التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب قول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتًا}

          ░2▒ بابُ قَوْلِ اللهِ تَعَالى:
          {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27]
          وقال سعيدُ بنُ أبي الحَسَنِ للحَسَنِ: إنَّ نِسَاءَ العَجَم يَكْشِفْنَ صُدورهنَّ وَرُؤُوسَهُنَّ، فقال: اصْرِفْ بَصَركَ، وقال الله: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ}، وقال قَتَادَةُ: عمَّا لا يحلُّ لهم {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:31] {خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ}: [غافر:19] النَّظَرُ إلى مَا نُهِيَ عَنْهُ، وقال الزُّهريُّ: في النَّظر إلى التي لم تَحِضْ مِن النِّسَاءِ: لا يَصْلُحُ النَّظَرُ إلى شَيءٍ منهُنَّ ممَّن يُشْتَهى النَّظرُ إليهِ وإنْ كانت صَغِيرةً، وكره عطاءٌ النَّظَرَ إلى الجَوَارِي الَّتي يُبعنَ بمكَّةَ، إلَّا أن يُرِيدَ أَنْ يَشْتَرِي.
          6228- ثمَّ ساق حديث ابن عبَّاسٍ ☻ في نظرِ الفَضْل أخيهِ إلى تلك المرأة مِن خَثْعَمَ، وأخذِه صلعم بذقنِ الفَضْلِ فعدَلَ وجهه عن النَّظر إليها.
          6229- وحديث أبي عامرٍ _واسمه عبدُ الملكِ بن عَمْرِو بن قيسٍ العَقَدِيُّ_ إلى أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ أنَّ النَّبيَّ صلعم قال: ((إيَّاكم والجُلُوسَ بالطُّرُقاتِ، فقالوا: يا رسول الله، ما لنا من مجالسنا بدٌّ، نتحدَّثُ فيها، فقال: فإذا أبيتم إلَّا المجلسَ فأعطوا الطَّريق حقَّهُ، قالوا: وما حقُّ الطَّريقِ يا رسول الله؟ قال: غضُّ البصر، وكفُّ الأذى، وردُّ السَّلام، والأمرُ بالمعروف والنَّهِيُ عن المنكرِ)).
          الشَّرح: قال ابن عبَّاسٍ: إنَّما هو {حتَّى تستأذِنوا}، وكذا قال قَتَادَةُ ومُجَاهدٌ وإبراهيمُ. وقال سعيدُ بن جُبَيرٍ: الاستئناسُ: الاستئذانُ وهو _فيما أحسب_ مِن خطأ الكاتب، وروى أيُّوبُ عنه عن ابن عبَّاسٍ: إنَّما هي: {حتى تستأذِنوا} فسقط مِن الكاتب. قال إسماعيلُ بن إسحاقَ: قوله: مِن خطأ الكاتب هو بقول سَعِيد بنِ جُبَيرٍ أشبهُ منه بقول ابن عبَّاسٍ لأنَّ هذا لا يجوز أن يقوله أحدٌ إذ كان القرآن محفوظًا، قد حفظه الله مِن أن يأتيه الباطل مِن بين يديه ولا مِن خلفه.
          وقد رُوي عن مُجَاهدٍ أنَّ الاستئناسَ: التَّنَحْنُحُ والتَّنخُّمُ إذا أراد أن يدخل، وروى ابن وَهْبٍ عن مالكٍ أنَّه الجلوس، قال تعالى: {وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} [الأحزاب:53] وقال عُمَرُ حين دخلَ على رسول الله صلعم في حديث المشْرُبة: ((أستأنِسُ يا رسول الله؟ قال: نعم، فجلس عُمَرُ)).
          قال إسماعيلُ: وأحسبُ معنى الاستئناس _والله أعلم_ إنَّما هو أن يستأنِسَ بأنَّ الذي يدخل عليه لا يَكره دخوله يدلُّ على ذلك قول عُمَرَ ☺ السالف، فدلَّ قوله على أنَّه أحبَّ أن يُعلم أنَّه صلعم لا يَكره جلوسَه، وهذا ممَّا يضعِّفُ ما رُوي عن سعيدِ بنِ جُبَيرٍ، عن ابن عبَّاسٍ ☻، عن عُمَرَ.
