نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: إن الله تجاوز لأمتي عما وسوست أو حدثت به أنفسها

          6664- (حَدَّثَنَا خَلاَّدُ بْنُ يَحْيَى) بفتح الخاء وتشديد اللام، السُّلمي _بضم السين المهملة / قال: (حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ) بكسر الميم وسكون السين وفتح العين المهملتين، ابن كِدَام _بكسر الكاف وتخفيف المهملة_، قال: (حَدَّثَنَا قَتَادَةُ) أي: ابن دعامة، قال: (حَدَّثَنَا زُرَارَةُ بْنُ أَوْفَى) بضم الزاي وتخفيف الراء، وأَوْفى: بالفاء وفتح الهمزة، العامري قاضي البصرة، مات وهو ساجدٌ أورده التِّرمذي، وكان ذلك سنة 93.
          (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) ☺ (يَرْفَعُهُ) إلى النَّبي صلعم ، سبق في «العتق» [خ¦2528] من رواية سفيان عن مِسْعر بلفظ: عن النَّبي صلعم بدل قوله هنا: «يرفعه»، وكذا في رواية مسلم من طريق وكيع، وفي رواية النَّسائي والإسماعيلي من طريق عبد الله بن إدريس كلاهما عن مسعرٍ بلفظ: قال رسول الله صلعم . وقال الكرمانيُّ: إنما قال: يرفعه؛ ليكون أعم من أن يكون سمعه منه، أو من صحابيٍّ آخر سمعه منه انتهى.
          وقال الحافظ العسقلاني: ولا اختصاص لذلك بهذه الصِّيغة بل مثله في قوله: قال وعن، وإنَّما يرتفع الاحتمال إذا قال: سمعت ونحوه. وتعقَّبه العيني: بأنَّ غرض هذا القائل تحريشه على الكرماني، وإلَّا فلا حاجة إلى هذا الكلام؛ لأنَّه ما ادَّعى الاختصاص، ولا قوله ذلك يُنافي غيره، وذكر الإسماعيلي أنَّ وكيعًا رواه عن مِسْعر فلم يرفعه. قال: والَّذي رفعه ثقة فوجب المصير إليه.
          وقال الحافظ العسقلاني: لم أقف على التَّصريح بسماع زرارة هذا الحديث من أبي هريرة ☺، لكنَّه لم يوصف بالتَّدليس، فيحمل على السَّماع. وذكر الإسماعيلي: أنَّ الفرات بن خالد أدخل بين زرارة وبين أبي هريرة رجلًا من بني عامر، وهو خطأ، فإنَّ زرارة من بني عامر، وكأنَّه كان فيه عن زرارة رجلٌ من بني عامر، فظنَّه آخر منهم، وليس كذلك.
          (قَالَ: إِنَّ اللَّهَ) ╡ (تَجَاوَزَ لأُمَّتِي) وفي رواية هشام عن قتادة [خ¦5269]: «تجاوز عن أمَّتي» (عَمَّا وَسْوَسَتْ، أَوْ) قال: (حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا) بالنصب عند الأكثرين، وعند بعضهم بالرفع. وقال الطَّحاوي بالثاني؛ أي: بغير اختيارها كقوله تعالى: {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [ق:16]. وفي رواية هشام [خ¦5269]: ((ما حدَّثت به أنفُسَها)) من غير تردد، وكذا في رواية مسلم.
          (مَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ) أي: بالَّذي / وسوست أو حدَّثت (أَوْ تَكَلَّمَ) بفتح الميم بلفظ الماضي. وقال الكرماني وتبعه العينيُّ: بالجزم، وفي رواية عبد الله بن إدريس: أو تتكلَّم به. قال الإسماعيلي: ليس في هذا الحديث ذكر النِّسيان، وإنَّما فيه ذكر ما خطرَ على قلب الإنسان.
