مجمع البحرين وجواهر الحبرين

باب اليمين فيما لا يملك وفى المعصية وفى الغضب

          ░18▒ باب اليمين فيما لا يملك، وفي المعصية، واليمين في الغضب
          فيه حديث أبي موسى قال: أرسلني أصحابي إلى رسول الله صلعم أسأله الحملان، الحديث.
          وحديث عائشة في قصة الإفك.
          ثم ساق حديث أبي موسى أيضاً: أتيت رسول الله صلعم في نفر من الأشعريين، الحديث.
          في {لَا يَأْتَلِ} [النور:22] قولان:
          أحدهما: قول ابن عباس: / لا تقسموا لا تنفقوا، وهذه الحديث يؤيده.
          ثانيهما: لا تقصروا، من قولهم: ما ألوت أن أفعل، التقدير: ولا يحلف أهل الفضل أن يؤتوا، وعلى قول الكوفيين؛ لئلا يؤتوا، ومن قال: لا تقصروا، التقدير عنده عن [علي]: أن يؤتوا.
          فإن قلت: يؤتوا الجماعة، وفي الحديث: أن المراد الصديق؟ قلت: روى الضحاك، قال أبو بكر وغيره من المسلمين: لا نبر أحداً ممن ذكر عائشة، فنزلت هذه الآية.
          واليمين فيما لا يملك في حديث الأشعريين معناه: أنه ◙ حلف أن لا يحملهم، فكان ظاهر هذه اليمين الإطلاق والعموم، ثم آنسهم بقوله: ((وما عندي ما أحملكم عليه)) ومثال هذا: أن يحلف رجل أن لا يهب ولا يتصدق ولا يعتق، وهو في حال حينه لا يملك، ثم يطرأ له بعد ذلك مال فيهب أو يتصدق أو يعتق، فعند جماعة الفقهاء: أنه تلزمه الكفارة إن فعل شيئاً من ذلك كما فعل الشارع وبالأشعريين أنه تحلل من يمينه، وأتى الذي هو خير، ولو حلف أن لا يهب ولا يتصدق ما دام معدماً، وجعل العدم علة لامتناعه من ذلك، ثم طرأ له بعد ذلك مال، لم يلزمه عند الفقهاء كفارة إن وهب أو تصدق أو أعتق؛ لأنه إنما وقع يمينه على حالة العدم لا على حالة الوجود، هذا ما في حديث أبي موسى من معنى اليمين فيما لا يملك.
          فصل
          واختلف في هذا المعنى إذا حلف الرجل يعتق ما لا يملك إن ملكه في المستقبل.
          فقال مالك: إن عين أحداً أو قبيلة أو جنساً لزمه العتق، وإن قال: كل مملوك أملكه أبداً حر لم يلزمه عتق، ولذلك في الطلاق إن عين قبيلة أو بلدة أو صفة ما لزمه الحنث، وإن لم يعين لم يلزمه. وقال أبو حنيفة وأصحابه: يلزمه الطلاق والعتق، سواء عم أو خص.
          وقال الشافعي: لا يلزمه لا ما خص ولا ما عم، وأجمعوا إذا حلف بعتق عبيد غيره أنه لا يلزمه شيء من ذلك إلا ابن أبي ليلى، فإنه كان يقول: إن كان موسراً بأثمانهم لزمه عتقهم، ثم رجع عنه. وإن حلف على غيره مثل: أن يحلف على امرأته النصرانية أن تسلم، أو حلف على رجل ليسلمه مالاً، أو حلف على غريمه ليقضينه حقه، فإن ضرب لذلك أجلاً، وكان الدين إلى أجل أخر إلى الأجل، فإن لم يقض، وإلا تلزم له على قدر ما يراه، هذا قول ابن القاسم، عن مالك.
