نجاح القاري لصحيح البخاري

باب النذر فيما لا يملك وفي معصية

          ░31▒ (باب) حكم (النَّذْرِ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ) النَّاذر (وَ) حكم النَّذر (فِي مَعْصِيَةٍ) وفي بعض النسخ: <ولا في معصية>. وقع في «شرح ابن بطال»: ((ولا نذرَ في معصية)) وقال: ذكر فيه حديث عائشة ♦: ((من نذرَ أن يطيعَ الله فليطعه))، الحديث.
          وحديث أنس ☺ في الَّذي رآه يمشي بين ابنيه فنهاه، وحديث ابن عبَّاسٍ ☻ في الذي طاف، وفي أنفهِ خزامة فنهاهُ، وحديثه في الَّذي نذر أن يقومَ، ولا يستظلَّ فنهاه. قال: ولا مدخل لهذه الأحاديث في النَّذر فيما لا يملك، وأنَّه يدخلُ في نذر المعصية.
          وأجاب ابنُ المُنيِّر: بأنَّ الصَّواب مع البخاري، فإنَّه يكفِي البخاري عدم لزوم النَّذر فيما لا يملك من عدم لزومه في المعصية؛ لأنَّ نذره في ملك غيره تصرُّفٌ في ملك الغير بغير إذنه، وهو معصيةٌ. ثمَّ قال: ولهذا لم يقل باب النَّذر فيما لا يملك، وفي المعصية بل قال: باب النَّذر فيما لا يملك ولا نذر في المعصية، فأشار إلى اندراج نذر مال الغيرِ في نذر المعصية. انتهى.
          وما نفاه ثابتٌ في معظم الرِّوايات عن البخاري، وهو لا يخرج عن التَّقرير الَّذي قرره؛ لأنَّ التَّقدير: باب النذر فيما لا يملك، وحكم النَّذر في معصيةٍ، فإذا ثبت نفي النَّذر في المعصية التحق به / النَّذر فيما لا يملك؛ لأنَّه يستلزمُ المعصية بكونه تصرُّفًا في ملك الغير.
          وقال الكرماني: الدَّلالة على التَّرجمة من جهة أنَّ الشَّخص لا يملك تعذيب نفسه ولا تحريمَ الله ولا التزام المشقَّة التي لا تلزمه حيث لا قربة فيها، لكن الجمهور فسَّروا ما لا يملك بمثل النَّذر بإعتاق عبد فلان، واتَّفقوا على جواز النَّذر في الذِّمَّة بما لا يملك كإعتاق عبدٍ ولم يملك شيئًا. انتهى.
          وقال الحافظ العسقلاني: وما وجهه به ابن المنير أقربُ، لكن يلزم عليه تخصيصُ ما لا يملك بما إذا نذر شيئًا معينًا كعتق عبد فلانٍ إذا ملكه مع أنَّ اللَّفظ عامٌّ، فيدخلُ فيه ما إذا نذر عتقَ عبد غير معينٍ فإنَّه يصحُّ. ويُجاب: بأنَّ دليل التَّخصيص الاتِّفاق على انعقاد النَّذر في المبهم، وإنَّما وقع الاختلاف في المعين، وقد تقدَّم التَّنبيه في باب «من حلف بملَّةٍ سوى الإسلام» [خ¦6652] على الموضع الَّذي أخرجَ البخاري فيه التَّصريح بما يُطابق التَّرجمة، وهو في حديث ثابت بن الضَّحَّاك بلفظ: ((وليس على ابنِ آدم نذرٌ فيما لا يملك)).
          وقد أخرجه الترمذي مقتصرًا [على هذا القدر من الحديث، وأخرج أبو داود هذا الحديث عليه أيضًا، ولفظه: نذر رجلٌ على عهد رسول الله صلعم أن ينحرَ ببوانة، يعني: موضعًا، وهو بفتح الموحدة وتخفيف الواو وبنون، فذكر الحديث].
          وأخرج مسلمٌ من حديث عمران بن حصين ☺ في قصَّة المرأة التي كانت أسيرةً فهربت على ناقةٍ للنَّبي صلعم كان الَّذين أسروا المرأة انتهبوها، فنذرت إن سلمت أن تنحرها، فقال النَّبي صلعم : ((لا نذرَ في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابنُ آدم)).
          وأخرج ابن أبي شيبة من حديث أبي ثعلبة الحديث دون القصَّة بنحوه، وأخرجه النَّسائي من حديث عبد الرَّحمن بن سَمُرة مثله، وأخرجه أبو داود من حديث عمر ☺ بلفظ: ((لا يمين عليك، ولا نذرَ في معصية الرَّبِّ، ولا في قطيعة رحمٍ، ولا فيما لا يملك)).
          وأخرجه أبو داود والنَّسائي من رواية / عَمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه مثله.
          واختُلف فيمن وقع منه النَّذر في ذلك هل تجبُ فيه كفَّارة، فقال الجمهور: لا، وعن أحمد وإسحاق وبعض الشافعية والحنفية: نعم.
          ونقل الترمذيُّ اختلاف الصَّحابة في ذلك كالقولين، واتَّفقوا على تحريم النَّذر في (1) [المعصية، واختلافهم إنما هو في وجوب الكفارة، واحتج من أوجدها بحديث عائشة: لا نذر في معصية]، وكفارته كفارة يمين، أخرجه أصحاب «السنن» ورواته ثقات، لكنَّه معلولٌ فإنَّ الزهري رواه عن أبي سلمة، ثمَّ بيَّن أنَّه حمله عن سليمان بن أرقم عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة فدلَّسه بإسقاط اثنين، وحسَّن الظَّنُّ بسليمان، وهو عند غيره ضعيفٌ باتِّفاقهم.
          وحكى التِّرمذي عن البخاريِّ أنَّه قال: لا يصحُّ، ولكن له شاهدٌ من حديث عمران بن حُصين ☺، أخرجه النَّسائي وضعفه. وأخرج الدَّارقطني من حديث عديِّ بن حاتمٍ نحوه.
          وفي الباب أيضًا عموم حديث عقبة بن عامر: ((كفَّارة النَّذر كفَّارة اليمين)). أخرجه مسلم. وقد حمله الجمهورُ على نذر اللَّجاج والغضب، وبعضهم على النَّذر المطلق، لكن أخرج التِّرمذي وابن ماجه حديث عقبة بلفظ: ((كفَّارة النَّذر إذا لم يسمِّ كفارة اليمين)). ولفظ ابن ماجه: ((من نذر نذرًا لم يُسَمِّه)) الحديث.
          وفي الباب حديث ابن عبَّاس ☻ رفعه: ((من نذرَ نذرًا لم يسمِّه فكفَّارته كفَّارة يمينٍ [أخرجه أبو داود وفيه] ومن نذر في معصيته فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرًا لا يُطيقه فكفَّارته كفَّارة يمينٍ))، ورواته ثقاتٌ.
          لكن أخرجه ابن أبي شيبة موقوفًا، وهو أشبه، وأخرجه الدَّارقطني من حديث عائشة ♦، وحمله أكثر فقهاء أصحاب الحديث على عمومه، لكن قالوا: إنَّ النَّاذر مخير بين الوفاء بما التزمه وكفَّارة اليمين.


[1] من فتح الباري