مجمع البحرين وجواهر الحبرين

باب قول الله تعالى: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم}

          ░1▒ باب قول الله تعالى: {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ} [المائدة:89]
          فيه خمسة أحاديث:
          1- حديث عائشة أن أبا بكر لم يكن يحنث في يمين قط... الحديث.
          2- حديث الحسن، عن عبد الرحمن بن سمرة قال: قال النبي صلعم: ((يا عبد الرحمن بن سمرة، لا تسأل الإمارة... الحديث)).
          3- حديث عن أبي بردة، عن أبيه بعضه وفي آخره: ((إلا كفرت عن يميني إلى آخره)).
          4- حديث أبي هريرة عن رسول الله: ((نحن الآخرون السابقون)).
          5- حديثه أيضاً قال: قال رسول الله صلعم: ((من استلج في أهله بيمين.. الحديث)).
          اختلف في تفسير اللغو، فقال الشافعي: هو قول الرجل: لا والله، وبلى والله، وقد أخرجه (خ) عن عائشة، كما سيأتي.
          قال القاضي إسماعيل: قال الشافعي: وذلك عند اللجج، والغضب، والعجلة.
          وقال باقي الأربعة: هو أن يحلف على الشيء يظنه كذلك، ثم يبين على خلافه، قوله: {وَلَـكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ} [المائدة:89] قال الكسائي: أي: أوجبتم. وقال عطاء: معناه أن يقول: والله الذي لا إله إلا هو، وقرأ أبو عمرو: (عقدتم) وقال: معناه: وكدتم.
          وروى نافع عن ابن عمر: كان إذا حلف من غير أن يذكر اليمين أطعم عشرة مساكين، لكل مسكين مدًّا، وإذا وكد اليمين أعتق رقبة.
          قيل لنافع: ما معنى وكد؟ قال: أن يحلف على الشيء مراراً، وكذا قاله مالك، قال: وعليه كفارة واحدة، قال: وكذا إذا قال: والله لا آكل هذا الطعام، ولا ألبس هذا الثوب، ولا أدخل هذا البيت في يمين واحدة، عليه كفارة واحدة. قوله: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} المعنى: فكفارة آثمه أي: الذي يعطي على آثمه.
          والهاء في: {فَكَفَّارَتُهُ} عائدة على ما.
          وهذا مذهب الحسن، والشعبي؛ لأن المعنى عندهما: فكفارة ما عقدتم منها. وقيل: الهاء عائدة على اللفظ.
          قوله: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة:89] الخبز والتمر، والخبز والزيت، وأفضله عند المالكية: الخبز، واللحم. وقال عبيدة: الخبز، والسمن.
          قوله: ({أَوْ كِسْوَتُهُمْ}) أي: مسمى كسوة. وقيل: ثوب، وقيل: عباءة وعمامة.
          قولها: (إن أبا بكر لم يحنث في يمين قط) معناها: الزمان، يقال: ما رأيته قط. قال الكسائي: كانت قطط، فلما كسر الحرف الثاني للإدغام جعل الآخر متحركاً إلى إعرابه، ومنهم من يقول: قط بإتباع الضمة الضمة، مثل يد؛ وتخفف أيضاً، وهي قليلة، وقط مخففة تجعله أداة، ثم تبنيه على أصله، ويضم آخره بالضمة، التي في المشددة.
          قوله: (وكفر عن يمينك وائت الذي هو خير) فيه الكفارة قبل الحنث، وقد اختلف فيه إذا كان في يمينه على بر على أقوال أربعة، ففي ((المدونة)): قال ابن القاسم: اختلفنا في الإيلاء، فسألنا مالكاً، فقال: بعد الحنث أعجب إلي، وإن فعل / أجزأ وقال في كتاب محمد: فمعنى الحديث: من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليكفر. وذكر القاضي عبد الوهاب عنه أنه أجاز ذلك ابتداء.
