التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب بدء السلام

          ░1▒ بابُ: بَدْءِ السَّلَامِ.
          6227- ذكر فيه حديث أبي هُرَيْرَةَ ☺، عن النَّبيِّ صلعم قال: (خَلَقَ اللهُ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ، طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، فَلَمَّا خَلَقَهُ قَالَ: اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ نَفَرٍ مِنَ المَلاَئِكَةِ جُلُوسٌ فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَكَ، فَإِنَّهَا تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ، فَقَالَ: السَّلام عَلَيْكُمْ، فَقَالُوا: السَّلام عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللهِ، فَزَادُوهُ: وَرَحْمَةُ اللهِ، فَكُلُّ مَنْ يَدْخُلُ الجنَّة عَلَى صُورَةِ آدَمَ، فَلَمْ يَزَلِ الخَلْقُ يَنْقُصُ بَعْدُ حَتَّى الآنَ).
          الشَّرح: معنى (بَدْء السَّلَام): أوَّل ما شُرع.
          وقوله: (خَلَقَ اللهُ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ) الهاء في (صُورَتِهِ) تعود على (آدَمَ)، وقيل: على مضروبٍ في وجهه، وقيل: على (الله)، فمن قال بالأوَّل احتجَّ بأنَّه أقربُ مذكورٍ إلى الضمير، ويكون فائدةُ ذلك إتمام نِعَم اللهِ على أبينا آدم صلعم لِمَا فضَّله به مِن خَلْقِهِ بيده وسجودِ الملائكة له وأنَّه لم يعاقِبه كغيره، وذلك أنَّ في الخبر: لَمَّا أُخرج من الجنَّة أخرج معه الحيَّةَ والطَّاووس، فعاقبَ الحيَّة بأن شَوَّهَ خلقَها وسلبَها قوائمَها وجعل أكلها مِن التُّراب، وشوَّه خلق رِجْلَي الطَّاووسِ، وأبقى آدمَ على هيئتِهِ.
          ففائدةُ التَّعْرِيف: الفرق بينه وبين المُخْرَجِ معه، وقيل: فيه إبطالُ قول الدهريَّةِ أنَّه لم يكن إنسانٌ إلَّا مِن نطفةٍ، ولا نطفةٌ إلَّا مِن إنسانٍ، ليس لذلك أوَّلٌ ولا آخرٌ، فعرَّفنا الشارع تكذيبَهم، وأنَّ أوَّلَ البشر آدمُ خُلق على صورتِهِ لم يُخلق مِن نطفةٍ، ولا مِن تناسلٍ، ولا كان طفلًا، ولا سكن رَحِمًا، وقيل: لأنَّ الله خلَقَهُ مِن غير أنْ كان ذلك على تأثير طبعٍ ولا عنصرٍ إبطالًا لقول الطبائعيِّين أنَّ آدم خُلق مِن فعل الطَّبع وتأثيره.
          وذكر ابن فُورَك أنَّ أظهر التَّأويل في ذلك أنَّ الحديث خرج على سببٍ، وذلك أنَّه صلعم مرَّ على رجلٍ يضرب ابنَه أو عبدَه في وجهِهِ لطمةً، ويقول: قبَّح الله وجهَكَ ووجهَ مَن أشبهَ وجهَكَ، فقال ◙: ((إذا ضربَ أحدُكُم عبدَه فليتَّقِ الوجهَ فإنَّ الله خلقَ آدمَ على صُورتِهِ))، فزجره عن ذلك لأنَّه قد يسبُّ الأنبياء والمؤمنين، وخُصَّ آدم بالذِّكْر لأنَّه الذي ابتُدِئت خِلْقَة وجهه على الحدَّ الذي يخلِقُ عليها سائرُ ولده، قالها على هذا الوجه كنايةً عن المضروب في وجهِهِ، فنقل بعضهم هذه القصَّة مع هذه اللَّفظة.
