نجاح القاري لصحيح البخاري

باب: إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه

          ░79▒ (بابٌ) بالتنوين (إِذَا أَسْلَمَ الصَّبِيُّ فَمَاتَ) قبل البلوغ (هَلْ يُصَلَّي عَلَيْهِ)؟ أولاً (وَهَلْ يُعْرَضُ عَلَى الصَّبِيِّ الإِسْلاَمُ)؟ وفي هذا الباب ترجمتان الأولى: أنَّ الصَّبي إذا أسلم فمات قبل البلوغ هل يصلَّى عليه؟ فيه خلافٌ فلذلك لم يذكر جواب الاستفهام، ولا خلاف أنَّه يصلَّى على الصَّغير المولود في الإسلام؛ لأنَّه كان على دين / أبويه.
          قال ابن القاسم: إذا أسلم أحد أبويه فيه ثلاثة أقوال:
          أحدها: أنَّه يتبع أيّهما أسلم، وهو أحد قولي مالك، وبه أخذ ابن وهب ويُصلَّىَ عليه إن مات على هذا.
          والثَّاني: أنَّه يتبع أباه ولا يعد بإسلام أمِّه، وهذا قول مالك في «المدونة».
          والثَّالث: أنَّه يتبع أمه وإن أسلم أبوه، وهذه مقالةٌ شاذَّةٌ ليست في مذهب مالك.
          وقال ابن بطَّال: أجمع العلماء في الطِّفل الحربي يُسبَى ومعه أبوان أنَّ إسلام الأمِّ إسلامٌ له.
          واختلفوا فيما إذا لم يكن معه أبوه، أو وقع في الغنيمة دونها ثمَّ مات في ملك مشتريه، فقال مالك في «المدونة:» لا يصلَّى عليه إلَّا أن يجيب إلى الإسلام بأمر يُعرَف به أنَّه عقله، وهو المشهور من مذهبه.
          وعنه إذا لم يكن معه أحدٌ من آبائه ولم يبلغ أن يتديَّن أو يدَّعى، ونوى سيده الإسلام فإنَّه يصلَّى عليه وأحكامه أحكام المسلمين في الدَّفن في مقابر المسلمين والموارثة، وهو قول ابن الماجشون وابن دينار وأصبغ.
          وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي والشَّافعي وفي رواية شروح «الهداية»: إذا سُبِيَ صبيٌّ مع أحد أبويه فمات لم يصلَّ عليه حتَّى يقرَّ بالإسلام وهو يعقل، أو يسلم أحد أبويه خلافاً لمالك في إسلام الأمِّ، والشَّافعي في إسلامه قال: وهو والولد يتبع خير الأبوين ديناً، والتَّبعية للأبوين ثمَّ الدار ثمَّ اليد.
          وفي «المغني»: لا يصلَّى على أولاد المشركين إلَّا أن يسلمَ أحد أبويهم أو يموت مشركاً فيكون ولده مسلماً أو يُسبى منفرداً، فإنَّه يصلَّى عليه، وقال أبو ثور: إذا سُبي مع أحد أبويه لا يصلَّى عليه (1) إلَّا إذا أسلم، وعنه إذا أسرَ مع أبويه، أو أحدهما، أو وحده ثمَّ مات قبل أن يختار الإسلام يصلَّى عليه.
          وأمَّا التَّرجمة الثَّانية: فإنَّه ذكرها هنا بلفظ الاستفهام وترجم في كتاب «الجهاد» بصيغةٍ تدلُّ على الجزم، فقال: كيف يعرض الإسلام على الصَّبي، وذكر فيه قصَّة ابن صياد [خ¦3055].
          وفيه: وقد قارب ابن صيادٍ يحتلم فلم يشعر حتَّى ضرب النَّبي صلعم ظهره بيده، ثمَّ قال النَّبي صلعم : ((أتشهد أنِّي رسول الله صلعم ...)) الحديث.
          وفيه: عرض الإسلام على الصَّغير، واحتجَّ به قومٌ على صحَّة إسلام الصَّبي الذي قارب الاحتلام.
          وهو مقصود البخاريِّ من تبويبه بقوله: «وهل يعرض على الصَّبي الإسلام» وجوابه يعرض، وبه قال أبو حنيفة ومالك خلافاً للشَّافعي.
          (وَقَالَ الْحَسَنُ) البصري (وَشُرَيْحٌ) بضم المعجمة، القاضي المشهور / (وَإِبْرَاهِيمُ) النَّخعي (وَقَتَادَةُ) أي: ابن دعامة: (إِذَا أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا) أي: أحد الوالدين (فَالْوَلَدُ مَعَ الْمُسْلِمِ).
          أمَّا أثر الحسن البصري، فأخرجه البيهقيُّ من حديث يحيى بن يحيى: حدَّثنا يزيد بن زريع، عن يونس، عن الحسن في الصَّغير قال: مع المسلم من والديه.