          والرهط: ما دون العشرة من الرجال، لا يكون فيهم امرأة، ولا واحد له من لفظه، مثل ذود، والجمع أرهط، وأرهاط، والذود من الإبل: ما بين الثلاث إلى العشرة، وهي مؤنثة [لا واحد] لها من لفظها، والكثير: أذواد، ذكره الجوهري، وقيل: الذود: الواحد من الإبل، بدليل قوله: ((ليس فيما دون خمس ذود صدقة)).
          قال القزاز: والعرب تقول: الذود: من الثلاثة إلى السبعة، وكذلك يقولون: الذود إلى الذود إبل، يريدون الجمع إلى الجمع إبل، وقال أبو عبيدة: هو ما بين الثنتين إلى التسع من الذود، والإناث دون الذكور. قلت: وكذلك قال: ثلاث ذود، ولم يقل بثلاثة، وقال: بعد هذا بخمس ذود.
          قوله: (غر الذرى) أي: بيض أعلى أسنمتهن، غر جمع أغر، وهو الأبيض في حسن، ومن ذلك قيل للثنايا إذا كانت بيضاً حساناً: غر.
          و(ذرى) بالضم، جمع ذروة بالكسر، وهو أعلى السنام، وهذا الجمع نادر قليل، مثل: كسوة، وكساء.
          قوله: (ما أنا حملتكم بل الله حملكم) يحتمل أن يريد أنه لا معطي إلا الله، أو إنما أعطيتكم من مال الله، أو بأمر الله؛ لأنه كان يعطي بالوحي، أو أن يريد: بقدر الله.
          قوله: (نحن الآخرون السابقون) أي: آخر الأمم السابقون يوم القيامة في الحساب ودخول الجنة.
          قوله: (لأن يلج أحدكم بيمينه) قوله: (ومن استلج في أهله بيمين) قال الداودي: يعني الخدعة التي يحلف عليها. وقال الخطابي: استلج من: اللجاج، يعني أنه يقيم عليها ولا يكفرها فيتحللها، وقاله شمر، وزاد: ويزعم أنه صادق. وقيل: هو أن يحلف ويرى أن غيرها خيراً منها، فيقيم على ترك الكفارة، وذلك إثم. وقال النضر: يقال: استلج فلان متاع فلان، و(يلججه): إذا ادعاه، وفي ((الصحاح)): لججت بالكسر، تلج لجاجاً، ولجاجة، ولججت بالفتح لغة.
          ورويناه: لأن يلج. بفتح اللام، من لججت بكسر الجيم في ماضيه، وفتح اللام في مستقبله.
          قوله: (بيمين هو أعظم إثماً ليس تغني الكفارة) يعني: مع تعمد الكذب في الأيمان، وهكذا في رواية الشيخ أبي الحسن: ((ليس تغني الكفارة))، وهذا موافق لتأويل الخطابي أنه لا يستديم على لجاجته، ويمتنع من الكفارة، إذا كانت خيراً من التمادي.
          وحض الشارع أمته على الكفارة، إذا كان إتيانها خيراً من التمادي على اليمين، وأقسم أنه كذلك يفعل هو. ألا ترى أنه حلف لا يحمل الأشعريين حين لم يكن عنده ما يحملهم عليه، فلما أتى بالإبل حملهم عليها، وأقسم أيضاً أن التمادي على اليمين والاستلجاج فيها أشد إثماً من إعطاء الكفارة.
          والاستلجاج في أهله: هو أن يحلف لا ينيلها خيراً، أو لا يجامعها، أو لا يأذن لها في زيارة قرابة، فتماديه في هذه اليمين وبره فيها إثم له عند الله من إثمه أن لا يكفر يمينه؛ لأن من فعل ذلك فهو داخل في معنى قوله: (تألى) أن لا يفعل خيراً، وهذا منهي عنه.
          وقد جاء مصداق هذه الأحاديث في كتاب الله، قال تعالى: {وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ}الآية [البقرة:224]، قال أهل التفسير: نزلت هذه الآية في الرجل يحلف أن لا يبر، ولا يصل قرابته ورحمه، ولا يصلح بين اثنين، فأمروا بالصلة والمعروف، والإصلاح بين الناس.
