّ أنَّ أَوْلَى العباد بالاجتهاد في العبادة الأنبياء لِمَا حَبَاهم به مِن معرفته، فهم دائبون في شكره / معترفون له بالتقصير ولا يُدِلُّونَ عليه بالأعمال مستكينون خاشِعُون، قال أبو هريرة ☺ _فيما رواه مكحولٌ عنه_: ما رأيت أحدًا أكثر استغفارًا مِن رسول الله صلعم، وقال مكحولٌ: ما رأيتُ أكثر استغفارًا مِن أبي هُرَيْرَةَ، وكان مكحولٌ كثيرَ الاستغفار وقال أنسٌ: ((أُمرنا أن نستغفر بالأسحار سبعين مرَّةً)).
          وروى أبو إسحاقَ عن مُجاهدٍ عن ابن عُمَرَ ☻ قال: كنتُ مع النَّبيِّ صلعم فسمعتُهُ يقول: ((أستغفرُ اللهَ الذي لا إلهَ إلَّا هو الحيُّ القيومُ وأتوب إليه)) مئةَ مرَّةٍ قبل أن يقومَ.
          ورُوي عن حُذَيفةَ أنَّه شَكَا إلى رسول الله صلعم ذَرَبَ لسانِهِ على أهلِهِ، قال: ((أين أنت يا حُذَيفةَ مِن المِمْحَاةِ؟ قال: وما هي؟ قال: الاستغفار، إنِّي لأستغفرُ الله في اليوم سبعين مرَّةً))، وقال صلعم لعائِشَةَ وقت الإِفْكِ: ((إن كنتِ ألممتِ بذنبٍ فاستغفري الله وتوبي إليه)).
          ورُوي أنَّ التوبة: النَّدمُ والاستغفارُ، وقالت عائِشَةَ ♦: كان صلعم قبل أن يموتَ يُكْثِرُ مِن قول: ((سبحانَ الله وبحمدِهِ، أستغفرُ اللهَ وأتوبُ إليه، فسألته عن ذلك، فقال: أخبرني ربِّي أنِّي سأرى علامةً في أُمَّتِي، فإذا رأيتها أكثرتُ مِن ذلك، فقد رأيتُها {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1])).
          وقال أبو أيُّوبَ الأنصارِيُّ: ما مِن مسلمٍ يقولُ: أستغفر الله الذي لا إله إلَّا هو الحيُّ القيومُ وأتوب إليه، ثلاثَ مرَّاتٍ إلَّا غُفرت ذنوبُهُ وإن كانت أكثر مِن زَبَدِ البحرِ، وإن كان فرَّ مِن الزَّحف.
          وكان ابن عُمَرَ ☻ كثيرًا ما يقول: الحمدُ لله أستغفرُ الله، فقيل له في ذلك، فقال: إنَّما هي نعمةٌ فأحمدُ الله عليها، أو خطيئةٌ فأستغفر الله منها.
          وقال عُمَرُ بن عبد العزيز: رأيت أبي في النوم كأنَّه في بستانٍ فقلتُ له: أيُّ عملِكَ وجدتَ أفضلَ؟ قال: الاستغفارُ.
          وروى أبو عثمانَ عن سلمانَ ☺ قال: إذا كان العبد يدعو الله في الرَّخاء فنزل به البلاء فدعا، قالت الملائكة: صوتٌ معروفٌ مِن امرئٍ ضعيفٍ فيَشْفَعُون له، وإذا كان لا يُكثر مِن الدعاء في الرَّخاء فنزلَ به البلاءُ فدعا، قالت الملائكة: صوتٌ منكرٌ مِن امرئٍ ضعيفٍ فلا يَشْفَعُون له.
          ولم يزد ابن التِّين في شرح هذا الحديث على أن قال: في بعض الأثر عنه صلعم ((مَن استغفر الله تعالى سبعين مرَّةً غُفر له سبعُ مئةِ خطيئةٍ))، وأيُّ عبدٍ أو أُمَّةٍ تُذنب كلَّ يومٍ سبعَ مئةِ ذنبٍ؟!
          فائدة: فوائد الاستغفار: يمحو الذُّنوب، ويستر العيوب، وإدرار الرِّزق، وسلامة الخَلْقِ، والعِصْمة في المال، وحصول الآمال، وجريان البركة في الأموال، وقُرْب المنزلة من الدَّيَّان.