نجاح القاري لصحيح البخاري

باب اليمين الغموس

          ░16▒ (باب) حكم (الْيَمِينِ الْغَمُوسِ) الغَمُوس _بفتح المعجمة وضم الميم وبعد الواو الساكنة سين مهملة_ فعول بمعنى فاعل. قيل: سُمِّيت بذلك؛ لأنَّها تغمس صاحبها في الإثم ثمَّ في النَّار.
          وقال ابنُ الأثير: وهو على وزن فعول للمبالغة. وقيل: الأصل في ذلك أنَّهم كانوا إذا / أرادوا أن يتعاهدوا أحضروا جفنة وجعلوا فيها طيبًا، أو دمًا، أو رمادًا، ثمَّ يحلفون عندما يدخلون أيديهم فيها؛ ليتمَّ لهم بذلك المراد من تأكيد ما أرادوا، فسُمِّيت تلك اليمين إذا غدر حالفها غموسًا؛ لكونه بالغَ في نقض العهد. قال الحافظُ العسقلاني: وكأنَّها على هذا بمعنى مفعول؛ لأنَّها مأخوذةٌ من اليد المغموسة.
          وقال ابن التِّين: اليمين الغموس التي تغمس صاحبها في الإثم، ولذلك قال مالك: لا كفَّارة فيها، واحتجَّ بقوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة:89] فهذه يمينٌ غير منعقدةٍ؛ لأنَّ المنعقد يمكن حلُّه ولا يتأتى في اليمين الغموس البرُّ أصلًا.
          ({وَلاَ تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ} [النحل:94]) مفعول ثان لـ{تتخذوا}؛ أي: مكرًا وخيانة وهو من تفسير قتادة وسعيد بن جُبير، أخرجه عبد الرَّزَّاق عن مَعمر عن قتادة قال: خيانةً وغدرًا، وأخرج ابنُ أبي حاتم من طريق سعيد بن جبير قال: يعني مكرًا وخديعة. وقال الفرَّاء: يعني: خيانةً. وقال أبو عبيدة: الدَّخل كلُّ أمرٍ كان على فسادٍ. وقال الطَّبري: معنى الآية: لا تجعلوا أيمانكم الَّتي تحلفون بها على أنَّكم توفون بالعهد لمن عاهدتموه دخلًا؛ أي: خديعة وغدرًا؛ ليطمئنوا إليكم وأنتم تضمرون الغدرَ. انتهى.
          ({فَتَزِلَّ قَدَمٌ}) أي: فتزل أقدامكم عن محجَّة الإسلام ({بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ}) في الدُّنيا ({بِمَا صَدَدْتُمْ}) أي: بصدودكُم ({عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}) وخروجكم عنها ({وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل:94]) في الآخرة. قال في «الكشاف»: وحدت القدم ونكرت؛ لاستعظام أن تزلَّ قدم واحدة عن طريق الحقِّ بعد أن ثبتت عليه، فكيف بأقدامٍ كثيرة.
          وقال أبو حيَّان: الجمع تارةً يُلْحظ فيه المجموع من حيث هو مجموع، وتارةً يُلْحظ فيه اعتبار كلِّ فرد فرد، فإذا لوحظ فيه المجموع كان الإسناد معتبرًا فيه الجمعيَّة، وإذا لوحظ فيه كل فرد فرد، كان الإسناد مطابقًا للفظ الجمع كثيرًا، فيَجمع ما أُسند إليه، ومطابقًا لكلِّ فرد فرد، فيفرد كقوله تعالى: {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآَتَتْ} [يوسف:31] أفرد {متَّكأ} لما كان لوحظ في قوله: {لهنَّ} معنى لكلِّ واحدةٍ، ولو جاء / مرادًا به الجمعيَّة، أو الكثير في الوجه الثاني لجمع المتَّكأ، وعلى هذا المعنى يحمل قول الشَّاعر:
فَإِنِّي رَأَيْتُ الضَّامِرِيْنَ مَتَاعُهُمْ                     يَمُوْتُ وَيَفْنَى فَارْضَخِي مِنْ وِعَائِيَا
          أي: رأيت كلَّ ضامرٍ، ولذلك أفرد الضمير في يموت ويفنى، ولما كان المعنى لا يتَّخذ كلُّ واحدٍ واحد منكم جاء ((فتزل قدم)) مراعاة لهذا المعنى. ثمَّ قال: ((وتذقوا)) مراعاة للمجموع، أو للفظ الجمع على الوجه الكثير، إذا قلنا: إنَّ الإسناد لكلِّ فردٍ فرد، فتكون الآية قد تعرَّضت للنَّهي عن اتِّخاذ الأيمان دخلًا باعتبار المجموع، وباعتبار كلِّ فردٍ فرد، ودلَّ على ذلك بإفراد قدم، وبجمع الضَّمير في ((وتذوقوا)).
          وتعقَّبه تلميذه شهاب الدِّين السمين فقال: بهذا التَّقدير الَّذي ذكره يفوت المعنى الجزل الَّذي اقتنصه الزَّمخشري من تنكير ((قدم)) وإفرادها، وأمَّا البيت المذكور، فإنَّ النَّحويين خرَّجوه على أنَّ المعنى يموت مَنْ ثمة، ومن ذُكِر فأفرد الضَّمير لذلك لا لما ذكر. انتهى.
          ومناسبة ذكر هذه الآية لليمين الغموس ورود الوعيد على من حلف كاذبًا متعمِّدًا.
          وهذه الآية كلُّها سيقت في رواية كريمة، وفي رواية أبي ذرٍّ: <إلى قوله: {بعد ثبوتها} [النحل:94]>، وكذا في الفرع وأصله.