التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: الاستئذان من أجل البصر

          ░11▒ بابُ الاسْتِئذَانِ مِن أَجْلِ البَصَرِ.
          6241- ذكر فيه حديث سُفْيَانَ قال الزُّهريُّ: حفظتُهُ كما أنَّك ههنا، عن سهلِ بن سعدٍ السَّاعديِّ قال: (اطَّلَعَ رَجُلٌ مِنْ جُحْرٍ فِي حُجَرِ رسول الله صلعم، وَمَعَه مِدْرًى يَحُكُّ بِهِ رَأْسَهُ، قَالَ: لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تَنْظُرُ لَطَعَنْتُ بِهِ فِي عَيْنِكَ، إِنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ البَصَرِ).
          6242- وحديث أنسٍ ☺: (أَنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ مِنْ بَعْضِ حُجَرِ رسول الله صلعم، فَقَامَ إِلَيْهِ بِمِشْقَصٍ، أَوْ: بِمَشَاقِصَ، فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ يَخْتِلُ الرَّجُلَ لِيَطْعُنَهُ).
          الشَّرح: الكلام على ذلك مِن وجوهٍ:
          أحدها: الجُحْرَةُ: بضمِّ أوِّله وإسكان ثانيه: المخرقُ، والمِدْرى: _بكسر الميم_ يشبهُ المِشْطَ، وهي منوَّنةٌ لأنَّ وزنه مِفْعَل، ليس فعلًا، قال ابن فارسٍ: تَدَرَّتِ المرأةُ إذا سَرَّحتْ شَعْرها.
          قلتُ: ومن أنَّثه قال: مِدْراة، وقد جاء في الشِّعْر: مِدْراة، والجمع: المَدَارَى.
          والمِشْقص _بكسر الميم أيضًا_: نَصْلُ السَّهْمِ إذا كان طويلًا غير عريضٍ، فإن كان عريضًا فهو الْمِعْبَلَةُ. وعبارةُ الجَوْهَرِيِّ: المِشْقَصُ هو الطويلُ مِن النِّصال العريضُ. وقال الخطَّابيُّ: هو نَصْلٌ عريضٌ. وقيل: هو سهمٌ فيه سنٌّ عريضٌ، وقيل: هو الطَّويل ليس بعريضٍ.
          ثانيها: (يَختِلُ) بكسر التاء المثنَّاة فوق، أي: يحتالُ، يراوغُهُ ويَسْتَغْفِلُه ويَطْعنُهُ، قال الجَوْهَرِيُّ: طعنه بالرُّمح وطعن في السِّن يطعُن بالضمِّ طعنًا، قال: وطعن فيه بالقول يطعُن أيضًا طَعنًا وطعنًا، قال ابن فارسٍ عن بعضهم: طَعَنَ بالرُّمح، وطَعَن بالقَولِ يَطْعَنُ بالفتح.
          ثالثها: الحديث دالٌّ على هدرِ المفعول به، وجواز رميه بشيءٍ خفيفٍ، قيل: إنَّ ذلك على وجه التهديد والتغليظ ولو وقع الفعل للضُّرِّ وقد لا يكون بتلك العقوبةُ، وقد يفعل الأئمة في التغليظ والإرهاب، وكذا مَن عضَّ رجلًا فَنَدَرَتْ سِنُّه يُقتصُّ منه عند مالكٍ خلافًا للشَّافعيِّ وابن نافعٍ، قال يحيى بن عُمَرَ: ولعلَّه لم يبلغه الحديث.
          وهل يجوز الرَّمْيُ قبل الإنذار؟! فيه وجهان، أصحُّهما: نعم لظاهر الحديث.
          رابعها: هذا الحديث يبيِّن معنى الاستئذان، وأنَّه إنَّما جُعل خوفَ النظر إلى عورة المؤمن وما لا يحلُّ منه، فلا يحلُّ لأحدٍ أن ينظر في جُحر بابٍ وشبههِ ممَّا هو متعرِّضٌ لوقوع النظر على أجنبيَّةٍ.
          وفي «الموطَّأ» عن عطاءِ بن يَسَارٍ ((أنَّ رجلًا قال: يا رسولَ اللهِ أستأذنُ على أميِّ؟ قال: نعم قال: إنِّي معها في البيت! قال استأذِنْ عليها أتحبُّ أن تراها عُرْيَانةً؟! قال: لا، قال: فاستأذِنْ عليها)).
          ورُوي عن عليٍّ ☺ أنَّه قال: لا يدخل الغلام إذا احتلمَ على أمِّه وعلى أختِهِ، إلَّا بإذنٍ.
          وأصلُ هذا كلِّه في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} الآية [النور:58] قال أبو عُبَيدٍ: فأمَّا ذكور المماليك فعليهم الاستئذانُ في الأحوال كلِّها.
          خامسها: هذا الحديث يردُّ قول أهل الظاهر ويكشف غلطَهم في إنكارهم العِلَل والمعاني وقولهم: إنَّ الحكم للأسماء خاصَّةً؛ لأنَّه صلعم علَّل الاستئذان أنَّه إنَّما جُعل مِن قِبَل البصر، فدلَّ ذلك على أنَّه صلعم أوجب أشياءَ وحظر أشياءَ مِن أجل معانٍ علَّق التحريم بها، ومَن أبى هذا ردَّ نصَّ السُّنن، وقد وردَ القرآن بمثل هذا كثيرًا مِن قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ} [الأنبياء:31]، وقوله: {مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى}، إلى قوله: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر:7]، وقوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} [البقرة:150]، وقوله: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا} [سبأ:17] في مواضعَ كثيرةٍ تطول، فلا يُلتفت إلى مَن خالف ذلك.