نجاح القاري لصحيح البخاري

باب موعظة المحدث عند القبر وقعود أصحابه حوله

          ░82▒ (بابُ: مَوْعِظَةِ الْمُحَدِّثِ) أي: وعظَه وإنذاره بالعواقبِ (عِنْدَ الْقَبْرِ، وَقُعُودِ أَصْحَابِهِ) أي: المحدث، وهو بالجرِّ عطف على الموعظةِ (حَوْلَهُ) عند القبر لسماع الموعظة والتَّذكير بالموت وأحوال الآخرة.
          وكأنَّ المؤلِّف أشار بهذه التَّرجمة إلى أنَّ الجلوس مع الجماعة عند القبر إن كانت لمصلحة تتعلَّق بالحيِّ أو الميت لا يكره، فأمَّا مصلحة الحيِّ، فمثل أن يجتمعَ قومٌ عند قبرٍ، وفيهم من يَعظُهم ويذكِّرهم الموت وأحوال الآخرة، وأمَّا مصلحة الميت، فمثل أن يجتمعوا عنده لقراءة القرآن والذِّكر فإنَّ الميت ينتفعُ به.
          وروى أبو داود من حديث مَعقل بن يسار قال: قال النَّبي صلعم : ((اقرءوا يس على موتاكم)).
          وفي كتاب «السنن» (1) عن عليِّ بن أبي طالب ☺: أنَّ النَّبي صلعم قال: ((من مرَّ بين المقابر فقرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] إحدى عشرة مرَّة، ثمَّ وهب أجرها للأموات أُعطي من الأجر بعدد الأموات)).
          وفيه أيضاً عن أنس ☺ يرفعه: ((من دخلَ المقابر فقرأَ يس خفَّف الله عنهم يومئذٍ)).
          وعن أبي بكرٍ الصِّديق ☺ قال: قال رسول الله صلعم : ((من زارَ قبر والديه أو أحدهما، فقرأ عنده أو عندهما يس غُفِر له)).
          فهذه الأحاديث وأمثالها تدلُّ على أنَّ الميت ينتفعُ بقراءة القرآن عنده، وهي حجَّةٌ على من قال: إنَّ الميت لا ينتفعُ بقراءة الحيِّ.
          وقال القسطلانيُّ: وقد انضمَّ إلى ذلك مشاهدة القبور وتذكر أصحابها، وما كانوا عليه وما صاروا إليه، وذلك أنفعُ الأشياء لجلاء القلوب.
          وقال ابن المُنيِّر: لو فطنَ أهل مصر لترجمة البخاريِّ هذه لقرَّت أعينهم بما يتعاطونه من جلوس الوعَّاظ في المقابر وهو حسنٌ إن لم يخالطه مفسدة. انتهى.
          ولما كان من عادة المؤلِّف ☼ أن يذكرَ بعد التَّرجمة تفسير بعض ألفاظ القرآن مناسبة لما ترجم له تكثيراً للفوائد، وكأنَّ هذه التَّفاسير التي يذكرها تتعلَّق بذكر القبر ولها تعلُّقٌ بالموعظة ذكرها.
          وقال الزَّين ابن المُنيِّر: مناسبة إيراد هذه الآيات في هذه التَّرجمة هي الإشارة إلى أنَّ المناسب لمن قعدَ عند القبر أن يقصرَ كلامه على الإنذار بقربِ المصير إلى القبر، ثمَّ إلى النَّشر لاستيفاء العمل، قال في قوله تعالى: ({يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ} [القمر:7]: القُبُور) أي: المراد بالأجداث في الآية القبور.
          وقد وصله ابنُ أبي حاتم وغيره من طريق قتادة والسُّدِّي وغيرهما واحدها: جَدَث _بفتح الجيم والدال المهملة وبالمثلثة_، وفي «الصحاح»: الجدث: القبر، والجمع: أَجْدُث وأَجْدَاث، وقال ابنُ جنِّي: وأَجْدُث موضع.
          وقد نفى سيبويه أن يكون أفعل من أبنية الواحد، / فيجب أن يعد هذا ممَّا فاته إلَّا أن يكون جمع الجدث الذي هو القبر على أجدث، ثمَّ سمِّي به الموضع.