          والعرضة في كلام العرب: القوة والشدة، يقال: هذا الأمر عرضة لك، أي: قوة وشدة على أسبارك، فمعناه على هذا: لا تجعلوا يمينكم قوة لكم في ترك فعل الخير.
          وأما قوله في حديث أبي هريرة: ((ليس تغني الكفارة))، هكذا رواه جماعة، وروى أبو الحسن بن القابسي: ((ليبر يعني: الكفارة)) وكذا رواه النسفي، وهو الصواب. ومن روى: ((ليس تغني الكفارة)) فلا معنى له؛ لأن الكفارة تغني غناء شديداً، وقد جعلها الله تحلة للأيمان.
          ومعنى قوله: (لِيَبر) أي: ليأتي البر، ثم فسر ذلك / البر ما هو بقوله: يعني الكفارة، خوفاً من أن تظن أنه من إبرار القسم والتمادي على اليمين، وهذا الحديث يرد قول مسروق، وعكرمة، وسعيد بن جبير، فإنهم ذهبوا إلى أنه يفعل الذي هو خير، ولا كفارة عليه. وقولهم خلاف الأحاديث فلا معنى له.
          قال المهلب: وقوله تعالى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} الآية [المائدة:89]. يدل أن الله لا يعذب إلا على ما اكتسب القلب بالقصد، والعمل من الجوارح؛ لقوله: {وَلَـكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ} ولقوله ◙: ((إنما الأعمال بالنيات)).
          وحديث عائشة: قاله الصديق لما حلف أن لا يبر مسطحاً لما تكلم في قصة الإفك، وأنزل الله: {أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ} [النور:22]، قال: بلى ثم عاد إلى بره كما كان أولاً وقال: والله لا أنزعها عنه أبداً.
          وحديث عبد الرحمن بن سمرة أخرجه (خ)، عن أبي النعمان بسنده عن عبد الرحمن بن سمرة. وأخرجه في الكفارات، كما سيأتي عن محمد بن عبد الله، بسنده عن الحسن به، ثم قال: تابعه سهل بن حاتم.
          وذكر الأثرم في ((ناسخه ومنسوخه)) من حديث علي بن زيد، عن الحسن، عن ابن سمرة مرفوعاً: ((إذا حلفت على يمين)) الحديث. إلى قوله: ((فأت الذي هو خير، وكفر عن يمينك)). ومن حديث الهيثم بن حميد، عن زيد بن وافر، [عن] تمر بن عبيد الله، عن ابن عاتك، عن أبي الدرداء مرفوعاً: ((إن حلفت فرأيت أن غير ذلك أفضل كفر عن يمينك، وأت الذي هو أفضل)). قال الأثرم: فاختلف هذا الحكم، والوجه في ذلك أنه جائز كله أن يكفر قبل أو بعد، وبيان ذلك في كتاب الله حيث فرض كفارة الظهار، فقال: {مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا} [المجادلة:3].
          وذكر أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي في كتاب ((الانتفاع بجلود الميتة)) أن رجلاً نذر نذراً لا ينبغي من المعاصي، فأمره سعيد بن المسيب أن يوفي بنذره، فسأل الرجل عكرمة، فأمره بالتكفير، وأن لا يوفي بنذره، وأخبر الرجل سعيداً فقال: لينتهين عكرمة، أو ليوجعنّ الأمراء ظهره، فرجع الرجل، فأخبر عكرمة فقال: سله عن نذرك، أطاعة هو أم معصية؟ فإن قال: هو طاعة، فقد كذبت على الله؛ لأنه لا تكون معصية الله طاعة، وإن قال: هو معصية، فقد أمرك بمعصية الله.
          وروى ابن أبي عاصم من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده يرفعه: ((لا نذر إلا ما ابتغي به وجه الله)).
          وعن عائشة: ((لا نذر في معصية، وكفارته كفارة غيره))(1).
          روى أبو موسى، عن ابن مسعود ☺ قال: الأيمان أربعة، يمينان يكفران وهو أن يقول الرجل: والله لا أفعل، فيفعل، أو يقول: والله ليفعلن، ولا يفعل، ويمينان لا يكفران: يقول الرجل: والله ما فعلت، وقد فعل، أو يقول: والله لقد فعلت، وما فعل.