          قلت: والاستئناس في اللُّغة: الإعلامُ، ومنه: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} [النساء:6].
          قال المهلَّبُ: ومعنى الاستئذان: هو خوفٌ أن يفجأ الرجلُ أهلَ البيتِ على عورةٍ فينظرَ ما لا يحلُّ له يدلُّ عليه قوله ◙: ((إنَّما جُعل الاستئذان مِن قِبَل البصر)).
          وقال الطَّحاويُّ: الاستئناسُ الاستئذانُ في لغةِ أهل اليمن، وهو موجودٌ فيها إلى الآنَ.
          قال الفرَّاءُ: تقول العرب: اِستأنِسُ فانظر هل في الدار أحدٌ، بمعنى: أستأذنُ به.
          فَصْل: قام الإجماع على مشروعيَّةِ الاستئذان، فالسُّنَّة أن يسلِّم ويستأذن ثلاثًا ليجمع بين السَّلام والاستئذان، كما هو مصرَّحٌ به في القرآن العظيم.
          واختلفوا في أنَّه هل يستحبُّ تقديم السَّلام ثمَّ الاستئذان، أو عكسه؟ والصَّحيح الأوَّلُ، وبه قال المحقِّقُون، وبه جاءت السُّنَّة، فيقول: السَّلام عليكم أأدخلُ؟
          واختار الماوردِيُّ وجهًا ثالثًا أنَّه إن وقعت عينُ المستأذن على صاحب البيت قبل دخوله، قدَّم السَّلام، وإلَّا قدَّم الاستئذان، وصحَّ عن رسول الله صلعم حديثانِ في تقديم السَّلام.
          فَرْعٌ: إذا استأذَنَ ثلاثًا فلم يُؤذن له، فظنَّ أنَّه لم يسمعه ففيه ثلاثة مذاهبَ: أظهرها: أنَّه ينصرف ولا يعيد الاستئذان، وثانيها: يزيد فيه، قال مالكٌ: لا بأس به، وهو تأويل قوله: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور:27]، وثالثها: إن كان بلفظ الاستئذان المتقدِّم لم يُعدْه وإن كان بغيره أعاده.
          فمن قال بالأظهر فحجَّته قوله في الحديث: ((فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَرْجِعْ)) كما سيأتي [خ¦6245]، ومَن قال بالثاني حمل الحديث على مَن علم أو ظنَّ أنَّه سمعه. وقول أُبيِّ بن كعبٍ فيه: والله لا يقومُ معكَ إلَّا أصغرُ القوم، معناه: أنَّ هذا حديثٌ مشهورٌ بيننا، معروفٌ لكبارنا وصغارنا.
          وقد تعلَّق به مَن يقول: لا يُحتجُّ بخبر الواحد وأنَّ عُمَرَ ردَّ حديث أبي موسى هذا لكونه خبرَ واحدٍ، وهو باطلٌ والإجماع يردُّه ممَّن يُعتدُّ به فيه، ودلائله مِن فعل الشَّارع والخلفاء الراشدين وسائر / الصَّحابة ومَن بعدهم، وقول عُمَرَ لأبي موسى: أقم البَيِّنَةَ، ليس معناه ردُّ خبر الواحدِ مِن حيث هو خبرُ واحدٍ، ولكن خاف مِن مسارعة النَّاس إلى التقوُّل على رسول الله صلعم ما لم يقل مِن بعض المبتدعة أو الكذَّابين أو المنافقين، فَيَضَعُ كلُّ مَن وَقَعَت له قِصَّةٌ حديثًا فيها، فأراد سدَّ الباب خوفًا مِن غير أبي موسى لا شكًّا في روايته، فإنَّه كان عند عُمَرَ ☺ أجلَّ مَن أن يظنَّ به أنَّه يُحدِّث عن رسول الله صلعم ما لم يَقُل، وإنَّما أراد زجرَ غيره بطريقِهِ فإنَّ مَن دون أبي موسى إذا رأى هذه القضيَّةَ أو بَلَغَتهُ وكان في قلبه مرضٌ أو أراد وضعَ حديثٍ خاف مِن مثل قضيَّةِ أبي موسى فامتنع مِن وضعه والمسارعةِ في الرواية بغير يقينٍ، وممَّا يدلُّ على أنَّ عُمَرَ ☺ لم يردَّ خبرَه لكونه خبرَ واحدٍ أنَّه طلب منه إخبار رجلٍ آخرَ حتَّى يعلم الحديث، ومعلومٌ أنَّ خبر الاثنين خبرُ واحدٍ، يوضَّحه ما في مسلمٍ أنَّ أُبيًّا لَمَّا شهد لأبي موسى قال: يا ابن الخطَّاب لا تكن عذابًا على أصحاب رسول الله صلعم فقال: سبحانَ الله أنا سمعتُ شيئًا فأحببتُ أن أتثبَّتَ.
