التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: كل لهو باطل إذا شغله عن طاعة الله

          ░52▒ بابُ كُلِّ لَهْوٍ بَاطِلٌ إذا شَغَلَهُ عَن طَاعِةِ اللهِ ╡.
          ومَن قالَ لِصَاحبِهِ: تَعَالَ أُقَامِرْكَ، وقال الله ╡: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} [لقمان:6].
          6301- ثمَّ ذكر حديث أبي هُرَيْرَةَ ☺ قال: قال رسول الله صلعم: (مَنْ حَلَفَ مِنْكُمْ فَقَالَ فِي حَلِفِهِ: بِاللَّاتِ وَالعُزَّى، فَلْيَقُلْ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ: تَعَالَ أُقَامِرْكَ، فَلْيَتَصَدَّقْ).
          وقد سلف [خ¦4860].
          واختلف المفسِّرون في اللَّهو في الآية، فقال الضَّحاكُ: الشِّرْك، وقال ابن مسعودٍ: الغِنَاءُ، وحلفَ عليه ثلاثًا، وقال: الغِنَاء يُنْبِتُ النِّفَاقَ في القلب، وقاله مجاهدٌ، وزاد: إنَّ لهو الحديث في الآية الاستماعُ إلى الغناء وإلى مثله مِن الباطل، وقاله ابنُ عبَّاسٍ وجماعةٌ مِن أهل التأويل أيضًا أنَّه الغِنَاءُ، وقال القاسم بن محمَّدٍ: الغناء باطلٌ والباطل في النَّار، ولذلك ترجم البخاريُّ ما سلف، وقيل: المعنى: ما يُلهي مِن الغِنَاء وغيره، فمَن قال شيئًا ليريحَ نفسَهُ ويستعين به على الطاعة ممَّا لا خنا فيه فهو جائزٌ، وقيل: إذا قلَّ جاز، وكرهه مالكٌ وإن قلَّ لسدِّ الذَّرِيعة، وروى ابن وَهْبٍ عنه ما سيأتي.
          وأمَّا قوله: إذا شغلَهُ عن طاعة الله فهو مأخوذٌ مِن قوله: {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} [لقمان:6] فدلَّت الآية على أنَّ الغِنَاء وجميعَ اللَّهو إذا شغل عن طاعة الله وعن ذكره أنَّه مُحَرَّمٌ، وكذلك قال ابن عبَّاسٍ: {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} [لقمان:6] أي: عن قراءة القرآن وذِكْر الله.
          ودلَّت أيضًا أنَّ اللَّهْوَ إذا كان يسيرًا لا يشغل عن الطَّاعة، ولا يَصُدُّ عن ذكره أنَّه غير محرَّمٍ، أَلَا ترى أنَّ الشارع أباحَ للجاريَتَين يوم العيد الغِنَاءَ في بيت عائِشَةَ من أجل العيد كما سلف [خ¦949]، كما أباح لعائِشَةَ النظرَ إلى لعب الحبشة بالحِرَاب في المسجد، وسترَها وهي تنظرُ إليهم حتَّى شبعت، قال لها: ((حَسْبُكِ))، وقال صلعم لعائِشَةَ وقد حضرتْ زِفَاف امرأةٍ إلى رجلٍ مِن الأنصار: ((يا عائِشَةَ، ما كان معكم لَهْوٌ؟ فإنَّ الأنصارَ يعجبُهم اللَّهو)).
          وقد سلف في باب: العيدين لأهل الإسلام، في كتاب الصَّلاة [خ¦952] ما يُرخَّص فيه مِن الغِنَاء وما يُكره، فدلَّت هذه الآثار على ما دلَّت عليه الآية مِن أنَّ يَسِيرَ الغناء واللهوِ الذي لا يصدُّ عن ذكر الله وطاعته مباحٌ.
          وأجاز سماعه أهل الحجاز، وقيل لمالكٍ: إنَّ أهل المدينة يسمعون الغِنَاءَ قال: إنَّما يسمعه عندنا الفُسَّاق، وقال الأوزاعيُّ: يُترك مِن قول أهل الحجاز سماعُ الملاهي.
          وروى ابن وَهْبٍ عن مالكٍ أنَّه سُئل عن ضرب الكَبَر والمِزْمَارِ، وغير ذلك مِن اللهو الذي ينالك سماعه وتجد لذَّته وأنت في طريقٍ أو في مجلسٍ: أَيُؤمر مَن ابتُلي بذلك أن يرجع مِن الطريق أو يقومَ مِن المجلس؟ فقال: أرى أن يقوم إلَّا أن يكون جالسًا لحاجةٍ، أو يكون على حالةٍ لا يستطيع القيام، ولذلك يرجع صاحب الطريق أو يتقدَّم أو يتأخَّرُ.