          قسم بعضهم النذر على ثلاثة أضرب:
          نذر يتضمن طاعة، قال ◙: ((كفارته الوفاء به)) أخرجه ابن الجارود في ((منتقاه)) عن ابن عباس مرفوعاً.
          ونذر يتضمن معصية؛ قال ◙ في هذا الحديث: ((لا وفاء فيه، وعليه كفارة يمين)). ولابن أبي عاصم، عن عمران: ((لا نذر في معصية)).
          ونذ[ر] مباح كالمشي إلى مصر، أو إلى الشام، وشبهه. وقد سكت عنه الشارع على ما في حديث أبي إسرائيل الذي نذر أن لا يستظل ولا يتكلم، فأمره ◙ بالتكلم والاستظلال. قال مالك: ولم أسمع أنه ◙ أمر بكفارة، وقد أمره أن يتم ما كان فيه طاعة، ويترك ما كان فيه معصية.
          قال ابن حزم: ومن أراد أن يحنث فله أن يقدم الكفارة قبله، أي الكفارات لزمته من عتق، أو كسوة، أو إطعام، أو صيام، وهو قول مالك.
          وقال أبو حنيفة، وأبو سليمان: لا يجزئه ذلك إلا بعد الحنث. وقال الشافعي: أما العتق، والكسوة والإطعام، فيجوز تقدمه قبله، وأما الصوم فلا يجزئ إلا بعده، وحجته: أنها من فرائض الأموال، وهي من حقوق الناس، وجائز تقديمها قبل آجالها، وأما الصوم فمن فرائض الأبدان لا يجوز تقديمه قبل وقته.
          وهم موافقون لنا أن التعجيل متوقف على الرضا، دون حقوق الله الموقت بوقت، ثم حقوق الناس التأخير فيها جائز والإسقاط بخلاف الكفارات.
          وتناقض المالكيون، فمنعوا تقديم الزكاة إلا قبل الحول / بشهر، ونحوه، وتقديم زكاة الفطر إلا قبل الفطر بيومين، ولم يجيزوا تقديم كفارة الظهار أصلاً، ولا شفاعة، قبل ما وجبها، ولا كفارة القتل خطأ قبل ما يوجبه من موت المقتول، ولا بطرفة عين، ولا كفارة قتل الصيد في الحرم قبل قتله. وأجازوا إذن الورثة للموصي في أكثر من الثلث قبل أن يجب لهم المال بموته، يظهر التناقض في أقوالهم.
          وتناقض الحنفيون أيضاً؛ فإنهم أجازوا تقديم الزكاة قبل الحول بثلاثة أعوام، وتقديم زكاة الزرع إثر زرعه في الأرض، وأجازوا تقديم جزاء الصيد قبل موته، وتقديم كفارة قتل الخطأ قبل موت المجروح، ولم يجيزوا للورثة الإذن في الوصية بأكثر من الثلث قبل أن يجب المال لهم بالموت، ولا أجازوا إسقاط الشفيع حقه من الشفعة، ولا عرض شريكه أحد الشقصين قبل وجوب أخذه له بالبيع، وكلهم لا يجيز الاستفتاء قبل اليمين، ولا قضاء دين قبل أخذه، ولا صلاة قبل وقتها. وأصحابنا قالوا: لا تجب الكفارة إلا بالحنث، وهي فرض بعد الحنث بالنص والإجماع، فتقديمها قبل أن يحنث تطوع لا فرض، ومن المحال إجزاؤه عن الفرض.
          ثم إنا نوافقهم على أنه لا يجزئ شيء من الشريعة قبل وقته، إلا في موضعين:
          كفارة اليمين، فجائز تقديمها قبل الحنث، لكن بعد إرادة الحنث، ولا بد، وإسقاط الشفيع حقه بعد العرض عليه أن يأخذ أو يترك قبل البيع، فإسقاطه حقه حينئذ لازم له فقط، وإنما فعلنا ذلك للنصوص المخرجة لهذين الحكمين عن حكم سائر الشريعة في أنه لا يجزئ ولا يجوز أداء شيء منها قبل الوقت الذي حده الله.