          وقال في قوله تعالى: {وَإِذَا الْقُبُورُ} [الانفطار:4] ({بُعْثِرَتْ}) معناه: أُثيرت _بالمثلثة بعد الهمزة المضمومة_ من الإثارة، يقال: (بَعْثَرْتُ حَوْضِي؛ أَيْ: جَعَلْتُ أَسْفَلَهُ أَعْلاَهُ) وفي «الصحاح»: قال أبو عُبيدة: {بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ} أُثير وأخرج، وقال في «المجاز» بعثرتُ حوضي؛ أي: هدمته، وفي «المعاني» للفرَّاء: بعثرتُ وبحثرت لغتان.
          وفي «تفسير الطَّبري» عن ابن عبَّاس: بعثرت بحثت، وفي «المحكم»: بعثرَ المتاع والتُّراب قلبه وبعثر الشَّيء فرَّقه، وزعم يعقوبُ أنَّ عينها بدل من الحاء أو الحاء بدل من العين، وفي «الواعي»: في اللغة بعثرته، إذا قلبت ترابه وبددته.
          وقال السُّدي: فيما رواه ابن أبي حاتم: حركت فأخرج ما فيها من الأموات، وقال في قوله تعالى: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} [المعارج:43].
          (الإِيفَاضُ) مصدر أوفضَ يُوفض، وأصله: إوفاض معناه: (الإِسْرَاعُ) وثلاثيُّهُ: وفضَ من الوفض وهو العجلة (وَقَرَأَ الأَعْمَشُ) هو: سليمان بن مهران موافقة لباقي القرَّاء إلَّا ابن عامر وحفصاً فإنهما قرأا: بضم النون والصاد <{إِلَى نَصْبٍ}> بفتح النون وسكون الصاد، وزيد في نسخة قوله: <{يُوفِضُونَ}>، وفي رواية: <▬إلى نُصْب↨> بضم النون وسكون الصاد، والأوَّل أصحُّ عن الأعمش؛ يعني: معنى قوله: {إِلَى نُصُبٍ}.
          (إِلَى شَيْءٍ مَنْصُوبٍ يَسْتَبِقُونَ إِلَيْهِ) أي: إلى عَلَمٍ منصوبٍ لهم يعبدونه ويبتدرون إليه إذا طلعت الشَّمس أيُّهم يستلمه أولاً لا يلوي أوَّلهم على آخرهم، نقله ابنُ أبي حاتم عن الحسن (وَالنُّصْبُ) بضم النون وسكون الصاد (وَاحِدٌ) أي: مفرد لا مجموع، وإنَّما المجموع هو النُّصُب: بضم النون والصاد.
          (وَالنَّصْبُ) بفتح النون وسكون الصاد (مَصْدَرٌ) أشار بهذا إلى أنَّ النُّصْب _بضم النون وسكون الصاد_ يستعمل اسماً، وبفتح النون وسكون الصاد يستعمل مصدراً، ويجمع على أنصاب، وهي الآلهة التي كانت تعبد من حجارةٍ كانت حول الكعبة تنصب فيها عليها ويذبح لغير الله.
          قال الحافظ العسقلانيُّ: كذا وقع فيه، والذي في «المعاني» للفرَّاء: النَّصب والنُّصب واحد وهو مصدر والجمع: أنصاب، فكأنَّ التَّغيير من بعض النَّقلة.
          وتعقَّبه العينيُّ بأنَّه لا تغيير فيه؛ لأنَّ البخاريَّ فرق بكلامه هذا بين الاسم والمصدر، ولكن من قصرت يده عن علم / الصَّرف لا يفرق بين الاسم والمصدر في مجيئهما على لفظٍ واحدٍ. انتهى فليتأمَّل.
          وقال في قوله تعالى: {ذلك (يَوْمُ الْخُرُوجِ}) معناه: يوم خروج أهل القبور (مِنَ الْقُبُورِ)، وقال في قوله تعالى: {فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ} ({يَنْسِلُونَ}) [يس:51] معناه: (يَخْرُجُونَ) وقال أبو عبيدة: {يَنْسِلُونَ}: يسرعون، والذِّئب: ينسل ويعسل.
          وفي «الكامل» العسلان: غير النَّسلان، وفي كتاب الزجاج وابن جرير الطَّبري و((تفسير ابن عبَّاس)) ☻ : {يَنْسِلُونَ}: يخرجون بسرعة.
          وفي «المجمل»: النَّسلان مشيَة الذِّئب: إذا أعنَقَ وأسرع، وفي «المحكم»: نَسَل يَنْسِل نَسْلاً ونَسَلاً ونَسَلاناً وأصله للذئب، ثمَّ استعمل في غير ذلك، وفي «الجامع» للقزَّاز: نسولاً، وأصله عدو مع مقاربة خطو.


[1] لأبي بكر بن النجار.