          وأضعفُ الوجوه أن تكون الهاء كنايةً عن الله مِن قِبل أنَّ الضمير يعود إلى أقرب مذكورٍ إليه، إلَّا أنْ تدلَّ دلالةً على خلاف ذلك، وعلى هذا التأويل يكون معنى الصُّورة معنى الصِّفة، كما يُقال: عرِّفني صُورة هذا الأمرِ، أي: صِفته، ولا صُورةَ للأمر على الحقيقة، ويكون تقدير التَّأويل: إنَّ الله خلق آدمَ على صِفته، أي: خلَقَهُ حيًّا عالمًا سميعًا بصيرًا متكلِّمًا مختارًا مريدًا، فعرَّفَنَا بذلك إسباغَ نعمةِ الله عليه وتشريفَهُ بهذه الخصالِ.
          ونظرنا في الإضافة إلى الله فوجدناها على وجوهٍ: منها إضافةُ الفعل كما يُقال: خلقُ الله وأرضُ الله، وإضافةُ المُلْك كما يُقال: رزقُ الله وعبدُ الله، وإضافة اختصاصٍ وتنويهٍ بذكر المضاف إليه كقولهم: الكعبة بيتُ الله وكقوله: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر:29]، ووجهٌ آخرٌ مِن الإضافة نحو قولهم: كلام الله وعِلْمه وقُدْرتُهُ، وهي إضافة اختصاصٍ مِن طريق القيام به وليس مِن جهة الملك والتَّشريف، / بل ذلك على معنى أنَّ ذاته غيرُ متعرِّيةٍ بها قيامًا بها ووجودًا، ثمَّ نظرنا إلى إضافة الصُّورة إلى الله تعالى، فلم يصحَّ أن يكون وجه إضافتها إليه على نحو إضافة الصِّفة إلى الموصوف بها، مِن حيث تقوم به لاستحالة أن يقوم بذاته حادثٌ، فبقي مِن وجوه الإضافة: الملك والفعل والتشريف، فأمَّا الأوَّلانِ فوجهُهُ عامٌّ وتبطلُ فائدة التخصيص فبقي الثالث، وطريق ذلك أنَّ الله هو الذي ابتدأ تصويرَ آدمَ لا على مِثالٍ سبقَ، بل اخترعه مع مَن بعدَه على مِثاله، فشرُفت صورتُهُ بالإضافة إليه، لا أنَّه أُريد به إثباتُ صورةٍ للهِ على التحقيق هو بها مُصوَّرٌ لأنَّ الصُّورة هي التأليف والهيئة، وذلك لا يصحُّ إلَّا على الأجسام المؤلَّفة، والباري تَعَالى عن ذلك.
          وقيل: المعنى في رجوع الهاء إلى آدمَ تكذيبُ القدريَّةِ لَمَّا زَعَمَت أنَّ مِن صورة آدم وصِفاته ما لم يخلقه الله تعالى، وذلك أنَّهم يقولون: إنَّ صفات آدمَ على نوعين: منها ما خَلَقَها الله، ومنها ما خَلَقَها آدم لنفسه، فأخبر صلعم فكذَّبهُم وأنَّ الله خَلَقَه على جميع صُورته وصِفاته وأعراضه، ويحتمل أن يكون رجوع الهاء إليه أيضًا مِن وجهٍ آخرَ على أصول السُّنَّة أنَّ الله خلق السعيد سعيدًا والشقيَّ شقيًّا، وخلق آدم وعَلِم أنَّه يعصيه ويخالف أمره، وسبق العلم بذلك، وأنَّه يعصي ثمَّ يتوب تنبيهًا على وجوب جريان قضاء الله على خلقه، وأنَّه إنَّما تحدثُ الأمور وتتغيَّرُ الأحوال على حسب ما يُخلق عليه المرء ويُيسَّر له، قال: وقال بعضُهم: الهاء تعود على بعض الشَّاهدين مِن النَّاس.
          فالفائدة في ذلك تعريفنا أنَّ صُورة آدمَ كانت كهذه الصُّورة إبطالًا لقول مَن زعم أنَّها كانت على هيئةٍ أخرى مِن ذِكر طُولِهِ وقامتِهِ، وذلك ما لا يُوْثَقُ به إذ ليس في ذلك خبرٌ صحيحٌ، وإنَّما القول في مثلِهِ على نقْلِ وَهْبٍ مِن أحاديث التوراة ولا بيِّنةَ في شيءٍ مِن ذلك، ولم يثبت مِن جهةٍ أخرى أنَّ خِلْقة آدمَ مخالفةٌ لهذه الخِلْقة، وهذا خلافُ نصِّ الحديث.
