التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: {إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا}

          ░32▒ بابٌ {إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا} الآية. [المجادلة:11].
          6270- ذكر فيه حديث ابن عُمَرَ ☻ أيضًا، عن النَّبيِّ صلعم (أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُقَامَ الرَّجُلُ مِنْ مَجْلِسِهِ وَيَجْلِسَ فِيهِ آخَرُ، وَلَكِنْ تَفَسَّحُوا وَتَوَسَّعُوا).
          وَكَانَ ابن عُمَرَ يَكْرَهُ أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ يَجْلِسَ مَكَانَهُ.
          الشَّرح: (تَفَسَّحُوا) مِن قولهم: مكانٌ فسيحٌ إذا كان واسعًا، واختُلف في المراد بالمجلس المذكور: فقال مُجَاهِدٌ وقَتَادَةُ: مجلس رسول الله صلعم إذا رأوه مُقبلًا ضيَّقوا مجالسهم فأمرهم الله أن يوسِّع بعضُهم لبعضٍ، وقال الحسنُ وقَتَادَةُ: في الغزو خاصَّةً وقال يزيدُ بن أبي حبيبٍ: أي: اثبتوا في الحرب، وهذا مِن مكيدة الحرب، وقيل: هو عامٌّ.
          وقوله: ({يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ} [المجادلة:11]) أي: توسَّعوا يوسِّع الله عليكم منازلكم في الجنَّة.
          وقوله: ({فَانْشُزُوا}) أي: وإذا قيل: ارتفعوا فارتفعوا، وقوموا إلى قتال عدُوٍّ، أو صلاةٍ، أو عمل خيرٍ، قال الحسن: انهِزُوا إلى الحربِ.
          وقال قَتَادَةُ ومُجَاهِدٌ: تفرَّقُوا عن رسول الله صلعم فقوموا، وقال ابن زيدٍ: انْشُزُوا عنه في بيته فإنَّ له حوائجَ، وقال صاحب «الأفعال»: نَشَزَ القومُ مِن مجلسهم، قاموا منه.
          فَصْلٌ: واختُلف في تأويل نهيه عن أن يُقام الرجل مِن مجلسه ويجلس فيه آخرُ، فتأوَّله قومٌ على النَّدْب، وقالوا: هو مِن باب الأدب لأنَّه قد يجبُ للعالِم أن يليَهُ أهلُ الفهم والفِطَن ويوسَّع لهم في الحَلَقةِ حتَّى يجلسوا بين يديه وتأوَّله قومٌ على الوجوب، وقالوا: لا ينبغي لمن سبق إلى مجلسٍ مُباحٍ للجلوس أن يُقام منه، واحتجُّوا بحديث مَعْمَرٍ عن سهيلِ بن أبي صالحٍ عن أبي هُرَيْرَةَ ☺ عن النَّبيِّ صلعم أنَّه قال: ((إذا قام أحَدُكُم مِن مجلسِهِ ثمَّ رجَعَ إليه فهو أحقُّ به)).
          قالوا: فلمَّا كان أحقَّ به بعد رجوعه كان أَوْلى أن يكون أحقَّ به ما دام فيه، قالوا: وقد كان ابن عُمَرَ يقوم له الرَّجُل مِن تلقاء نفسه فما يجلسُ في مجلسه، قالوا: وابن عُمَرَ راوي الحديث عن رسول الله صلعم فهو أعلمُ بتأويلِهِ.
          وحُجَّةُ مَن حمله على النَّدب أنْ قالوا: لَمَّا كان موضعُ جُلُوسه في المسجد أو حَلَقةِ العلم غير مُتملَّكٍ له، ولم يستحقَّهُ أحدٌ قبل الجلوس فيه لم يستحقَّه أحدٌ بالجلوس فيه، وكان حُكم الجلوس كحُكم المكان في أنَّهما غير مُتَملَّكَين، قالوا: وأمَّا حديثُ أبي هُرَيْرَةَ ☺ فقد تأوَّلَهُ العلماء على وجهين: على الوجوب والنَّدب، كما تأوَّلوا حديث ابن عُمَرَ، فقال محمَّد بن مَسْلَمةَ: معنى قوله: ((فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ)) يريد إذا جلس في مجلس العالِم فهو أَوْلَى به إذا قام لحاجةٍ، فأمَّا إن قام تاركًا فليس هو أَوْلَى به مِن غيره.
          والوجه الثاني: روى أشهبُ عن مالكٍ عن الذي يقوم مِن المجلس فقيل له: إنَّ بعض النَّاس يقول: إذا رجع فهو أحقُّ به، قال: ما سمعتُ به، وإنَّه لحسَنٌ إذا كانت أوبتُهُ قريبةً وإن بعُد ذلك حتَّى يذهب فيتغدَّى ونحوَ لك فلا أرى ذلك له، وإنَّ هذا مِن محاسنِ الأخلاق.
          وقال الدَّاوديُّ: فيه أنَّ مَن جلس مجلسًا يجب له الجلوس فيه فهو أحقُّ به حتَّى يقوم، وظاهر الحديث أنَّ الجالس أحقُّ بموضعه، وقيل: إذا قام ليرجع كان أحقَّ به، وقيل: إن رجع عن قُربٍ كان أحقَّ.