نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: أتاني آت من ربي فأخبرني أنه من مات من أمتي

          1237- (حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ) أبو سلمة المنقري التَّبوذكي، وقد مرَّ غير مرَّة (قَالَ: حَدَّثَنَا مَهْدِيُّ) بفتح الميم / (بْنُ مَيْمُونٍ) البصري الأزدي، وقد مرَّ في باب «من إذا لم يتمَّ السُّجود» [خ¦808] (قَالَ: حَدَّثَنَا وَاصِلٌ) اسم فاعل من الوصول، هو: ابن حَيَّان، بفتح المهملة وتشديد المثناة التحتية وبالنون.
          (الأَحْدَبُ) ضدُّ الأقعس، وقد مرَّ في باب «المعاصي من الجاهلية»، من كتاب «الإيمان» [خ¦30] (عَنِ الْمَعْرُورِ) بفتح الميم وسكون العين المهملة وبالراء المكررة (ابْنِ سُوَيْدٍ) بضم السين المهملة على صيغة التصغير آخره دال مهملة، وقد تقدَّم أيضاً في الباب المذكور [خ¦30].
          (عَنْ أَبِي ذَرٍّ) جندب بن جنادة الغفاري ☺ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلعم : أَتَانِي آتٍ مِنْ رَبِّي) والمراد به: جبريل ◙، وفسَّره به في «التَّوحيد» من طريق شعبة، عن واصل حيث قال: ((أتاني جبريل ◙ فبشَّرني أنَّه من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنَّة)) الحديث [خ¦7487].
          وأورده المؤلِّف في «اللِّباس» [خ¦5827] من طريق أبي الأسود، عن أبي ذرٍّ ☺ قال: ((أتيت النَّبي صلعم وعليه ثوبٌ أبيض وهو نائم، ثمَّ تنبَّه وقد استيقظ...)) فذكر الحديث، وهذا يدلُّ على أنَّه أتاه في المنام. ورواه الإسماعيلي من طريق مهدي في أوَّله قصة قال: ((كنَّا مع رسول الله صلعم في مسير له، فلمَّا كان في بعض اللَّيل تنحَّى، فلبث طويلاً، ثمَّ أتانا فقال: أتاني آت...)) الحديث.
          (فَأَخْبَرَنِي، أَوْ قَالَ: بَشَّرَنِي) وجزم في «التَّوحيد» (1) بقوله: ((فبشَّرني)) [خ¦7487] (أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي) أي: من أمَّة الإجابة، ويحتمل أن يكون أعمَّ من ذلك (2) ؛ أي: أمَّة الدَّعوة وهو متَّجه أيضاً (لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئاً) وأورده المؤلِّف في «اللِّباس» بلفظ: ((ما من عبد قال: لا إله إلا الله، ثمَّ مات على ذلك)) الحديث [خ¦5827].
          وإنَّما لم يورده المؤلِّف هنا جرياً على عادته في إيثار الخفيِّ على الجليِّ، وذلك أنَّ نفي الشِّرك يستلزم إثبات التَّوحيد، ويشهد له استنباط عبد الله بن مسعود ☺ في ثاني حديثَي الباب بقوله: ((من مات يشرك بالله شيئاً دخل النَّار)) [خ¦1238].
          قال القرطبي: معنى نفي الشِّرك أن لا يتَّخذ مع الله شريكاً في الألوهيَّة، لكن هذا القول صار بحكم العرف عبارة عن الإيمان الشَّرعي.
          (دَخَلَ الْجَنَّةَ) قال أبو ذرٍّ ☺: (قُلْتُ) وفي رواية: <فقلت> (وَإِنْ زَنَىَ وإنْ سَرَقَ) وقد يتبادر إلى الوهم أنَّ القائل هو النَّبي صلعم ، والمقول له الملك الذي بشَّره، وليس كذلك، بل القائل هو أبو ذر كما أشير إليه، والمقول له هو النَّبي صلعم كما بينه المؤلِّف / في «اللِّباس» [خ¦5827].
