نجاح القاري لصحيح البخاري

باب من مات وعليه نذر

          ░30▒ (باب: مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ نَذْرٌ) أي: والحال أنَّ عليه نذرًا هل يقضى عنه أم لا، والَّذي ذكره في الباب يقتضي الأول، لكن هل هو على سبيلِ الوجوب، أو النَّدب فيه خلافٌ يأتي بيانه (وَأَمَرَ ابْنُ عُمَرَ) ☻ (امْرَأَةً، جَعَلَتْ أُمُّهَا عَلَى نَفْسِهَا صَلاَةً بِقُبَاءٍ) بالصَّرف يعني: فماتت (فَقَالَ) لها: (صَلِّي عَنْهَا) ويُروى: <صلي عليها>.
          ووجهه الكرماني: بأنَّ على بمعنى: عن، إذ حروف الجر بينها مناوبةٌ، وبأنَّ الضَّمير راجعٌ إلى قباء. وتعقَّبه العيني: بأنَّ المناوبة بين الحروف ليست على الإطلاق، ولم يقل أحدٌ إن «على» تأتي بمعنى «عن» مع أنَّ جماعةً زعموا أنَّ على لا تكون إلَّا اسمًا، ونسبوه لسيبويه. أقول: لم لا يجوز أن يكون صلَّى عليها بمعنى: ادعي لها، فيكون قد أمرها بالدُّعاء لها لا بالصَّلاة عنها، فتأمل.
          (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) ☻ / (نَحْوَهُ) أي: قال عبد الله بن عبَّاس ☻ نحو ما قال عبد الله بن عمر ☻ ، وقد وصله مالكٌ عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عَمرو بن حزم عن عمَّته أنَّها حدَّثته عن جدَّته أنَّها كانت جعلت على نفسها مشيًا إلى مسجد قُباء فماتت ولم تقضه، فأفتى عبد الله بن عبَّاسٍ ☻ ابنتها أن تمشي عنها.
          وأخرجه ابنُ أبي شيبة بسندٍ صحيحٍ عن سعيد بن جُبير، قال مرَّة عن ابن عبَّاس قال: إذا مات وعليه نذرٌ قضى عنه وليُّه. ومن طريق عون بن عبد الله بن عتبة: أنَّ امرأةً نذرت أن تعتكفَ عشرة أيَّام فماتت ولم تعتكف، فقال ابن عبَّاس: اعتكف عن أمك.
          وقد جاء عن ابن عمر وابن عبَّاس ♥ خلاف ذلك؛ ففي «الموطأ»: قال مالك: إنَّه بلغه أنَّ عبد الله بن عمر كان يقول: لا يصلِّي أحدٌ عن أحدٍ، ولا يصومُ أحدٌ عن أحدٍ. وأخرج النَّسائي من طريق أيُّوب بن موسى عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عبَّاس ☻ قال: لا يصلِّي أحدٌ عن أحدٍ، ولا يصوم أحدٌ عن أحدٍ، أوردهُ ابنُ عبد البر من طريقه موقوفًا، ثمَّ قال: والنَّقل عن ابن عبَّاس في هذا مضطربٌ.
          قال الحافظ العسقلاني: ويمكن الجمعُ بحمل الإثبات في حقِّ من مات، والنَّفي في حقِّ الحي. قال: ثمَّ وجدت عنه ما يدلُّ على تخصيصهِ في حقِّ الميِّت؛ فعند ابنِ أبي شيبة بسندٍ صحيحٍ سُئل ابن عبَّاس ☻ عن رجلٍ مات وعليه نذرٌ، فقال: يُقضى (1) عنه النَّذر.
          وقال ابنُ المنير: يحتمل أن يكون ابن عمر ☻ أراد بقوله: «صلِّي عنها» العمل بقوله صلعم : ((إذا مات ابنُ آدم انقطعَ عمله إلَّا من ثلاثٍ)). فعدَّ منها الولد؛ لأنَّ الولد من كسبه، وأعماله الصَّالحة مكتوبةٌ للوالد من غير أن ينقصَ من أجره، فمعنى «صلِّي عنها» أنَّ صلاتك مكتتبة لها، ولو كنت إنَّما تنوي عن نفسك، كذا قال.
          ولا يخفى تكلُّفه وحاصله: تخصيص الجواز بالولد، وإلى ذلك ذهب ابن وهبٍ وأبو مصعب من أصحاب مالك. /
          وبهذا الأثر أخذت الظَّاهريَّة وقالوا: يجب قضاء النَّذر عن الميِّت على ورثته صومًا كان أو صلاةً. وقالت الشَّافعيَّة: تجوز النِّيابة عن الميِّت في الصَّلاة والحج وغيرهما؛ لتضمُّن أحاديث الباب بذلك. وفي «التوضيح»: الفعل الَّذي يتضمَّن فعل النَّذر خاصَّةً كالصَّلاة والصَّوم، فالمشهور من مذاهب الفقهاء أنَّه لا يفعل.
          وقال محمد بن عبد الحكم: يُصام عنه، وهو القديمُ للشَّافعي، وصحَّت به الأحاديث فهو المختار، وقاله أحمدُ وإسحاق وأبو ثور وأهل الظَّاهر، وعند الحنفيَّة لا يصلِّي أحدٌ عن أحدٍ ولا يصوم عنه.
          وما نقل ابن بطَّال من إجماع الفقهاء: على أنَّه لا يصلِّي أحدٌ عن أحدٍ فرضًا ولا سنَّةً، لا عن حيٍّ ولا عن ميِّتٍ؛ لِمَا روي عن ابن عمر ☻ كذلك، وحمل قوله في الأثر المذكور على أنَّ المراد صلِّي عنها إن شئت، ففيه نظرٌ لا يخفى.
          ونُقل عن المهلَّب: أنَّ ذلك لو صحَّ لجاز في جميع العبادات البدنيَّة، ولكان الشَّارع أحقَّ بذلك أن يفعلَه عن أبويه، ولما نُهي عن الاستغفار لعمِّه، وبطل معنى قوله: و{لا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها} [الأنعام:164]. انتهى.
          وجميع ما قاله لا يخفى وجه تعقُّبه خصوصًا ما ذكره في حقِّ الشَّارع، وأمَّا الآية فعمومها مخصوصٌ اتِّفاقًا، فليتأمَّل.


[1] في الفتح ومصنف ابن أبي شيبة (يُصام).