          وقد جاء فيمن نزَّه سمعَهُ عن قليل اللَّهو وكثيره ما روى أسدُ بن موسى، عن عبد العزيزِ بن أبي سَلَمَة، عن محمَّد بن المنْكَدِرِ قال: بلغنا أنَّ الله تعالى يقول يوم القيامة: ((أينَ عبادي الذين كانوا ينزِّهُون أنفسَهم وأسماعَهم عن اللَّهو ومَزَامِيرِ الشيطان أُحلُّهم رياضَ المسكِ، وأخبروهم أنِّي قد أحللتُ عليهم رضواني)).
          وسلف اختلاف العلماء في فضائل القرآن قراءة القرآن بالألحان، ومَن كرهه ومَن أجازه [خ¦5023].
          فَصْل: وإنَّما أدخل البخاريُّ حديث أبي هُرَيْرَةَ في الباب لقوله في الترجمة: (ومَن قالَ: تعالَ أُقَامِرْكَ فليتصدَّق)، ولم يختلف العلماء في تحريم القِمَار لقوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} الآية [المائدة:90]، واتَّفَقَ أهل التأويل أنَّ الميْسِرَ هنا القِمَارُ.
          وكره مالكٌ اللَّعبِ بالنَّرْدِ وغيرها مِن الباطل وتلا: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} [يونس:32] وقال: مَن أدمن اللَعب بها فلا تُقبل له شهادةٌ، وبذلك قال الشَّافعيُّ إذا شغله اللَّعب بها عن الصَّلاة حتَّى يفوته وقتها. والأصحَّ عندنا تحريم اللَّعب بالنَّرْد.
          وقد قال أبو ثورٍ: مَن تَلَاهى ببعض الملاهي حتَّى تشغله عن الصَّلاة لم تُقبل شهادتُهُ.
          وأمره بالصَّدقة على النَّدْب عند العلماء لأنَّهُ لم يفعل شيئًا، لا الوجوب؛ لأنَّ الله تعالى لا يُؤاخذ بالقول في غير الشِّرك حتَّى يصدِّقه الفعل أو يكذِّبه، كما لو قال لامرأةٍ: تعالي أزني بك، أو أشربُ ولم يفعل، لم يلزمه حدٌّ في الدُّنيا ولا عقوبةٌ في الأخرى إذا كان مجتنبًا للكبائر لكن نُدِب مَن جرى مثل هذا القول على لسانهِ ونواه قلبُهُ وبتَّ قولَه أن يتصدَّق خشيةَ أن تُكتب عليه صغيرةٌ أو يكون ذلك مِن اللَّمَمِ، وكذلك نَدْبُ مَن حَلَفَ باللَّات والعزَّى أن يشهد شهادةَ التوحيد والإخلاص فيَنْسخَ بذلك ما جرى على لسانه / مِن كلمة الإشراك والتعظيم لها وإن كان غير معتقدٍ لذلك، والدليل على أنَّ ذلك على النَّدْبِ أنَّ الله لا يؤاخذ العباد مِن الإيمان إلَّا بما انطوت الضمائر على اعتقاده وكانت به شريعةً لها، وكلُّ محلوفٍ به باطلٌ فلا كَفَّارةَ وإنَّما الكفَّاراتُ في الأيمان المشروعة.
          فإن قلت: فما معنى أمرِه صلعم الدَّاعي إلى القِمَار بالصَّدَقةِ مِن بين أعمال البرِّ؟
          قيل له: معنى ذلك _والله أعلم_ أنَّ أهل الجاهليَّةِ كانوا يجعلون جُعلًا في المقامرة ويستحقُّونَهُ بينهم، فنسخ الله تعالى أفعال الجاهليَّةِ وحرَّم القِمَار، وأمرهم بالصَّدقة عوضًا عمَّا أرادوا استباحته مِن الميْسِرِ المحرَّم، وكانت الكفَّاراتُ مِن جنس النَّدم لأنَّ المقامر لا يخلو أن يكون غالبًا أو مغلوبًا، فإن كان غالبًا فالصَّدقة كفَّارةٌ لِمَا كان يدخل في يدِه مِن الميْسِرِ، وإن كان مغلوبًا فإخراجه الصَّدقة لوجه الله أَوْلى مِن إخراجه عن يده شيئًا لا يحلُّ له إخراجُهُ.