          وعند التِّرمذي: قال أبو ذرٍّ ☺: يا رسول الله...إلى آخره، وحرف الاستفهام فيه مقدَّر تقديره: أَيدخل الجنَّة وإن زنا وإن سرق، وجملة الشَّرط في محل النَّصب على الحال، وكأنَّ أبا ذرٍّ ☺ قال مستبعداً؛ لأنَّ في ذهنه قول رسول الله صلعم : ((لا يزني الزَّاني حين يزني وهو مؤمن)) وما في معناه؛ لأنَّ ظاهره معارض لظاهر هذا الخبر، لكن الجمع بينهما على قواعد أهل السنَّة يحمل هذا على الإيمان الكامل، ويحمل حديث الباب على عدم التَّخليد في النَّار.
          (قَالَ) صلعم : (وَإِنْ زَنَا وَإِنْ سَرَقَ) يدخل الجنَّة، ولا يلزم من مفهومه أنَّ من لم يزن ولم يسرق لم يدخل الجنَّة؛ لأنَّه من قبيل ((نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه))، فمن لم يزنِ ولم يسرقْ فهو أولى بالدُّخول ممَّن زنا وسرق، ويمكن أن يكون القائل الأوَّل هو النَّبي صلعم ، والمقول له هو الملَك الذي بشَّره، فيكون صلعم قاله مستوضحاً، [و] قاله أبو ذرٍّ مستبعداً كما تقدَّم آنفاً. والحكمة في الاقتصار على الزِّنا والسَّرقة الإشارة إلى جنس حقِّ الله تعالى، وحقِّ العبد، والله أعلم.
          وفي الحديث حجَّة لأهل السنَّة أنَّ أصحاب الكبائر لا يقطع لهم بدخول النَّار، وأنَّهم إن دخلوها خرجوا منها.
          وقال ابن بطَّال: من مات على اعتقاد لا إله إلا الله، وأن بعد قوله لها عند موته إذا لم يقل بعدها خلافها حتَّى مات فإنَّه يدخل الجنَّة.
          وقال الزَّين ابن المُنيِّر: حديث أبي ذرٍّ ☺ من أحاديث الرَّجاء التي أفضى الاتِّكال عليها ببعض الجهلة إلى الإقدام على الموبقات، وليس هو على ظاهره، فإنَّ القواعد استقرَّت على أنَّ حقوق الآدميين لا تسقط بمجرَّد الموت على الإيمان، ولكن لا يلزم من عدم سقوطها أن لا يتكفَّل الله بها عمَّن يريد أن يدخله الجنَّة.
          ومن ثمَّة ردَّ صلعم على أبي ذرٍّ ☺ استبعاده فقال في رواية: ((على رَغْم أنف أبي ذرٍّ)) بفتح الراء وسكون المعجمة، ويقال: بضمها وكسر، وهو مصدر رغم _بفتح الغين وكسرها_ مأخوذ من الرغام، وهو التُّراب، وكأنَّه دعا عليه بأن يلصق أنفه بالتُّراب من غير أن يريد حقيقته.
          فيحتمل أن يكون المراد بقوله: «دخل الجنَّة»؛ أي: صار إليها إما ابتداء من أوَّل الحال، وإمَّا بعد أن يقعَ ما يقع من العذاب، فنسأل الله العفو والعافية.
          وفي الحديث أيضاً دَلالة على أنَّ الكبائر لا تسلب اسم الإيمان، فإنَّ من ليس بمؤمن لا يدخل الجنَّة وفاقاً، وإنها لا تحبط الطَّاعات.
          ومطابقة الحديث للتَّرجمة من حيث إنَّه يدلُّ على أنَّ من مات ولم يشرك بالله شيئاً، فإنَّه يدخل الجنَّة، وهو معنى قوله في التَّرجمة: «من كان آخر كلامه لا إله إلا الله»، فإنَّ ترك الإشراك هو التَّوحيد / والقول بلا إله إلا الله هو التَّوحيد بعينه.
          ورجال إسناد الحديث ما بين بصري وكوفي، وقد أخرج متنه المؤلِّف في «التَّوحيد» أيضاً [خ¦7487]. وأخرجه مسلم في «الإيمان»، والنَّسائي في «اليوم واللَّيلة»، والتِّرمذي أيضاً.


[1] من قوله: ((من طريق شعبة... إلى قوله: قال بشرني)): ليس في (خ).
[2] قوله: ((أي من أمة الإجابة، ويحتمل أن يكون أعم من ذلك)): ليس في (خ).