          وأمَّا رواية: أقِم البَيِّنَةَ وإلَّا أوجعتك، وفي أخرى: والله لأوجعنَّ ظهرَك وبطنَك أو لتأتينِّي بمن يشهَدُ، وفي أخرى: لأجعلنَّكَ نَكَالًا، فكلُّها محمولةٌ على أنَّ التقدير: لأفعلنَّ بك هذا الوعيد إن بانَ أنَّك تعمَّدتَ كذبًا، وقوله: فهاهِ وإلَّا جعلتك عِظةً، أي: فهاتِ البَيِّنَةَ، وضحك القوم مِن رؤيتهم فزعَ أبي موسى وخوفَه مِن العقوبة مع أنَّهُم قد أمنوا أن يناله عقوبةٌ أو غيرها لقوَّةِ حُجَّته وسماعهم ما أنكر عليه في رسول الله صلعم، وقد سلف طرفٌ منه في البيوع.
          فَصْلٌ: وقوله: {حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ} [النور:28] أي: يأذن لكم أهلها بالدخول لأنَّهُ لا ينبغي أن يدخل منزلَ غيرِه وإن علم أنَّه ليس فيه أحدٌ حتَّى يأذن له صاحبُهُ.
          وقوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ} [النور:29] قال مُجَاهدٌ: كانت بيوتًا في طريق المدينة يجعلون فيها أمتعتهم، وقيل: هي الخاناتُ، وقال عطاءٌ: {فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ}: للخَلَاءِ والبول.
          فَصْلٌ: و(سَعيدُ بنُ أبي الحَسَنِ) هذا هو أخو الحسنِ البصرِيِّ، تابعيٌّ ثقةٌ، قال البخاريُّ: مات قبل الحسن.
          فَصْلٌ: وقوله: (مِنْ أَبْصَارِهِمْ) (مِنْ) هنا لبيان الجنس، وقد جاء في نظر الفجأةِ الأمر بصرف البصر.
          ولا شكَّ في أنَّ غضَّ البصر مأمورٌ به للآيتين المذكورتين في الباب أَلَا ترى صرف النَّبيِّ صلعم لوجه الفَضْلِ عن المرأة، ونهيه صلعم عن الجلوس على الطُّرُقات إلَّا أن يُغضَّ البصر، وإنَّما أمَرَ اللهُ بغضِّ الأبصار عمَّا لا يحلُّ لئلَّا يكون البصر ذريعةً إلى الفتنة، فإذا أُمنت فالنظر مباحٌ أَلَا ترى أنَّه صلعم حوَّل وجه الفَضْلِ حين علم بإدامته النَّظر إليها أنَّه أعجبه حسنُها، فخشي عليه الشيطانَ.
