التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب التوبة

          ░4▒ بابُ التَّوْبَةِ.
          قال قَتَادَة: {تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم:8] الصَّادقةُ النَّاصِحَةُ.
          6308- ذكر فيه حديثين:
          أحدهما: حديث أبي شِهَابٍ _واسمه عبدُ ربِّه بن نافعٍ المدَائِنيُّ، أصله كوفيٌّ، ومات بالموصل سنة إحدى أو اثنتين وسبعين ومئة، اتَّفقا عليه وعلى عبد ربِّه بن سعيدٍ، أخي يحيى بن سعيدٍ، وانفرد مسلمٌ بأبي نَعَامَةَ عبدِ ربِّه، سعديٍّ بصريٍّ، روى عن النَّهديِّ وأبي نَضْرةَ_ عن الأعمشِ، عن عُمَارَةَ بن عُمَيرٍ، عن الحارثِ بن سُويدٍ، قال: حدَّثني عبد الله _هو ابن مسعودٍ ☺_ حديثين: أحدهما عن النَّبيِّ صلعم، والآخر عن نفسِهِ، قال: (إِنَّ المُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ، وَإِنَّ الفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ فَقَالَ بِهِ هَكَذَا، _قَالَ أَبُو شِهَابٍ: بِيَدِهِ فَوْقَ أَنْفِهِ_ ثُمَّ قَالَ: لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ العبد مِنْ رَجُلٍ نَزَلَ مَنْزِلًا وَبِهِ مَهْلَكَةٌ، وَمَعَهُ رَاحِلَتُهُ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَوَضَعَ رَأْسَهُ فَنَامَ نَوْمَةً، فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ رَاحِلَتُهُ، حَتَّى إِذَا اشْتَدَّ عَلَيْهِ الحَرُّ أو العَطَشُ أَوْ مَا شَاءَ اللهُ، قَالَ: أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِي، فَرَجَعَ فَنَامَ نَوْمَةً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَإِذَا رَاحِلَتُهُ عِنْدَهُ).
          تابعه أبو عَوَانَةَ وجريرٌ، عن الأعمشِ، وقال أبو أُسَامَةَ: حدَّثنا الأَعْمَشُ، حدَّثنا عُمَارةُ: سمعتُ الحارثَ، وقال شُعْبَة وأبو مسلمٍ _وهو قائد الأعمشِ واسمه عُبَيدُ الله بن سعيدٍ_ عن الأعمشِ، عن إبراهيمَ التَّيْمِيِّ، عن الحارثِ بن سُويدٍ، وقال أبو مُعَاوِيَة: حدَّثنا الأعمشُ عن عُمَارَةَ عن الأسودِ، عن عبد الله وعن إبراهيم التَّيْمِيِّ، عن الحارثِ بن سُويدٍ، عن عبد الله.
          6309- الحديث الثاني: حدَّثنا إسحاقُ، حدَّثنا حَبَّانُ، أي: بفتح الحاء والباء الموحَّدة، حدَّثنا همامٌ، حدَّثنا قَتَادَةُ، حدَّثنا أنسُ بن مالكٍ ☺، عن النَّبيِّ صلعم.
          وحدَّثنا هُدْبَةُ، حدَّثنا همامٌ، حدَّثنا قَتَادَةُ، عن أنسٍ قال: قال رسول الله صلعم: (للهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ سَقَطَ عَلَى بَعِيرِهِ وَقَدْ أَضَلَّهُ فِي أَرْضِ فَلاَةٍ).
          الشَّرح: الكلام عليه من وجوه:
          أحدها: الذي رواه عن نفسه هو مِن أوَّلِهِ إلى قوله (فوق أنفه)، وإن كان رُوي رفعها، / ولكنَّها واهيةٌ، كما نبَّه عليها أبو أحمد الجُرْجَانيُّ، والمرفوع مِن قوله: (للهُ أَفْرَحُ) إلى آخره.
          ومتابعة جريرٍ وأبي أُسامةَ، أخرجها مسلمٌ عن عثمانَ وإسحاقَ عنهما، عن الأعمش حدَّثنا الحارث بن سُويدٍ.
          وقال البزَّار: حدَّثنا يُوسُفُ بن موسى، حدَّثنا جريرٌ عن الأعمش، عن عُمَارةَ عن الحارثِ، عن عبد الله، وعن الأسود بن يزيدَ، عن عبد الله بنحوه.
          ومتابعة أبي مُعَاوِيَة أخرجها النَّسائيُّ عن أحمدَ بن حربٍ، عنه، عن الأعمشِ، عن عُمَارةَ، عن الحارثِ والأسودِ، وعن محمَّدِ بن عبيدِ بن محمَّدٍ، عن عليِّ بن مُسْهِرٍ، عن الأعمشِ، عن إبراهيمَ التَّيْمِيِّ، عن الحارثِ، عن عبدِ اللهِ: (للهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ) الحديث.
