نجاح القاري لصحيح البخاري

باب قول الله تعالى: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم}

          ░1▒ (باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى) وفي بعض النُّسخ: <قول الله تعالى> بدون ذكر لفظ: باب ({لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ} [المائدة:89]) مصدر لغا يلغو، والباء فيه متعلِّقة بـ{يُؤَاخِذُكُمُ} ومعناها: السَّببية، واللَّغو السَّاقط الذي لا يعتدُّ به في الأيمان، كقول الرَّجل في عرض حديثه: لا والله، وبلى والله، من غير قصدٍ إليها، وهو مذهب الشافعي. قال الرَّاغب: المراد به في الأيمان ما يورد من غير روَّيةٍ، فيجري مجرى اللَّغا وهو صوتُ العصافير. وقيل: هو أن يحلفَ على شيءٍ يُظنُّ أنَّه صادقٌ ثمَّ يظهر أنَّه خلاف ذلك، وبه قال أبو حنيفة. وقيل: هو في الهزل، وقيل: في المعصية، وقيل: في الغضب، وقيل: في النِّسيان، والمعنى: لا يعاقبكم بلغو اليمين الَّذي يحلفه أحدكُم.
          ({فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ} [المائدة:89]) أي: بتعقيدكُم الأيمان وبما صمَّمتم عليها وقصدتموها وهو توثيقها، وقُرئ: بتشديد القاف وتخفيفها، والعقد في الأصل: الجمع بين أطراف الشَّيء، ويُستعمل في الأجسام، ويُستعارُ للمعاني نحو: عقد البيع، وعن عطاء معنى {عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ} أكَّدتُم، والمعنى: ولكن يؤاخذكم بما عقدتم إذا حنثتم، فحذف وقت المؤاخذة؛ لأنَّه كان معلومًا عندهم، أو بنكث ما عقدتم فحذف المضاف.
          ({فَكَفَّارَتُهُ}) أي: فكفَّارة الحنث الدَّالِّ عليه سياق الكلام، وإن لم يجر له ذكر، أو فكفَّارة نكثه فتكون «ما» موصولة اسميَّة، وهو على حذف مضاف كما قدره الزَّمخشري، والكفَّارة: الفعلة الَّتي من شأنها أن تسترَ الخطيئة ({إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة:89]) محاويج من الفقراء، أو إطعام مصدر مضاف إلى مفعوله، وهو أن يملك كلُّ واحدٍ منهم مدًّا من حبٍّ من غالب قوتِ بلده عند الشَّافعي ({مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ}) قال ابن عبَّاس وسعيد بن جبير وعكرمة: من أعدل ما تطعمون أهليكم. وقال عطاء الخراساني: من أمثل ما تطعمون أهليكم. وقال ابنُ أبي حاتم بإسناده عن عليٍّ ☺ قال: خبزٌ ولبنٌ وسمن. وبإسناده عن ابن عمر ☻ أنَّه قال: ((من أوسط ما تطعمون أهليكم))، / قال: الخبز واللَّحم والسَّمن، والخبز واللَّبن، والخبز والزَّيت، والخبز والخلُّ.
          واختلفوا في مقدار ما يُطعمهم، فقال ابنُ أبي حاتم بإسناده عن عليٍّ ☺ قال: يغدِّيهم ويعشِّيهم. وقال الحسن ومحمَّد بن سيرين: يكفيه أن يُطعم عشرة مساكين أكلةً واحدةً خبزًا ولحمًا، وزاد الحسن: فإن لم يجد فخبزًا وسمنًا ولبنًا، فإن لم يجد فخبزًا وزيتًا وخلًّا حتَّى يشبعوا.
          وقال قومٌ: يُطعم كلَّ واحدٍ من العشرة نصف صاعٍ من برٍّ أو تمر ونحوهما، وهذا قول عمر وعلي وعائشة ♥ ومجاهد والشَّعبي وسعيد بن جبير وإبراهيم النَّخعي ومنصور بن مهران وأبي مالك والضَّحَّاك والحكم ومكحول وأبي قلابة ومقاتل بن حيَّان. وقال أبو حنيفة: نصف صاعٍ من برٍّ أو صاعٍ من غيره، وهو قول مجاهدٍ ومحمد بن سيرين والشَّعبي والثوري والنَّخعي وأحمد، وروي ذلك عن عليٍّ وعائشة ☻ . وقال الشَّافعي: الواجب في كفَّارة اليمين مدٌّ بمد النَّبي صلعم .