          وأمَّا أثر شُريح فأخرجه البيهقيُّ أيضاً عن يحيى بن يحيى: حدَّثنا هشيم، عن أشعث، عن الشَّعبي، عن شريحٍ: أنَّه اختُصِم إليه في صبيٍّ أحد أبويه نصرانيٌّ قال: الوالد المسلم أحقُّ بالولد.
          وأمَّا أثر إبراهيم النَّخعي فأخرجه عبد الرَّزاق عن معمر عن مغيرة عن إبراهيم قال في نصرانيين بينهما ولدٌ صغيرٌ فأسلم أحدهما قال: أولاهما به المسلم.
          وأمَّا أثر قتادة فأخرجه عبد الرزاق أيضاً عن مَعمر عنه نحو قول الحسن.
          (وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ ☻ مَعَ أُمِّهِ) لبابة بنت الحارث الهلاليَّة (مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ) وهذا تعليقٌ وصله المؤلِّف في هذا الباب [خ¦1357] حيث قال: حدَّثنا علي بن عبد الله: أخبرنا سفيان قال: قال عبيد الله سمعتُ ابن عبَّاس ☻ يقول: كنت أنا وأمي من المستضعفين أنا من الولدان وأمِّي من النِّساء.
          وأراد بقوله: «من المستضعفين» قوله تعالى: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} [النساء:98] وهم: الذين أسلموا بمكَّة وصدَّهم المشركون عن الهجرة فبقوا بين أظهرهم مستضعفين يلقون منهم الأذى الشَّديد.
          (وَلَمْ يَكُنْ) ابن عبَّاس ☻ (مَعَ أَبِيهِ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ) المشركين، وهذا من كلام البخاريِّ ذكره مستنبطاً، ولكن هذا مبنيٌّ على أنَّ إسلام العبَّاس ☺ كان بعد وقعة بدر.
          فإن قلت: روى ابن سعد من حديث ابن عبَّاس ☻ أنَّه أسلم قبل الهجرة، وأقام بأمر النَّبي صلعم له في ذلك لمصلحة المسلمين.
          فالجواب: أنَّ في إسناده الكلبي وهو متروكٌ، ويردُّه أيضاً أنَّ العبَّاس أُسر ببدر وفدى نفسه، كما سيأتي في «المغازي» إن شاء الله تعالى [خ¦4017].
          ويردُّه أيضاً أنَّ الآية التي في قصَّة المستضعفين نزلت بعد بدر بلا خلاف، وكان شهد بدراً مع المشركين وكان خرج إليها مكرهاً وأُسِر يومئذٍ، ثمَّ أسلم بعد ذلك، والصَّحيح أنَّه هاجر عام الفتح في أوَّل السنة وأسلم، وقدم مع النَّبي صلعم فشهد الفتح، ذكره الحافظ العسقلانيُّ.
          (وَقَالَ: الإِسْلاَمُ / يَعْلُو وَلاَ يُعْلَى): كذا قال البخاريُّ ولم يعين من القائل، وربَّما يظنُّ أنَّ القائل هو: ابن عبَّاس ☻ وليس كذلك، فإنَّ الدَّارقطني أخرجه في كتاب النكاح في «سننه» بسندٍ صحيحٍ على شرط الحاكم فقال: حدَّثنا محمَّد بن عبد الله بن إبراهيم: حدَّثنا أحمد بن الحسين الحداد: حدَّثنا شبابة بن خياط: حدَّثنا حشرج بن عبد الله بن حشرج: حدَّثني أبي، عن جدِّي، عن عائذ بن عَمرو المزني: أنَّ النَّبي صلعم قال: ((الإسلامُ يعلو ولا يُعلى)).
          وروي أنَّ عائذ بن عَمرو جاء عام الفتح مع أبي سفيان بن حرب فقال: الصَّحابة هذا أبو سفيان وعائذ بن عَمرو فقال رسول الله صلعم : ((هذا عائذ بن عَمرو وأبو سفيان الإسلام أعزُّ من ذلك الإسلام يَعلو ولا يُعلى)).
          وفي هذه القصَّة أنَّ للمبدأ به في الذِّكر تأثيراً في الفضل لما يفيده من الاهتمام، وعن ابن عبَّاس ☻ قال: إذا أسلمت اليهوديَّة أو النصرانيَّة تحت اليهودي أو النَّصراني يفرِّق بينهما الإسلام يعلو ولا يعلى.
          فإن قيل: ما مناسبة ذكر هذا الحديث في هذا الباب؟
          فالجواب: أنَّ الباب في نفس الأمر يُنبئ عن علوِّ الإسلام ألا ترى أنَّ الصَّبي غير المكلَّف إذا أسلم ومات يُصلَّى عليه، وذلك ببركة الإسلام وعلوِّ قدره، وكذلك يعرض عليه الإسلام حتَّى لا يحرم من هذه الفضيلة.


[1] من قوله: ((فيكون ولده... إلى قوله: لا يصلى عليه)): ليست في (خ).