التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب تسليم الرجال على النساء والنساء على الرجال

          ░16▒ بابُ تَسْلِيمِ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ، والنِّسَاءِ عَلَى الرِّجَالِ.
          6248- ذكر فيه حديث سهلِ بنِ سعدٍ ☺ قال: (كُنَّا نَفْرَحُ يَوْمَ الجُمُعَةِ قُلْتُ: وَلِمَ؟ قَالَ: كَانَتْ لَنَا عَجُوزٌ، تُرْسِلُ إِلَى بُضَاعَةَ _قَالَ ابْنُ مَسْلَمَةَ يعني عبدَ اللهِ نَخْلٍ بِالْمَدِينَةِ_ فَتَأْخُذُ مِنْ أُصُولِ السِّلْقِ، فَتَطْرَحُهُ فِي قِدْرٍ، وَتُكَرْكِرُ حَبَّاتٍ مِنْ شَعِيرٍ، فَإِذَا صَلَّيْنَا الجُمُعَةَ انْصَرَفْنَا، فَنُسَلِّمُ عَلَيْهَا فَتُقَدِّمُهُ إِلَيْنَا، فَنَفْرَحُ مِنْ أَجْلِهِ، وَمَا كُنَّا نَقِيلُ وَلاَ نَتَغَدَّى إِلَّا بَعْدَ الجُمُعَةِ).
          وقد سلف [خ¦938].
          ومعنى: (تُكَرْكِرُ): تَطْحَنُ بتكرارِ عَود الرَّحا، والكَرْكَرةُ: صوتٌ يردِّده الإنسان في جوفِهِ كما يُجرجره الرَّحا.
          قال صاحب «الأفعال»: الكَرْكَرةُ: تصريفُ الرِّياح للسَّحاب إذا جَمَعَتْهُ بَعْدَ تفرُّق، وتكَرْكَرَ السَّحابُ إذا ترادَّ في الهواء، والكَرْكَرةُ في الضَّحك مثل القَرْقَرةِ، وأصله تكرَّر مِن التكرير، قاله الجَوْهَرِيُّ، وقال الخطَّابيُّ: بالكاف أكثر مِن القاف في الضَّحكِ.
          6249- وحديث مَعْمَرٍ، عن الزُّهريِّ، عن أبي سَلَمَةَ بن عبد الرَّحمن، عن عائِشَةَ ♦ قالت: قال رسول الله صلعم: (يا عائشةُ، هذا جبريل يقرأُ عليك السَّلام، قالت: قلتُ: و◙ ورحمة الله، تَرى ما لا نَرى، تريدُ رسولَ الله صلعم) تابعهُ شعيبٌ، وقال يونُسُ والنُّعمانُ، عن الزُّهريِّ: (وبَركَاتُهُ).
          وقد سلف قريبًا [خ¦3217]. و(النُّعمان) هو ابن راشدٍ الرَّقِّيُّ، وأسنده الإسماعيليُّ مِن حديث إبراهيمَ أبي إسحاقَ الشاميِّ: حدَّثنا ابن المباركِ، فذكره بلفظ: ((وبركاته))، ثمَّ قال: وقال ابنُ وَهْبٍ عن يُونُسَ وعَقِيلٍ وعُبَيْدِ الله بن أبي زيادٍ كلُّهم قالَ: ((وبركاته)).
          قال المهلَّبُ: السَّلام على النِّساء جائزٌ إلَّا على الشابَّاتِ منهنَّ؛ فإنَّه يُخشى أن يكون في مكالمتهنَّ بذلك خائنةُ الأعين أو سرعةُ شيطانٍ، وفي ردِّهِنَّ مِن الفتنة ممَّا خِيف مِن ذلك أن يكون ذريعةً تُوقِفُ عنه إذ ليس ابتداؤه مفترضًا وإنَّما المفترض منه / الردُّ، وأمَّا المتجالَّات والعجائزُ فهو حَسَنٌ؛ إذ ليس فيه خوفُ ذريعةٍ، هذا قول قَتَادَة، وإليه ذهب مالكٌ وطائفةٌ مِن العلماء.