          ({أَوْ كِسْوَتُهُمْ}) عطفٌ على ((إطعام)). قال الشَّافعي: لو دفع إلى كلِّ واحدٍ من العشرة ما يصدق عليه اسم الكسوة من قميصٍ، أو سراويل، أو إزار، أو عمامة، أو مقنعة أجزأه ذلك، واختلف أصحابه في القلنسوة هل يجزئ أم لا على وجهين. وقيل: المراد ما يُسمَّى كسوة ممَّا يعتاد لبسه كعرقيَّةٍ ومنديلٍ ولو ملبوسًا لم تذهب قوته، ولو لم يصلح للمدفوع إليه كقميصٍ صغيرٍ وعمامته وإزاره وسراويل كبير، وكحرير لرجل لا نحو خفٍّ ممَّا لا يُسمَّى كسوة كدرعٍ من حديد ونحوه، وحكى الشيخ أبو حامد الإسفرائيني في الخفِّ وجهين أيضًا، والصَّحيح عدم الإجزاء.
          وقال مالك وأحمد: لا بدَّ أن يدفع إلى كلِّ واحدٍ منهم ما يصحُّ أن يُصلِّي فيه إن كان رجلًا أو امرأةً كلٌّ بحسبه. وقال العوفي عن ابن عبَّاس ☻ : لكلِّ مسكينٍ عباءةٌ أو شملة. وقال مجاهد: أدناه ثوبٌ، وأعلاه ما شئت، وعن سعيد بن المسيَّب: عباءةٌ يلفُّ بها رأسه، وعباءةٌ يلتفُّ بها.
          ({أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}) عطف على ما قبله، وهو مصدر مضاف إلى مفعوله؛ أي: أو إعتاق / رقبةٍ، أخذ أبو حنيفة ☼ بإطلاقها فجوَّز الكافرة. وقال الشافعي ☼ وآخرون: لا يجوز إلَّا مؤمنةً بلا عيبٍ يخلُّ بالعمل والكسب. و((أو)) للتَّخيير.
          ({فَمَنْ لَمْ يَجِدْ}) أي: إحدى الثَّلاث، ولم يقدر على واحدةٍ منها ({فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ}) أي: فعليه صيام ثلاثة أيَّامٍ، واختلفوا فيه هل يجب التَّتابع أو يستحبُّ، فالمنصوص عن الشَّافعي أنَّه لا يجب التَّتابع، وهو قول مالكٍ. وقال أبو حنيفة وأحمد: يجب التَّتابع، ودلائلهم مذكورةٌ في كتب الفقه ({ذَلِكَ}) إشارةٌ إلى المذكور قبله ({كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ}) وحنثتم ({وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ}) عن الحنث، فبرُّوا فيها، ولا تحنثوا إذا لم يكن الحنث خيرًا، وإذا حنثتم فاحفظوها بالكفَّارة، أو فلا تحلفوا أصلًا ({كَذَلِكَ}) أي: مثل ذلك البيان.
          ({يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ}) أعلام شريعته وأحكامه ({لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة:89]) نعمته فيما، يعلِّمكم ويسهِّل عليكم المخرج منه، وسقط في رواية أبي ذرٍّ قوله: <{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ} إلى آخره> وقال: <الآية>، وفي نسخة بدل الآية: <إلى قوله: {تَشْكُرُونَ}> وساق في رواية كريمة الآية كلَّها.
          قال الحافظُ العسقلاني: والأوَّل أولى؛ فإنَّ المذكور من الآية هنا إلى قوله: {بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} وأمَّا بقيَّة الآية فقد ترجم بها في أوَّل «كفَّارات الأيمان» فقال لقوله: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة:89] نعم يحتمل أن يكون ساق الآية كلَّها أوَّلًا، ثمَّ ساق بعضها حيث احتاج إليه.