          وما ذكره في (خائنة الأعيُن) قال ابن عبَّاسٍ: هو الرَّجل ينظر إلى المرأة، فإذا نظر إليه أصحابه غضَّ بصره. وقد علم الله سبحانه أن يردَّه لو نظر إلى عورتها، وقول الزُّهريِّ صحيحٌ، ومعناه: في غير الصغيرة جدًّا؛ قد مسَّت أمُّ خالد خاتَمَ النُّبوَّةِ الذي كان بين كتفي رسول الله صلعم، ونهى الشارع مَن نهاها، وقد سلف أنَّ فيه حُجَّةً لأشهبَ أنَّ الرجل يُغسِّل الأجنبيَّةَ الصغيرةَ الميِّتَةَ، وأنَّ ابن القاسم لا يجيز ذلك.
          فَصْلٌ: وفيه مغالبةُ طباع البشر لابن آدمَ، وضعفه فيما تركَّبَ فيه مِن الميل إلى النِّساء والإعجاب بهنَّ، وفيه دليلٌ أنَّ نساء المؤمنين ليس لزوم الحِجَاب لهنَّ فرضًا في كلِّ حالٍ كلزومه لأُمَّهاتِ المؤمنين، ولو لزم جميع النِّساء فرضًا لأمَرَ الشارع الخثعميَّةَ بالاستتار، ولَمَا صرَف وجه الفضل عن وجهها، بل كان أمرهُ بصرف بصرِه ويُعلمه أنَّ ذلك فرضه، فصرف وجهه وقت خوفِ الفتنة وتركَهُ قبل ذلك الوقت.
          وهذا الحديث يدلُّ أنَّ ستر المؤمنات وجوههنَّ عن غير محارمهنَّ سنَّةٌ لإجماعهم أنَّ للمرأة أن تبدي وجهها في الصَّلاة ويراه الغرباء، وأنَّ قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30] على الفرض في غير الوجه، فإنَّ غضَّ البصر عن جميع المحرَّماتِ وكلِّ ما يُخشى منه الفتنةُ واجبٌ.
          وقد قال ◙: ((لا تُتبع النَّظْرةَ النَّظْرةَ؛ فإنَّما لك الأولى وليس لك الثَّانية))، وهذا معنى دخول (مِن) قولَه تعالى: ({مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:34]) لأنَّ النَّظرة الأولى لا تُملك، فوجب التبعيض لذلك بما قدَّمناه، ولم يقل ذلك في الفُرُوج لأنَّها تُملك.
          فَصْلٌ: فإردافه الفَضْلَ خلفَه على عَجُز رَاحِلتِهِ ظاهرٌ في جواز الإرداف، وقد مرَّ، و(عَجُز) _بفتح أوَّلهِ وضمِّ ثانيه_ أي: آخرها.
          وقوله: (وَكَانَ الفَضْلُ وَضِيئًا) أي: حسنًا نظيفًا، أصله: وَضُأ مثل كرُم.
          وقوله: (فَأَخْلَفَ يَدَهِ فَأَخَذَ بِذَقَنِ الفَضْلِ) أي: أدارها مِن خلفه، يُقال: أخلفَ الرَّجُل بيدِهِ إلى سيفه: مدَّها إليه ليأخذه عند حاجته إليه، وأخلفَ إلى مؤخَّر رَاحِلَتِهِ أو فرسِهِ كذلك، وقال هنا: (وَالفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا)، وفي «الموطَّأ»: ((وتنظرُ هي إليه)).
          والذَّقَن _بفتح القاف والذَّال_: مجتمَعُ اللَّحيين، قيل: وكان الفَضْلُ يومئذٍ صبيًّا، وغُلِّط لقوله: (وَكَانَ رَجُلًا وَضِيئًا)، وليس صريحًا فيه، فإن قلت: سمَّاه بما يؤولُ إليه أمره قيل: الظاهر منه وصف حالِهِ حينئذٍ، وأيضًا فإنَّه كان أكبر مِن أخيه عبد الله، وكان عبدُ الله في حجَّةِ الوداع ناهَزَ الاحتلام.
          فَصْلٌ: قوله: (إِيَّاكُمْ وَالجُلُوسَ بِالطُّرُقَاتِ) هي جمع طُرُق، وطُرُق جمع طريقٍ.