نجاح القاري لصحيح البخاري

باب فضل من مات له ولد فاحتسب

          ░6▒ (بابُ فَضْلِ مَنْ مَاتَ لَهُ وَلَدٌ) قال الزَّين ابن المُنيِّر: عبَّر المؤلِّف ☼ بالفضل ليجمع بين الأحاديث الثَّلاثة التي أوردها في الباب؛ لأنَّ في الأوَّل: دخول الجنَّة، وفي الثَّاني: الحجب عن النَّار، وفي الثَّالث: تقييد الولوج بتحلة القسم، وفي كلٍّ منها ثبوت الفضل لمن وقع له ذلك، ويجمعُ بينها بأن يقال: الدُّخول لا يستلزمُ الحجب، ففي ذكر الحجب فائدة زائدة لا تستلزم الدُّخول من أوَّل وهلة.
          وأمَّا الثَّالث: فالمراد بالولوج: الورودُ، وهو المرورُ على النَّار، كما سيأتي الكلام فيه عند قوله: ((إلا تحلَّة القسم)) [خ¦1251]، والمراد عليها على أقسام منهم من لا يسمع حسيسها وهم الذين سبقتْ لهم الحسنى من الله كما في القرآن، فلا تنافي بين الولوج والحجب.
          وعبَّر بقوله: ولد؛ ليتناول الواحد فصاعداً، وإن كان حديث الباب قد قيِّد بثلاثة أو اثنين فإنَّه قد وقع في بعض طرقه ذكر الواحد، ففي حديث جابر بن سَمُرة مرفوعاً: ((من دفن ثلاثة فصبر عليهم واحتسب وجبتْ له الجنَّة، فقالت أم أيمن: أو اثنين فقال: أو اثنين فقالت: أو واحد فسكت ثمَّ قال: أو واحد)) أخرجه الطَّبراني في «الأوسط».
          وحديث ابن مسعود ☺ مرفوعاً: ((من قدَّم ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث كانوا حصناً حصيناً من النَّار، قال أبو ذرٍّ: قدَّمتُ اثنين / قال: واثنين، قال أبيُّ بن كعب: قدَّمتُ واحداً، قال: وواحداً)) أخرجه التِّرمذي وقال: غريب.
          وعنده من حديث ابن عبَّاس ☻ رفعه: ((من كان له فَرَطَان من أمَّتي أدخلَه الله بهما الجنَّة، فقالت عائشة ♦: فمَن كان له فَرَطٌ من أمَّتك؟ قال: ومن كان له فرط يا موفَّقة. قالت: فمن لم يكن له فرطٌ من أمَّتك؟ قال: أنا فرط أمَّتي لن تصابوا بمثلي)) وقال: هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ.
          قال الحافظ العسقلانيُّ: وليس في شيء هذه الطُّرق ما يصلح للاحتجاج، بل وقع في رواية شريك التي علَّق المصنِّف إسنادها كما سيأتي ولم تسأله عن الواحد [خ¦1250].
          وروى النَّسائي وابن حبَّان من طريق حفص بن عُبيد الله عن أنس ☺: أنَّ المرأة التي قالت: واثنان قالت بعد ذلك: يا ليتني قلتُ: وواحد.
          وروى أحمد من طريق محمود بن لبيد عن جابر رفعه: ((من ماتَ له ثلاثةٌ من الولد فاحتسبَهُم دخلَ الجنَّة، قلنا: يا رسولَ الله واثنان؟ قال: واثنان)).
          قال محمود: قلت لجابر ☺: أُراكم لو قلتُم وواحد لقال وواحد، قال: وأنا أظنُّ ذاك.
          ورواهُ البيهقي أيضاً، وهذه الأحاديث الثَّلاثة أصحُّ من تلك الثَّلاثة، لكن روى المؤلِّف ☼ من حديث أبي هريرة ☺ كما سيأتي في «الرِّقاق» مرفوعاً [خ¦6426]: ((يقول الله ╡: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيَّه من أهل الدُّنيا ثمَّ احتسبه إلا الجنَّة))، وهذا يدخل فيه الواحد فما فوقه، وهو أصحُّ ما ورد في ذلك.