          ورُوي عن مالكٍ أنَّه نهى أن يُتحدَّث مثلُ هذا الحديث فذُكر له فيه ابن عَجْلَانَ، فقال: لم يكن مِن أهل العلم، وذُكر له أبو الزِّنَادِ فقال: ما زال عاملًا لهؤلاءِ حتَّى ماتَ.
          فَصْلٌ: قال المهلَّبُ: الحديث يدلُّ على أنَّ الملائكةَ في الملأ الأعلى يتكلَّمُون بلسان العرب، ويتحيَّون بتحيَّةِ الله، وأنَّ التحيَّةَ السَّلامُ، هي التي أراد الله أن يُتحيَّا بها.
          فَصْلٌ: وفيه الأمر بتعلُّمِ العِلم مِن أهله، والقصدِ إليهم فيه، وأنَّه مَن أخذ العلم ممَّن أمرَه الله بالأخذ عنه، فقد بلغ العُذرَ في العبادة وليس عليه ملامةٌ لأنَّ آدم أمرَهُ الله أن يأخذ عن الملائكة ما يحيُّونَه، وجعلها له تحيَّةً باقيةً وهو تعالى أعلمُ مِن الملائكة، ولم يُعلَّم إلَّا ليكون سُنَّةً.
          فَصْلٌ: وقوله: (فَلَمْ يَزَلِ الخَلْقُ يَنْقُصُ حَتَّى الآنَ) هو في معنى قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ. ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} [التين:4-5]، ووجهُ الحكمة في ذلك أنَّ الله تعالى خلق العالم بما فيه دالًّا على خالقٍ حكيمٍ، وجعل في حركاتِ ما خلق دليلًا على فَنَاء هذا العالم وبُطلانِهِ، خلافًا للدهريَّةِ التي تَعْبُدُ الدَّهرَ وتزعُمُ أنَّه لا يفنى، فأبقى الله هذا النَّقص دلالةً على بطلان قولهم لأنه إذا جاز النقص في البعض، جاز الفناء في الكلِّ.
          فَصْلٌ: وقوله: (السَّلام عَلَيْكُمْ) هكذا كان ابن عُمَرَ ☻ يقول في سلامِهِ وفي ردِّهِ، وقال ابن عبَّاسٍ السَّلام ينتهي إلى البركة، ولا ينبغي أن يقول مِنَ السَّلام: سلامُ الله عليك، ولكنْ عليك السَّلام أو السَّلام عليك.
          فَصْلٌ: ابتداء السَّلام سُنَّةُ كِفَايةٍ، وقول القاضي حسينٍ مِن أصحابنا: ليس لنا سنَّةُ كِفَايةٍ إلَّا واحدًا، ليس كما ذَكَرَ فتشميتُ العاطس كذلك، وكذا الأُضحيَّةُ في حقِّ كلِّ أهل بيتٍ.
          والردُّ واجبٌ أفضل مِن الابتداء، وقيل: لا، بل هو لأنَّه محصِّلٌ له، وصرَّح به في «المعونة» والمعروف الأوَّل، فإن كان المُسلَّم عليهم جماعةً فالردُّ فرضُ كفايةٍ، خلافًا لأبي يُوسفَ: الأفضل ردُّهم أجمعُ، فإن ردَّ غيرُهم دونَهم أثِمُوا. وأقلُّ السَّلام: السَّلام عليكم، فإن كان واحدًا خاطبَ، والأفضلُ الجمع ليتناوله وملائكته، وأكمل منه زيادةُ ورحمة الله وبركاته اقتداءً بقوله تعالى: {رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} [هود:73] وكالتَّشهُّدِ.