          وقال الحافظُ العسقلاني: مراد البخاريِّ إلحاق ما يترتَّب على النِّسيان بالتَّجاوز، وأنَّ النِّسيان من متعلَّقات عمل القلب. وقال الكرماني: قاس الخطأ والنِّسيان على الوسوسة، فكما أنَّها لا اعتبار بها عند عدم التَّوطُّن، فكذلك المخطئ والنَّاسي لا توطن لهما. وقد وقع في رواية هشام بن عمَّار عن ابن عُيينة عن مسعر في هذا الحديث بعد قوله: ((أو تكلَّم به: وما استكرهوا عليه))، وهذه الزِّيادة منكرةٌ من هذا الوجه، وإنَّما تُعْرف من رواية الأوزاعي عن عطاء عن ابن عبَّاس ☻ بلفظ: ((إنَّ الله وضع عن أمَّتي الخطأ والنِّسيان وما استكرهوا عليه)).
          وقد أخرجه ابنُ ماجه عقب حديث أبي هريرة ☺ من رواية الوليد بن مسلم عن الأوزاعي، والحديث عند هشام بن عمَّار عن الوليد؛ فلعلَّه دخل له بعض حديث في حديث، وقد رواه عن ابن عُيينة الحميدي، وهو أعرفُ أصحاب ابن عيينة بحديثه، وتقدَّم في «العتق» [خ¦5269] أنَّه بدون هذه الزيادة، وكذا أخرجه الإسماعيلي من رواية زياد بن أيُّوب وابن المقرئ وسعيد بن عبد الرَّحمن المخزومي كلهم عن سفيان بدون هذه الزِّيادة.
          قال الكرماني: أراد أنَّ الوجود الذِّهني لا أثر له، وإنَّما الاعتبار بالوجود القولي في القوليات، والعملي في العمليَّات، وقد احتجَّ به من لا يرى المؤاخذة بما وقعَ في النَّفس ولو عزم عليه، وانفصلَ من قال يؤاخذ بالعزمِ. وقال: لو أصرَّ على العزم على المعصية يعاقب عليه لا عليها.
          وأجاب عن الحديث: بأن ذلك لا يسمَّى وسوسةً ولا حديث نفسٍ بل هو نوعٌ من عمل القلب.
          وقال الحافظُ العسقلاني: وظاهر الحديث أنَّ المراد بالعمل عمل الجوارح؛ لأنَّ المفهوم من لفظ: ((ما لم تعمل)) يُشعر بأن كلَّ شيءٍ في الصَّدر لا يؤاخذ به سواءٌ توطَّن أو لم يتوطَّن، وقد تقدَّم البحث في ذلك في آخر «الرِّقاق» [خ¦6491] / في الكلام على حديث: ((من هم بسيئة لا تُكتب عليه)). وفي الحديث إشارةٌ إلى عظم قدرِ الأمَّة المحمديَّة لأجل نبيِّها لقوله: ((تجاوزَ لي)). وفيه: إشعار باختصاصها بذلك من الأمر الَّذي كان على من قبلنا.
          ويؤيِّده: ما أخرجه مسلمٌ عن أبي هريرة ☺ قال: لما نزلت: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة:284] اشتدَّ ذلك على الصَّحابة ♥ ، فذكر الحديث في شكواهم ذلك، وقوله صلعم لهم: ((تريدون أن تقولوا مثل ما قال أهلُ الكتاب: {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} [البقرة:93] بل قولوا: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [البقرة:285]))، فقالوها فنزلت {آَمَنَ الرَّسُولُ} [البقرة:285] إلى آخر السُّورة، وفيه قوله تعالى: {لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286] قال: ((نعم)).
          وأخرجه من حديث ابن عبَّاس ☻ بنحوه وفيه قال: ((قد فعلت)).
          ومطابقة الحديث للتَّرجمة من حيث إنَّ الوسوسة من متعلَّقات عمل القلب كالنِّسيان، كما تقدَّم.
          وقد مضى الحديث في «الطلاق» [خ¦5269]، و«العتاق» [خ¦2528].