          وأخرجه التِّرْمِذيُّ، عن هنَّادٍ عن أبي مُعَاوِيَةَ عن الأَعْمَشِ، عن عُمَارةَ عن الحارثِ بن سُويدٍ، حدَّثنا عبد الله بحديثين، الحديث، ثمَّ قال: صحيحٌ.
          ومتابعة أبي عَوَانَةَ، أخرجها الإسماعيليُّ عن الحَسَنِ، حدَّثنا محمَّدُ بن المثنَّى، حدَّثنا يحيى بن حمَّادٍ عنه.
          ثانيها: مراده بالنَّاصحة التي لا مُدَاهنَةَ فيها.
          قال صاحب «العين»: التَّوبةُ النَّصُوحةُ: الصَّادِقةُ.
          وقيل: إنَّما سُمِّيت بذلك لأنَّ العبدَ ينصحُ فيها نفسَهُ ويقيها النَّارَ لقوله تعالى: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم:6] وأصل نَصُوحًا: توبةً مَنْصُوحًا فيها، إلَّا أنَّه أخبر عنها باسم الفاعل للنُّصح على ما ذكره سيبويه، عن الخليل، في قوله تعالى: {عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [القارعة:11] أي: ذات رضا وذكر أمثلةً لهذا كثيرةً عن العرب، كقولهم: ليلٌ نائِمٌ وهمٌّ ناصِبٌ، أي: يُنَامُ فيه ويُنصَبُ، وكذلك توبةً نَصُوحًا أي: ينصحُ فيها.
          وقال عُمَرُ بن الخطَّاب ☺: هو أن يتوبَ مِن الذَّنب ثمَّ لا يعود.
          وقال أبو إسحاقَ: بالغةٌ في النُّصح، مأخوذٌ مِن النُّصح، وهي الخياطة كأنَّ العصيانَ يَخْرِقُ والتوبةُ تَرْقَعُ.
          والنِّصَاحُ: الخَيْطُ الذي يُخاط به، وقيل: مثله في الحديث الآخرِ: ((مَن اغتابَ خَرَقَ، ومَن استغفر رَفَأَ))، وقيل: هو مأخوذٌ مِن نَصَحَتِ الإبلُ في الشُّرب أي: قَصَدتْ.
          وقرأ عاصِمٌ: {نُصوحًا} بضمِّ النُّون أي: ذات نصوح.
          ومعنى (أَفْرَحُ): أرضى بالتوبة وأقبل لها.
          والمهلَكة والمهلِكة: المَفَازَةُ، قاله في «الصِّحاح».
          ومعنى: (سَقَطَ عَلَى بَعِيرِهِ): عَثَر على موضعِهِ وظَفِرَ به، ومنه قولهم: على الخَبِير سَقَطتَ.
          وقوله (أَضَلَّهُ) قال ابن السِّكِّيتِ: أضْلَلتُ بعيري: إذا ذهبَ منِّي، وضلَلتُ المسجدَ والدَّار إذا لم تَعْرِف موضعَهُما، وكذلك كلُّ شيءٍ لا يُهْتَدى لَهُ.
          الثالث: التوبة: فرضٌ مِن الله على كلِّ مَن علِمَ مِن نفسهِ ذنبًا صغيرًا أو كبيرًا لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم:8]، وقال: {وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31]، وقال تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} [النساء:17] فكلُّ مذنبٍ فهو عند مواقعة الذَّنب جاهلٌ وإن كان عالمًا، ومَن تاب قبل الموت تابَ مِن قريبٍ.
          وقال ◙: ((النَّدمُ توبةٌ))، وقال: ((إنَّ العبدَ ليُذنبُ الذَّنب فَيَدْخُلُ به الجنَّة قالوا: كيف ذلك يا رسول الله؟ قال: يكون بين عينيهِ تائبًا منه فارًّا حتَّى يدخل الجنَّةَ)).
          وقال سُفْيَان بن عُيَينةَ: التوبة نعمةٌ مِن الله تعالى أنعمَ بها على هذه الأُمَّة دون غيرهم مِن الأمم، وكانت توبةُ بني إسرائيلَ القَتْلُ.
          وقال الزُّهريُّ: لَمَّا قيل لهم: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة:54] قاموا صفَّين، وقَتَلَ بعضُهم بعضًا حتَّى قيل لهم: كُفُّوا فكانت لهم شهادةً للمقتول وتوبةً للحيِّ، وإنَّما رفع الله عنهم القتلَ لمَّا بذلوا المجهودَ في قتل أنفسهم، فما أنعم الله على هذه الأمَّة نعمةً بعد الإسلامِ هي أفضلُ مِن التوبة، إنَّ الرجل ليُفني عمره أو ما أفنى منه في المعاصي والآثام ثمَّ يندمُ على ذلك ويُقْلِعُ عنه فيَحطُّها اللهُ عنه، ويقوم وهو حبيبُ الله تعالى: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222] وقال صلعم ((التائبُ مِن الذَّنب كمن لا ذنبَ له)).
