نجاح القاري لصحيح البخاري

باب: إذا حرم طعامًا

          ░25▒ (باب: إِذَا حَرَّمَ) الشَّخص (طَعَامَه) وفي رواية أبي ذرٍّ: <طعامًا> وكذا شرابًا كأن يقول مثلًا: طعام كذا، أو شراب كذا عليَّ حرامٌ، أو نذرت، أو لله عليَّ أن لا آكلَ كذا ولا أشرب كذا، وهذا من نذر اللَّجاج، ولم يذكر الجواب على عادته.
          والرَّاجح من أقوال العلماء: أنَّ ذلك لا ينعقد إلَّا أن قرنه بحلفٍ فتلزمه كفَّارة يمينٍ إذا استباحَه، وهو الَّذي ذهبَ إليه البخاري، فلذلك أوردَ حديث الباب؛ لأنَّ فيه: ((قد حلفت)). وعند أبي حنيفة والأوزاعي كذلك، ولكن لا يشترطُ لفظ: الحلف.
          وقال الشَّافعي: لا شيءَ عليه في ذلك. وقال مالك: لا يكون الحرام يمينًا في طعامٍ ولا شرابٍ إلَّا في المرأة، فإنَّه يكون طلاقًا يحرمها عليه، وروي عن الشَّافعي كذلك، رواه الرَّبيع عنه.
          وقال إسماعيل القاضي: الفرقُ بين المرأة والأمة أنَّه لو قال: امرأتي عليَّ حرامٌ، فهو فراق التزمه، فتطلق، فلو قال لأمته من قبل أن يحلف، فإنَّه ألزم نفسه ما لم يلزمه فلا تحرم عليه.
          وعن الشَّافعي: لا يقع عليه شيءٌ إلَّا إذا نوى الطَّلاق فتطلق، أو العتق فتُعتق. وروي عن بعض التَّابعين: أنَّ التَّحريم ليس بشيءٍ سواء حرم عليه زوجته، أو شيئًا من ذلك لا يلزمه كفَّارة في شيءٍ، وبه قال أبو سلمة ومسروق والشَّعبي. نزلت الآية في تحريم مارية التي أهداها إليه المقوقس صاحب إسكندريَّة، أو في تحريم / شرب العسل ((تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ)) أي: تطلبُ رضاهنَّ بتحريم ذلك.
          ((وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) قال الطِّيبي: ((تبتغي)) إمَّا تفسير لتحرِّم، أو حال، أو استئناف، والفرق أنَّه على التفسير ابتغاء مرضاتهنَّ عين التَّحريم، ويكون هو المنكر، وإنَّما ذكر التَّحريم للإبهام تفخيمًا وتهويلًا، فإنَّ ابتغاء مرضاتهنَّ من أعظم الشُّؤون، وعلى الحال الإنكار واردٌ على المجموع دفعةً واحدةً، ويكون هذا التَّقييد مثل التَّقييد في قوله تعالى: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130].
          وعلى الاستئناف لا يكون الثاني عين الأول؛ لأنَّه سؤالٌ عن كيفيَّة التَّحريم، كأنَّه لما قيل: ((لم تحرِّم ما أحلَّ الله لك)) قال: كيف أُحرِّم؟ فأجيب: {تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ} [التحريم:1] وفيه: تكرير الإنكار، والتَّفسير الأول: أعني التفسير هو التفسير لما جمع من التَّفخيم، والتَّعظيم، ولذلك أردفه بقوله: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التحريم:1] جبرًا لما ناله. فإن قيل: تحريم ما أحلَّ الله غير ممكنٍ فكيف قال: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم:1] فالجواب: أنَّ المراد بهذا التَّحريم هو الامتناع من الانتفاع لا اعتقاد كونه حرامًا بعد ما أحلَّه الله تعالى.
          ({قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم:2]) أي: قد قدَّر الله وبيَّن لكم ما تحلِّلون به أيمانكم بالكفَّارة، أو شرع لكم الاستثناء في أيمانكم، وذلك أن يقول: إن شاء الله عقيبها حتَّى لا يحنث، وأصل تحلَّة: تحللة، على وزن تفعلة فأدغمت اللام في اللام، وهي من المصادر كالتَّوصية والتَّسمية، وسقط في رواية أبي ذرٍّ من قوله: <{وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}...> إلى آخره.
          (وَقَوْلُهُ) تعالى: ({لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة:87]) أي: ما طاب ولذَّ من الحلال؛ أي: لا تمنعوا أنفسكم كمنع التَّحريم، أو لا تقولوا: حرَّمناها على أنفسنا مبالغةً منكم في العزم على تركها تزهُّدًا منكم وتقشُّفًا، وهذا توبيخٌ لمن فعل ذلك، فلذلك قال: {وَلَا تَعْتَدُوا} [البقرة:190] فجعل ذلك من الاعتداء.
          قال الحافظ العسقلاني: كأنَّه يشير إلى ما أخرجه الثَّوري في «جامعه» وابن المنذر من طريقه بسندٍ صحيحٍ عن ابن مسعود ☺: / أنَّه جيء عنده بطعامٍ فتنحَّى رجلٌ فقال: إنِّي حرمت أن لا آكله فقال: ادن فكله وكفِّر عن يمينك، ثمَّ تلا هذه الآية إلى قوله: {وَلَا تَعْتَدُوا} [البقرة:190]، وقد ثبت في بعض طرقه الصَّحيحة أنَّ الرجل قال: حلفت أن لا آكل.
          وقد أخرجه الشَّيخان في «الصحيحيان».