          وقال الكوفيُّون: لا يسلِّم الرجل على النَّساءِ إذا لم يكن منهنَّ ذوات مَحْرَمٍ، وقالوا: لَمَّا سقط عن النِّساء الأذانُ والإقامةُ والجهرُ بالقراءة في الصَّلاة سقط عنهنَّ ردُّ السَّلام فلا يُسلَّم عليهنَّ.
          قلت: الإقامة مستحبَّةٌ عندنا على المشهور، وقال ابن وَهْبٍ: بلغني عن ربيعةَ أنَّه قال: ليس على النِّساء التَّسليمُ على الرجال ولا عكسُهُ.
          وروى أبو نُعَيْمٍ مِن حديث بكَّار بن تميمٍ عن مَكْحُولٍ عن وَاثِلَةَ مرفوعًا: ((يسلِّم الرجال على النِّساء، ولا تسلِّم النِّساءُ على الرجال)).
          وحجَّة مالكٍ ومَن وافقه حديثُ الباب أنَّهم كانوا يسلِّمُون على العجوز يوم الجمعة مع رسول الله صلعم ولم تكن ذاتَ مَحْرَمٍ منهم، وحديث عائِشَةَ ♦ أنَّه صلعم بلَّغها سلامَ جبريلَ، وفي ذلك أعظمُ الأُسوةِ والحجَّة.
          وحاصلُ مذهبنا أنَّ سلامَها على الرجال إن كانت زوجتَه أو جاريتَه أو مَحْرَمًا مِن مَحَارِمه فهي معه كالرجل يُستحبُّ لكلِّ واحد منهما ابتداءُ الآخر بالسَّلام، ويجب على الآخر الردُّ، فإن كانت أجنبيَّةً فإن كانت جميلةً يُخاف الافتتانُ بها فلا يسلِّم عليها الرجلُ، وإن سلَّم لم يجز لها ردُّ الجواب، ولم تسلِّم هي عليه ابتداءً، فإن سلَّمت لم تستحقَّ جوابًا، فإن أجابها كُره له، وإن كانت ممَّن لا يُفتتن بها جاز أن تسلِّم على الرجل، وعلى الرجل ردُّ السَّلام عليها، فإن كنَّ النِّساء جماعةً يسلِّم عليهنَّ الرجل، أو كان الرجال جماعةً فسلَّموا على المرأة الواحدة جاز إذا لم يُخَف عليهنَّ ولا عليه ولا عليهم فتنةٌ.
          فَصْل: (بُضاعَة) بضمِّ الباء ويجوز كسرها، وإليه تُنسب بئر بُضاعةَ. قال الجَوْهَرِيُّ: بئر بُضاعةَ الذي في الحديث يُكسر ويُضمُّ.
          وقوله: (مَا كُنَّا نَقِيلُ) هو ثلاثيٌّ، بفتح النُّون، ومنه قوله تعالى: {قَائِلُونَ} [الأعراف:4].
          فَصْلٌ: اعترض الدَّاوديُّ على إدخاله حديث عائِشَةَ في الباب لأنَّ الملائكة لا يُقال لهم: رجالٌ ولا نساءٌ، ولكن الله خاطبَهم بالتذكير.
          فَصْلٌ: فيه أنَّ المسلَّم عليه يردُّه أكثرَ، وقد سلف في قوله: {فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا} [النساء:86] [خ¦6230]، وفي حديث عائِشَةَ ♦ دلالةٌ على أنَّ مَن بُلِّغَ إليه سلامُ غائبٍ يردُّ ◙ كما يردُّ على الحاضر.
          فَصْل: قال الإسماعيليُّ: فيه بيانٌ أنَّ بئرَ بُضاعةَ هي بئرٌ ببستانٍ، وأنَّ ما يُطرح فيها لا يكون في بئرٍ لأنَّها تمتلئ سريعًا، ولكن يُطرح في البستانِ فيجري مِن مطرٍ إن كان منه شيءٌ إليها.