          وقد احتج بعض من وافقنا في تصحيح قولنا هنا، بأن قال: قال تعالى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة:89]، والكفارة واجبة بنفس اليمين، ولا حجة في هذا؛ لأنه قد جاء النص والإجماع المتفق على أن من لم يحنث فلا كفارة عليه، فصح أنه ليس بنفس اليمين تجب الكفارة.
          واحتج بعضهم: بأن في الآية حذفاً بلا خلاف، تقديره: إن أردتم الحنث، أو حنثتم، وهذه دعوى منهم في ذلك. وحديث (م) من حديث أبي هريرة مرفوعاً: ((من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأتها وليكفر عن يمينه)).
          ومن طريق (ن)، عن عبد الرحمن بن سمرة يرفعه: ((وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فكفر عن يمينك، ثم ائت الذي هو خير)).
          فهذه الأحاديث جامعة لجميع أحكام ما اختلف فيه من جواز تقديمها قبل الحنث.
          وفي حديث عدي الجمع بين الحنث والكفارة بواو العطف، الذي لا تعطي رتبة. وهكذا جاء من طريق أبي موسى الأشعري، فوجب استعمال جميعها، ولم يكن بعضها أولى بالطاعة، ولا تحل مخالفة بعضها لبعض، فكان كل ذلك جائزاً.
          وصح بهذا أن الحذف الذي في أول الآية إنما هو فأردتم الحنث، أو حنثتم، والشارع هو المبين عن ربه، فاعترض بعضهم بأن قال: قوله: ((فليكفر ثم ليأت الذي هو خير)) مثل قوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البلد:17]، وكقوله: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} [الأنعام:154]، وكقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا} [الأعراف:11]: ولفظة: {ثُمَّ} في هذه الآيات لا توجب تعقيباً، بل هي واقعة على ما كان قبلها عطف اللفظ عليه، وليس كما ظنوا.
          أما الآية الأولى: فإن نصها {مَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ} [البلد:12]، إلى أن قال: {ثُمَّ} وقد ذكرنا قوله لحكيم بن حزام: ((أسلمت على ما أسلفت من الخير)).
          فصح بهذه الآية عظيم نعمة الله على عباده في قبول كل عمل عملوه في كفرهم، ثم أسلموا، فالآية على ظاهرها، وهي زائدة على ما في القرآن من قبوله أعمال من آمن ثم عمل الخير.
          وأما الآية الثانية فإن أولها: {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا} [الأنعام:153]: إلى أن قال: {ثُمَّ آتَيْنَا}. وقال: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا} [آل عمران:67]، وقال: {مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج:78] فصح أن الصراط الذي أمرنا الله باتباعه، وأتانا به نبينا هو صراط إبراهيم، وقد كان قبل موسى بلا شك، ثم آتى الله نبيه موسى الكتاب، فهذا تعقيب بمهلة لا شك فيه.
          وأما الثالثة فعلى ظاهره؛ لأن الله خلق أنفسنا وصورها، وهي التي أخذ الله عليها العهد بقوله: {أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف:172]، ثم بعد ذلك أسجد الملائكة لآدم، فبطل تعلقهم بهذه الآيات. سلمنا / أن {ثُمَّ} فيها لغير التعقيب، فلا يجب ذلك لها حيثما وجدت؛ لأن ما خرج بدليل لا يعمم.
          قال ابن حزم: وقولنا هو قول عائشة، ومن طريق ابن أبي شيبة، بسنده عن محمد بن سيرين، أن سلمة بن مخلد، وسلمان الفارسي كانا يكفران قبل الحنث.
          وثنا حفص بن غياث، عن أشعث، عن ابن سيرين، أن أبا الدرداء دعا غلاماً له، فأعتقه، ثم صنع الذي حلف عليه.
