التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب التسليم في مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين

          ░20▒ بابُ التَّسْليمِ في مَجْلسٍ فيهِ أَخْلَاطٌ مِن المُسْلِمينَ والمُشْرِكينَ.
          6254- ذكر فيه حديث أُسامَةَ ☺ (أنَّه صلعم رَكِبَ حمارًا، عَليه إِكَافٌ تحتَه قَطِيفَةٍ فَدَكِيَّةٍ...) الحديث بطوله، وفيه: (فَسَلَّمَ عَلَيْهِمُ رسول الله صلعم ثُمَّ وَقَفَ).
          وفيه الإبانة أنَّه لا حرج على المرء في جلوسه مع قومٍ فيهم منافقٌ أو كافرٌ، وفي تسليمه عليهم إذا انتهى إليهم وهم جلوسٌ، وذلك أنَّه صلعم سلَّم على القوم الذين فيهم عبد الله بن أُبيٍّ ولم يمتنع مِن ذلك لمكان عبد الله مع نفاقِهِ وعداوتِهِ للإسلام وأهله إذ كان فيه مِن أهل الإيمان جماعةٌ.
          وقد رُوي عن الحسن البصرِيِّ أنَّه قال: إذا مررت بمجلسٍ فيه مسلمون وكفَّارٌ فسلِّم عليهم، وذلك خلاف ما يقوله بعضُهم أنَّه غير جائزٍ على مَن كان عن سبيل الحقِّ منحرفًا إمَّا لبدعةٍ أو لضلالةٍ مِن الأهواء الرَّدِيةِ، أو لملَّةٍ مِن ملل الكفَّار دان بها، وتكليمه غير سائغٍ، وذلك أنَّه لا ضلالةَ أشنعُ ولا بِدعةَ أخبثُ ولا كفرَ أرجسُ مِن النِّفاق ولم يكن في نفاقِ عبد الله بن أُبيٍّ يوم هذه القِصَّةِ شكٌّ.
          فإن قلت: إنَّه صلعم إنَّما سلَّم عليه يومئذٍ ونزل إليه ليدعوَهُ إلى الله وذلك فرضٌ عليه، قيل: لم يكن نزوله صلعم ليدعوه لأنَّه قد تقدَّم الدُّعاء منه لعبد الله بن أُبيٍّ ولجماعة المنافقين في أوَّلِ الإسلام فكيف يُدعى إلى ما يُظهره، وإنَّما نزل صلعم هناك استئلافًا لهم ورفقًا بهم رجاءَ رجوعهم إلى الحقِّ، وقد كان صلعم يستألِفُ بالمال فضلًا عن التحيَّةِ، والكلمةُ الطيبة مِن استئلافه أنَّه كنَّاه عند سعد بن عُبَادةَ فقال له سعدٌ: (اعفُ عنه واصفحْ)، أي: لا تناصبه العداوةَ، كلُّ هذا رجاءَ أن يراجع الإسلام.
          وقد أجاز مالكٌ في تكنية اليهوديِّ والنَّصْرانيِّ، وقد رُوي عن السَّلف أنَّهم كانوا يسلِّمون على أهل الكتاب كما سلف قريبًا [خ¦6252].
          وروى جريرٌ عن مَنْصُورٍ، عن إبراهيمَ، عن عَلْقَمةَ قال: كنت رِدْفًا لابن مسعود، فَصَحِبَنا دِهْقَانٌ مِن القَنْطَرةِ إلى زُرَارَةَ فانشعَبَ له طريقٌ فأخذَ فيه، فقال عبدُ الله: أين الرَّجُل؟ فقلت: أخذ في طريقِهِ، فأتبعه بصرَهُ وقال: السَّلام عليكم، فقلت: يا أبا عبد الرَّحمن، أليس تَكرهُ أن يُبدؤوا بالسَّلام؟ قال: نعم، ولكن حقُّ الصُّحبة، وكان ابن مُحَيريزٍ يمرُّ على السَّامرةِ فيسلِّم عليهم، وقال قَتَادَةُ: إذا دخلت بيوتَ أهل الكتاب فقل: سلامٌ على مَن اتَّبع الهدى.
          فإن قلتَ: فحديثُ أبي هُرَيْرَةَ ☺: قال رسول الله صلعم: ((لا تبدؤوا اليهود والنَّصارى بالسَّلام)) أخرجه مسلمٌ منفردًا به. قلتُ: كِلاهما صحيحٌ فهذا عامٌّ والأوَّل خاصٌّ لأنَّ فيه أنَّهُ صلعم لَمَّا رأى عبد الله بن أُبيٍّ وحوله رجالٌ مِن قومه، تذمذم أن يُجاوزه، فنزل فسلَّم فجلس، وكان نزوله إليه بقضاءِ ذِمامٍ، وفيه نظير ما سلف مِن التَّسليم على الدِّهْقَانِ وكلام إبراهيمَ النَّخَعِيِّ فالأوَّل لغير سببٍ يدعوكم أن تبدؤوهم مِن قضاء ذِمامٍ، أو حاجةٍ تعرِضُ لكم قِبَلهم، أو حقِّ صحبةٍ في جوارٍ أو سفرٍ.
          فَصْل: وفيه _كما قال المهلَّب_: عيادةُ المريض على بُعدٍ والركوب إليه، وركوب الحُمُر للأشراف والأنبياء.
          فَصْل: ومعنى: (خَمَّرَ عَبْدُ اللهِ أَنْفَهُ): غطَّاه، وكلُّ مغطًّى عند العرب فهو مخمَّرٌ، ومنه: ((خمِّر إناءَك ولو بِعُودٍ تَعْرُضُهُ عَلَيهِ)).
          و(البَحْرَةُ): القرية، وكلُّ قريةٍ لها نهرُ ماءٍ جارٍ أو ناقعٍ فإنَّ العرب تُسَمِّيها بحرًا، وقد قيل في قوله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الروم:41]: إنَّه عنى بالبحر الأمصار التي فيها أنهارُ ماءٍ، والعرب تقول: هذه بَحْرَتُنَا، أي: بَلْدَتُنَا.
          وقوله: (يُعَصِّبُوهُ) أي: يسوِّدوه، والسيِّدُ المطَاعُ يُقال له: المُعَصَّبُ لأنَّه يُعَصِّبُ الأمور برأسه، والتَّاجُ عندهم للمَلِك، والعِصَابةُ للسيِّد المطَاعِ.
          ومعنى (شَرِقَ بِذَلِكَ): غصَّ به، يُقال: غصَّ الرجل بالطَّعام، وشَرِق بالماء، وشَجِيَ بالعَظْم.
          فَصْل: فيه دليلٌ أنَّه صلعم كان يقدِرُ في ذلك الوقت على مقاومةِ ابن أُبيٍّ، ومقاومة مَن يؤذيهِ مِن الأنصار بمدينتهم وموضعِ سلطانهم.
          فَصْل: قوله: (عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيِّ ابنِ سَلُولَ) سَلُولُ: قبيلةٌ مِن هَوَازِنَ، وهو اسم أمِّهم كما ذكره الجَوْهَرِيُّ، فعلى هذا لا ينصرفُ.