          وأما حديث عائشة في يمين الصديق أن لا ينفق على مسطح، فإنما هي يمين في ترك طاعة، وفضيلة في حال غضب، ولا خلاف بين علماء المدينة في وجوب الكفارة على من حلف أن يمتنع من فعل الطاعة إذا رأى غيره فعل ما حلف عليه، وكذلك فعل الصديق كفر عن يمينه، وجمهور الفقهاء يلزمون الغاضب الكفارة، ويجعلون غضبه مؤكداً ليمينه.
          وقد روي عن ابن عباس أن الغضبان يمينه لغو ولا كفارة فيها، وروي عن مسروق والشعبي وجماعة أن الغضبان لا يلزمه يمين ولا طلاق ولا عتق، واحتجوا بقوله: ((لا طلاق في إغلاق))، ((ولا عتق قبل ملك)).
          وفي حديث الأشعريين رد لهذه المقالة؛ لأن الشارع حلف وهو غاضب ثم قال: ((والله لا أحلف على يمين)) إلى آخره، وهذه حجة قاطعة، وكذلك فعل الصديق.
          وأما حديث ((لا طلاق في إغلاق)) فليس بثابت، ولا مما يعارض به مثل هذه الأحاديث الثابتة، كذا في كتاب ابن بطال.
          والحديث أخرجه (د) (ق) واستدركه الحاكم / ، وقال: صحيح على شرط (م)، أخرجوه من حديث عائشة ♦.
          وقال غيره: الإغلاق: الإكراه، والمحفوظ: ((إغلاق)) كما هو لفظ (ق) والحاكم، ولفظ (د): ((غلاق)).
          وأما حديث: ((لا عتق قبل ملك)) فهو من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده مرفوعاً: ((لا طلاق إلا فيما تملك)) رواه الأربعة، والحاكم بلفظ: ((لا طلاق إلا فيما تملك ولا عتق إلا فيما تملك ولا بيع إلا فيما تملك)) رواه (د) بإسناد صحيح وقال: صحيح الإسناد. قال (ت): هو حسن، وهو أحسن شيء روي في الباب.
          وتأول المدنيون والكوفيون الإغلاق على الإكراه هذا معنى اليمين عندهم، وسيأتي عند قوله ◙: ((من نذ[ر] أن يعصي الله، فلا يعصه)).
          قال ابن حزم: واليمين في الرضا والغضب وعلى أن يطيع وعلى أن يعصي، أو على ما لا طاعة فيه ولا معصية، سواء في كل ما ذكرنا، إن تعمد الحنث أو لم يعقد اليمين بقلبه فلا كفارة في ذلك؛ لقوله تعالى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة:89] فالكفارة واجبة في كل حنث قصده المرء.
          وقد اختلف في ذلك، فروي عن ابن عباس أن لغو اليمين هو اليمين في الغضب ولا كفارة فيها، قال ابن حزم: وهو قول لا دليل على صحته، بل البرهان قائم بخلافه، كما روينا من طريق (خ)، فذكر حديث أبي موسى: وافقت رسول الله وهو غضبان، فاستحملنا الحديث، فصح وجوب الكفارة في اليمين مع الغضب. قال تعالى: {وَلَـكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} الآية [المائدة:89] والحالف في الغضب يعقد ليمينه فعليه الكفارة.
          فأما اليمين في المعصية، فروى أبو البختري: أن رجلاً ضافه رجل، فحلف أن لا يأكل، فحلف الضيف أن يأكل. فقال ابن مسعود: كل وإني لأظن أحب إليك أن تكفر، فلم ير الكفارة في ذلك إلا استحباباً.
          وعن ابن عباس: أنه حلف أن يجلد غلامه مائة جلدة ثم لم يجلده، فقيل له في ذلك فقال: ألم تر ما صنعت؟ تركته، فذاك بذاك.
          وعن سليمان الأحول: من حلف على ملك يمينه فكفارته أن لا يضربه، وهو مع الكفارة حسنة.
          وسئل طاوس عمن حلف أن لا يعتق غلاماً له فأعتقه، فقال: تريد من الكفارة أكثر من هذا؟
          وعن الشعبي: اللغو في اليمين: هو كل يمين في معصية فليست لها كفارة لمن يكفر للشيطان.