          وعن ابن عون، أن محمد بن سيرين كان يكفر قبل الحنث، وهذا قول ابن عباس، والحسن، وربيعة، وسفيان، والأوزاعي، ومالك، والليث، وابن المبارك، وأحمد، وإسحاق، وسليمان بن داود، وأبي ثور، وأبي خيثمة، وغيرهم، ولم نعلم لمن ذكرنا مخالفاً من الصحابة، إلا أن مموها موَّه برواية عبد الرزاق، بسنده عن ابن عباس أنه كان لا يكفر حتى يحنث. وهذا باطل؛ لأن ابن أبي يحيى في سنده وهو مذكور بالكذب عمن لم يسم، ثم لو صح لما كان لهم فيه حجة؛ لأنه ليس فيه أن ابن عباس لم يجزها قبل الحنث، إنما فيه أنه كان يؤخرها بعده فقط، ونحن لا ننكر هذا.
          قال ابن عبد البر: والآثار المرفوعة أكثرها أنه ◙ قال: ((فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه)) فقدم الحنث قبل الكفارة من حديث عدي وأبي الدرداء وعائشة وابن عمر وأنس وابن سمرة، وأبي موسى كل هؤلاء رووا عن رسول الله: ((فليأت الذي هو خير ثم يكفر عن يمينه)) بتبدئة الحنث قبلها.
          ولأبي داود من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده مرفوعاً: ((من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها، ليدعها وليأت الذي هو خير، فإن تركها كفارتها)) قال (د): الأحاديث كلها عن رسول الله ((فليكفر عن يمينه)) إلا ما لا يعتد به.
          واختلف فيما يجب على من حلف بالعهد فحنث: فقالت طائفة: عليه كفارة يمين، سواء نوى اليمين أو لا، وروينا هذا عن الحسن والشعبي وطاوس والحارث العكلي والحكم والنخعي ومجاهد وقتادة، وبه قال مالك، والأوزاعي وأصحاب الرأي. وقالت طائفة: ليست بيمين، إلا أن يريد يميناً لذلك قال عطاء، والشافعي، وأبو عبيد، وأبو ثور، واختلف فيه عن الثوري. قال ابن المنذر بعد حكايته ذلك: وكان مالك يقول: إذا قال علي عهد الله وميثاقه وكفالته إن فعلت كذا وكذا، وجب عليه ثلاث كفارات. وبه قال أبو عبيد وقال الشافعي: ليست بيمين إلا أن يريد يميناً.
          وقد عقد (خ) باباً في الحلف بالعهد، كما سيأتي.
          حديث أبي هريرة: ((من استلج في أهله)) ساقه (خ) عن إسحاق يعني ابن إبراهيم بسنده عن أبي هريرة، عن رسول الله. قال الإسماعيلي: ورواه معمر، عن يحيى، عن عكرمة، عن النبي صلعم أرسله، ثم ساقه بإسناده بلفظ: ((إذا استلج الرجل في يمينه فهو آثم عند الله من الكفارة التي أمره الله تعالى بها)).
          وفي لفظ: ((لأن يستلج أحدكم بيمينه في أهله آثم عند الله من أن يعطي كفارته التي فرض الله عليه)).
          وفي لفظ: ((إذا استلج أحدكم باليمين في أهله فإنه آثم له عند الله من الكفارة التي أمر بها)).
          قال ابن حزم: لم يعن بهذا الحديث الكفارة، والحالف باليمين الغموس لا يسمى مستلجًّا في أهله، ومعناه: أن يحلف المرء أن يحسن إلى أهله، وأن لا يضر بهم، ثم يلج في أن يحنث فيضر بهم ولا يحسن إليهم، ولا يكفر عن يمينه، فهذا بلا شك مستلج بيمينه في أهله أن لا يفي بها، وهو أعظم إثماً بلا شك. والكفارة لا تغني عنه، ولا تحط إثم إساءته إليهم، وإن كانت واجبة عليه لا يحتمل هذا الخبر معنى غيره.
          قال ابن المنذر: أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم أن من قال: إن شفى الله مريضي، أو شفاني من علتي، أو قدم غائبي، وما أشبه ذلك، فعلي من الصوم كذا، أو من الصلاة كذا، أو من الصدقة كذا أن عليه الوفاء بنذره.