          (فَاحْتَسَبَ) وفي نسخة: <فاحتسبه> أي: صبر راضياً بقضاء الله تعالى، راجياً لفضله ورحمته وغفرانه، والاحتساب من الحسب كالاعتداد من العد، وإنَّما قيل لمن ينوي بعمله وجه الله: احتسبه؛ لأنَّ له حينئذٍ أن يعتدَّ بعمله، فجعل في حال مباشرة الفعل كأنَّه معتد به، والاحتساب في الأعمال الصَّالحة، وعند المكروهات هو البدار إلى طلب الأجر وتحصيله بالتَّسليم والصَّبر، أو باستعمال أنواعِ البر، والقيام بها على الوجه المرسوم فيها طلباً للثَّواب المرجو منها.
          ولم يقع التَّقييد بذلك في أحاديث الباب، وكأنَّه أشار إلى ما وقع في بعض طرقه أيضاً، كما في حديث جابر بن سَمُرة المذكور قبل أي قبل قليل، وكذا في حديث جابر بن عبد الله.
          وفي رواية ابن حبَّان والنَّسائي من طريق حفصِ بن عُبيد الله بن أنس عن أنس ☺ رفعه: ((من احتسبَ من صلبه ثلاثة دخل الجنَّة)) الحديث.
          ولمسلم من طريق سُهيل بن صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة ☺ مرفوعاً: ((لا يموت لإحداكن ثلاثة من الولد فتحسبهم إلَّا كانوا جُنَّةً من النَّار)).
          ولأحمد / والطَّبراني من حديث عقبة بن عامر ☺ رفعه: ((من أعطى ثلاثة من صلبه فاحتسبهم على الله وجبت له الجنَّة)) وفي رواية: ((من ثكل ثلاثة)) الحديث.
          وفي «الموطَّأ» عن أبي النضر السُّلمي رفعه: ((لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فيحتسبهم إلا كانوا جُنَّة من النَّار)).
          وقد عرف من القواعد الشَّرعية أن الثَّواب يترتب على النيَّة، فلا بد من قيد الاحتساب، فالأحاديث المطلقة محمولة على المقيَّدة، لكن في «معجم الطَّبراني» عن ابن مسعود ☺ مرفوعاً: ((من مات له ولد ذكر أو أنثى، سَلِمَ أو لم يَسْلَم، رضي أم لم يرض، صبر أم لم يصبر لم يكن له ثواب إلا الجنَّة)) لكن إسناده ضعيف.
          (وَقَالَ اللَّهُ) وفي رواية: <وقولِ الله> بالجرِّ على قوله: «من مات» (╡): {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ} أي: ولنصيبنَّكم إصابة تشبه فعل المختَبِرِ لأحوالكم هل تصبرون وتثبتون على ما أنتم عليه من الطَّاعة، وتسلِّمون لأمر الله وحكمه أم لا؟ والبلاء معيار كالمحك يظهر به جوهر النفْسِ هل تصبر وتثبت أم تجزع وتقلق {بِشَيْءٍ} قليل؟
          وفيه إيذان بأن كلَّ بلاء أصاب الإنسان وإن جلَّ ففوقه ما يقل بالنسبة إليه، وليخفف عليهم بأن رحمته معهم في كلِّ حال لا تزايلهم حتَّى في حال البلاء، فلو عرفوا ذلك لشكروا في موضع الصَّبر، ولهذا شكر العرفاء وحمدوا الله تعالى على البلاء، كما شكر غيرهم على النَّعماء، وإنما وعدهم ذلك قبل كونه؛ ليعلموا ثواب الصبر ويوطِّنوا عليه نفوسهم.
          {مِنَ الْخَوْفِ} أي: خوف العدو كالخوف الذي أصابهم يوم الخندقِ حتَّى بلغت القلوب الحناجر {وَالْجُوعِ} أي: القحط الذي أصابهم، فكان يمضي على أحدِهم أيامٌ لا يجد طعاماً.
          {وَنَقْصٍ} بتنوين التَّقليل والتَّحقير، عطف على شيء أو على الخوف {مِنَ الْأَمْوَالِ} يعني: ذهاب أموالهم بالهلاك والخسران. ويقال: المراد موت الماشية {وَالْأَنْفُسِ} بالموت والقتل والأمراض {وَالثَّمَرَاتِ} أي: نقص الثمار، لا تخرج الثمر كما كانت تخرج أو تصيبها الآفة، ويقال: الثَّمرات هي الأولاد إذ الولد ثمرة القلب.
          وعن الشافعي ☼ : الخوف خوف الله، والجوع صيام شهر رمضان، والنقص من الأموال الزكاة والصدقات، ومن الأنفس الأمراض، ومن الثمرات موت الأولاد.