          ويُكره: عليكم السَّلام، وقد قال صلعم لأبي جُرَيٍّ الهُجَيْمِيِّ: ((لا تقل: عليك السَّلام فإنَّ عليك السَّلام تحيَّةُ الموتى)) صحَّحه التِّرْمِذيُّ، وادَّعى ابن بطَّالٍ أنَّه لا يثبتُ، فإن قالها استحقَّ الجواب على الأصحِّ. وهذا الحديث قد ثبتَ عنه صلعم أَّنه قال في سلامه على القبور: ((السَّلام عليكم دارَ قوم مؤمنين))، وحيَّاهم بتحيَّةِ الأحياء.
          فَرْعٌ: وصِفةُ الردِّ: وعليكم السَّلام ورحمة الله وبركاته، والأفضل الواو، فلو حذفها جاز، وتركَ الأفضلَ، ولو اقتصر على: وعليكم السَّلام، أجزأه، قال ابن أبي زيدٍ: ولا تقل في ردِّك: سلام. وكان ابن عُمَرَ يقول في الردِّ والبُدَاءةِ: السَّلام عليك. ولو اقتصرَ على: عليكم، لم يُجزئه قطعًا، ولو قال: وعليكم، بالواو ففي إجزائه وجهانِ، وإذا قال ابتداءً: سلامٌ عليكم أو السَّلام عليكم، فقال المجيبُ مثلَهُ كان جوابًا وأجزأه، قال تعالى: {قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ} [هود:69]، ولكن بالألف واللام أفضلُ.
          فَرْعٌ: أقلُّ السَّلام ابتداءً وردًّا إسماعُ صاحبه، ولا يُجزئه دون ذلك لِمَا روى مسلمٌ مِن حديث المقداد: وأنَّه صلعم ((يسلِّم عَلَينا لا يوقظ نائمًا، ويُسْمِعُ اليقظانَ)).
          فَرْعٌ: يشترطُ كون الرَّدِّ على الفور، فإن أخَّره ثمَّ ردَّ لم يُعدَّ جوابًا وكان آثمًا بتركه.
          فَرْعٌ: أتاه سلامٌ عليه مع رسولٍ آخرَ أو في ورقةٍ، وجب الردُّ على الفور ويُستحب أن يردَّ على المبلِّغ أيضًا فيقول: وعليك وعليه السلام لِمَا، في الحديث أنَّ خديجة لَمَّا قال لها ◙: ((هذا جبريلُ يَقرأُ عليك مِن الله السَّلامَ))، فقالت: اللهُ السَّلامُ وعلى / جبريلَ السَّلامُ.
          ولأبي داودَ بإسنادٍ ضعيفٍ عن جدِّ رجلٍ قال: ((بعثني أبي إلى رسول الله صلعم فقال: أقرئه السَّلام، فقلتُ له صلعم، فقال: وعليكَ وعلى أبيك السَّلام)).
          فَرْعٌ: سلامُ الصَّغير على الكبير والقليل على الكثير وشِبهه مستحبٌّ، فلو عكسوا جاز وكان خلافَ الأفضل.
          فَرْعٌ: سيأتي مِن حديث أنسٍ ☺ أنَّه صلعم ((كان إذا سلَّم على قومٍ سلَّم عليهم ثلاثًا))، وهو محمولٌ على ما إذا كان الجمع كثيرًا.
          فَرْعٌ: في التِّرْمِذيِّ محسَّنًا مِن حديث أسماءَ بنت يَزِيدَ: ((مرَّ صلعم في المسجد فألوَى بيده بالتَّسليم))، وهو محمولٌ أنَّه جمع بين اللفظ والإشارة، كما في رواية أبي داودَ: ((فسلَّم علينا))، وأمَّا حديث عبد الله بن عمرٍو مرفوعًا: ((تسليمُ اليَهُود الإشارةُ بالأصابع، وتسليمُ النَّصَارى الإشارةُ بالكفِّ))، وإسناده ضعيفٌ كما قاله التِّرْمِذيُّ.
          فَرْعٌ: لو كان السَّلام على أصمَّ فينبغي الإشارة مع التلفُّظ ليحصل الإفهام، وإلَّا فلا يستحقُّ جوابًا، وإذا سلَّم عليه أصمُّ وأراد الردَّ عليه، فَلَو سلَّم على أخرسَ فأشار الأخرس باليد سقط عنه الفرضُ، وكذا لو سلَّم عليه أخرسُ بالإشارة استحقَّ الجوابَ.