          واختلف فيمن نذر نذر معصية، فروينا عن جابر، وابن مسعود، وابن عباس أنهم قالوا: ((لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين)) وحكي ذلك عن الثوري، والنعمان.
          وقال مالك والشافعي وأبو ثور: لا كفارة فيه.
          قال ابن المنذر: وبه أقول للثابت عن رسول الله صلعم أنه قال: ((لا نذر في معصية)) يعني بذلك: ما رواه (خ)، عن عائشة. وعند الطحاوي زيادة: ((ويكفر عن يمينه)).
          واختلف فيمن نذر نذراً من غير تسمية. ففي الدارقطني من حديث ابن عباس مرفوعاً: ((من نذر نذراً لم يسمه فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذراً لم يطعه فكفارته / كفارة يمين، ومن نذر نذراً لله يطيقه فكيف به)).
          ومن حديث عائشة مرفوعاً بنحوه.
          قال ابن المنذر: روينا عن ابن عباس أنه قال: عليه أغلظ الكفارات: عتق رقبة، أو يصوم شهرين متتابعين، أو يطعم ستين مسكيناً. وروي ذلك عن مجاهد، وعن ابن مسعود وجابر: عليه كفارة يمين.
          وروي أيضاً عن الحسن وإبراهيم والشعبي وعطاء والقاسم بن محمد وابن جبير وعكرمة وطاوس، وقال مالك وأبو ثور والثوري: عليه كفارة يمين. وقال الشافعي: لا نذر عليه، ولا كفارة. وبه قال ابن المنذر: وروينا عن ابن عباس أنه قال: في النذر عتق رقبة، أو كسوة عشر مساكين، أو إطعام ستين مسكيناً، فإن لم يجد فصيام شهرين. وكان الزهري يقول قولاً خامساً: إن كان في طاعة الله فكفارة، وإن كان في معصية الله، فليقرب إلى الله ما شاء، وفيه قول سادس وهو: إن كان نوى شيئاً فهو ما نوى، أو سمى شيئاً فهو ما سمى، وإن لم يكن نوى ولا سمى فإن شاء صام، وإن شاء أطعم ستين مسكيناً، وإن شاء صلى ركعتين.
          وقال أبو عمر: كفارة النذر المبهم كفارة يمين عند أكثر العلماء، وروي عن ابن عباس في النذر المبهم كفارة يمين، ولم يقل: مغلظة. وهو قول ابن مسعود على اختلاف. وقد روي عنه: عليه عتق رقبة.
          وعن قتادة: فيها عتق رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، أو إطعام ستين مسكيناً، وعن ابن عمر مثله.
          وقال الشعبي: إني لأعجب لمن يقول النذر يمين مغلظة. ثم قال: يجزئه إطعام عشرة مساكين. وقال الحسن، وهو قول إبراهيم ومجاهد وعطاء وطاوس وجابر بن زيد وجماعة من الفقهاء أهل الفتيا بالأمصار. وقد روي في أن النذر المبهم كفارته كفارة يمين حديث مسند، وهو في (ت) (د) وفيه مقال.
          قال ابن عبد البر: اختلف في وجوب قضاء النذر عن الميت على وارثه، فقال أهل الظاهر: يقضيه عنه وليه الوارث، وهو واجب عليه، صوماً كان أو مالاً. وقال جمهور الفقهاء: ليس ذلك على الوارث بواجب، فإن فعل فقد أحسن، إن كان صدقة أو عتقاً.
          واختلف في الصوم إذا أوصى الميت به، فقالت طائفة: هو في ثلثه، وقال آخرون: كل واجب عليه إذا أوصى في حياته أو أوصى به فهو في رأس ماله.
          وإذا نذر الكافر في حال كفره، ثم أسلم، ففي وجوب وفائه وجهان: أصحهما: لا، وقوله ◙ لعمر: ((أوف بنذرك)) محمول على الاستحباب.


[1] في هامش المخطوط: ((أقول: يرد على عائشة نذرها عدم كلام ابن الزبير)).