          وقال ابن المبارك: حقيقةُ التوبة لها ستٌّ علامات:
          أولها: الندمُ على ما مضى، الثانية: العزم على أَلَّا يعود، والثالثة: أن يعمَدَ إلى كلِّ فرضٍ ضيَّعَهُ فيؤدِّيه، والرَّابعة: أن يعمدَ إلى مظالم العباد فيؤدِّي إلى كلِّ ذيِّ حقَّ حقَّه، والخامسة: أن تعمدَ إلى الذي ربَّيتَهُ بالسُّحتِ والحَرَام فتذيبَهُ بالهموم والأحزان حتَّى يلصق الجِلْد بالعَظْمِ، ثمَّ تُنشئ بينهما لحَمًا طيِّبًا إن هو نشأ، والسَّادسة: أن تُذيق البدنَ ألمَ الطاعة كما أذقته لذَّة المعصيةِ.
          وقال مَيْمُونُ بن مِهْرانَ عن ابن عبَّاسٍ ☻: كم مِن تائبٍ يُردُّ يوم القيامة يظنُّ أنَّه تائبٌ وليس بتائبٍ لأنَّهُ لم يُحكم أبواب التوبة، وقال عبد الله بن شمَيطٍ: ما دام قلب العبد مصرًّا على ذنبٍ واحدٍ فعمله يُعلَّق في الهواء، فإن تاب مِن ذلك الذَّنب وإلَّا بقيَ عملُهُ أبدًا معلَّقًا، وروى الأَصِيليُّ عن أبي القاسم يعقوبَ بن محمَّد بن صالحٍ البصريُّ إلى عبد الوهَّابِ، عن محمَّد بن زيادٍ، عن عليِّ بن زيد بن جُدْعَانَ، عن سعيد بن المسيِّبِ، عن أبي الدَّرداء قال: قال رسول الله صلعم: ((يقول الله تعالى: إذا تابَ عبدي إليَّ نسَّيت جوارحه ونسَّيت البِقَاع ونسَّيت حافظيه حتَّى لا يشهدوا عليه)).
          فَصْلٌ: وفي حديث ابن مسعودٍ الذي حدَّث عن نفسه أنَّهُ ينبغي لمن أراد أن يكون مِن جملة / المؤمنين أن يخشى ذنوبَهُ ويعظُمَ خوفُهُ منها ولا يأمن عقابَ الله تعالى فيستصغرَها، فإنَّ الله يعاقِبُ على القليل وله الحجَّةُ البالغة في ذلك.
          فَصْلٌ: أسلفنا معنى فرح الربِّ جلَّ جلاله بتوبة العبد، وهو ما صرَّح به ابن فُورَك، حيث قال: الفرح في كلام العرب بمعنى السرور، مِن ذلك قوله: {وَفَرِحُوا بِهَا} [يونس:22] أي: سُرُّوا، ولا يليق ذلك بالله لأنّه يقتضي جواز الحاجة عليه ونيل المنفعة، وبمعنى البَطَر والأَشَر، ومنه: {إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص:76] وبمعنى: الرضى من قوله: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون:53] أي: راضُونَ، ولَمَّا كان مَن يُسَرُّ بالشيء قد رضيه، قيل: إنَّه فرح به على معنى أنَّه به راضٍ، وعلى هذا تتأوَّل الآثارُ لأنَّ البَطَر والسُّرور لا يليقانِ بالربِّ جلَّ جلاله.
          فَصْلٌ: للتَّوبة أركانٌ: الندم على ما وقع، والعزم على ألَّا يعود، والإقلاع عن المعصية، فإن تعلَّقت بآدميٍّ جاز على الاستحلال منه، وهي فرضٌ على الإنسان إجماعًا في كلِّ وقتٍ وأوانٍ، ومِن كلِّ ذنبٍ أو غفلةٍ أو تقصيرٍ في كمالٍ، وما منَّا أحدٌ خَلَا مِن ذلك بالقلب والجوارح واللِّسان، وأصلها الرُّجوع، وعلامتُها حسن الحال، وصدقُ المقالِ، وخلقُ الله لها في الحال. وتجب في الحرامِ، وتستحبُّ في المكروه، وتوبة الزُّهَّادِ عن الشَّهوات، والمقرَّبين عن الشُّبهات. فمن لطفهِ بنا توبةُ مَن قبلنا بالقتل بالمحدَّد، وتوبتنا بإظهار النَّدم والتجلُّد، وتلك في لحظةٍ، وتوبتنا مستمرَّةٌ ولله الحمدُ.
          وفي التوبة والاستغفار معنًى لطيفٌ وهو استدعاء محبَّةِ الله كما سلف، لا جَرَمَ جرى عليها السلف والخلف، والأنبياء أكثروا منها ومِن الاستغفار والأَوْبَةِ والإِنَابةِ في كلِّ حين، والبراءة مِن الحَوْبة استدعاءٌ للمحبَّةِ، والاستغفار فيه معنى التَّوبة: قال {لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ} [التوبة:117]، {وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:3].