          ({وَبَشِّرِ}) والخطاب لرسول الله صلعم أو لكلِّ من تتأتى منه البشارة ({الصَّابِرِينَ}) [البقرة:155] الذين يصبرون على هذه المصائب والشَّدائد [التي] ذكرت في هذه الآية، الحابسين أنفسهم عليها، ثمَّ وصفهم الله تعالى بقوله: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ} صبروا ولم يجزعوا، {قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ} نحن عبيد الله وفي ملكه إن عشنا / فعليه رزقنا، وإن متنا فإليه مردنا، {وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:156] بعد الموت، ونحن راضون بحكمه، وليس المراد مجرد القول باللسان، بل لا بد معه من الإذعان بالجنان.
          وعن النَّبي صلعم : ((من استرجع عند المصيبة جبر الله مصيبته، وأحسن عقباه، وجعل له خلفاً صالحاً يرضاه)).
          وروي: أنَّه طفئ سراج رسول الله صلعم فقال: ((إنا لله وإنا راجعون فقيل: أمصيبة هي؟ قال: نعم كل شيء يؤذي المؤمن فهو له مصيبة)).
          وعن النَّبي صلعم : ((إذا مات ولد العبد قال الله تعالى للملائكة: أقبضتم ولد عبدي فيقولون: نعم فيقول: أقبضتم ثمرة قلبه؟ فيقولون: نعم، فيقول الله ╡ ماذا قال عبدي؟ فيقولون(1) : حمدك واسترجع، فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنَّة وسمُّوه بيت الحمد)).
          والمبشر به محذوف يدل عليه قوله تعالى: {أُولَئِكَ} يعني أهل هذه الصفة الجليلة {عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ} والصلاة من الله على ما قيل عبارة عن ثلاثة أشياء: توفيق الطاعة، والعصمة عن المعصية، ومغفرة الذنوب، فبالصلاة الواحدة تكون لهم هذه الأشياء، وقد وعد لهم الصلوات الكثيرة فمقدار ذلك لا يعلمه إلا الله تبارك وتعالى. {وَرَحْمَةٌ} أي: لطف وإحسان في غاية الكمال. والمعنى عليهم رأفة بعد رأفة ورحمة أيُّ رحمة {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:157] الموفقون لطريق الصَّواب حيث استرجعوا وسلَّموا لأمر الله تعالى.
          وروي عن سعيد بن جبير أنَّه قال: لم يكن الاسترجاع إلا لهذه الأمة، ألا يرى أن يعقوب ◙ قال: {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} [يوسف:84] فلو كان له الاسترجاع لقال ذلك. ذكره أبو اللَّيث في «تفسيره».
          وروى عثمان بن عطاء عن أبيه أنَّه قال: قال رسول الله صلعم : ((من ذكر مصيبة أو ذكرت عنده فاسترجعَ جدَّد الله ثوابها كيوم أصيب بها))، وعن عطاء بن أبي رباح قال: قال رسول الله صلعم : ((من أصابته مصيبة فليتذكَّر مصيبتَه فيَّ، فإنَّها من أعظمِ المصائب)). وروي هذان الحديثان عن عليِّ بن أبي طالب ☺.
          وروي عن عمر بن الخطَّاب ☺ أنَّه قال: نعم العِدلان، ونعم العِلاوة، فالعِدلان قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} والعِلاوة قوله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:157].
          والعِدلان _بكسر المهملة_؛ أي: المثلان، والعِلاوة _بكسرها أيضاً_: ما يعلقُ على البعير بعد تمامِ الحمل.
          وقد روي نحوه مرفوعاً أخرجه الطَّبراني في «الكبير» من حديث ابن عبَّاس ☻ قال: قال رسول الله صلعم : ((أُعطيتْ أمتي شيئاً لم يُعطه أحد من الأمم عند المصيبة {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} إلى قوله: {الْمُهْتَدُونَ} قال: إنَّ المؤمن إذا سلَّم لأمر الله تعالى واسترجعَ كتب له ثلاث خصال من الخير: الصلاة من الله، والرحمة، وتحقيق سبل الهدى)).
          وذكر المؤلِّف ☼ هذه الآية تأكيداً لقوله: «فاحتسب»؛ لأنَّ الاحتساب لا يكون إلَّا بالصَّبر، ولفظ المصيبة / عام فتتناول المصيبة بالولد.


[1] من قوله: ((نعم فيقول... إلى قوله: فيقولون)): ليس في (خ).