نجاح القاري لصحيح البخاري

باب قول النبي: يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه

          ░32▒ (بابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلعم يُعَذَّبُ الْمَيِّتُ بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ) المتضمِّن للنوح المنهيِّ عنه (عَلَيْهِ) وليس المراد دمع العين لجوازه، وإنَّما المراد البكاء الذي يتبعه النَّدب والنَّوح كما أشرنا إليه آنفاً فإنَّ ذلك إذا اجتمع سمِّي بكاء.
          قال الخليل: من قصر البكاء ذهب به إلى معنى الحزن، ومن مدَّة ذهب به إلى معنى الصُّراخ، كذا قال القسطلانيُّ.
          وفيه: أنَّه على تقدير ثبوته لا يظهر وجه التَّقييد بالبعضيَّة.
          وقال الحافظ العسقلانيُّ: هذا يعني: التَّقييد بالبعضيَّة تقييد من المصنِّف وحملٌ منه لرواية ابن عبَّاس ☻ المقيدة بالبعضيَّة على رواية ابن عمر ☻ المطلَّقة، كما ساقه في الباب عنهما [خ¦1286] [خ¦1287].
          وتعقَّبه العينيُّ بأنَّه ليس تقييداً من المصنف بل هما حديثان: أحدهما مطلق، والآخر مقيد، فترجم بلفظ الحديث المقيد تنبيهاً على أنَّ الحديث المطلق محمولٌ على المقيَّد؛ لأنَّ الدَّلائل دلَّت على تخصيص العذاب ببعض البكاء لا بكلِّه؛ لأنَّ البكاء بغير نوحٍ مباحٌ كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
          (إِذَا كَانَ النَّوْحُ) والمراد به ما كان من البكاء بصياحٍ وعويل وما يلتحق بذلك من لطم خدٍّ أو شق جيبٍ وغير ذلك من المنهيَّات (مِنْ سُنَّتِهِ) هذا ليس من الحديث المرفوع بل هو من كلام المؤلِّف قاله استنباطاً وتفقُّهاً، وبقيَّة السِّياق يرشد إلى ذلك، وهذا الذي جزم به هو أحد الأقوال في تأويل الحديث الآتي.
          واختلف في ضبط قوله: «من سُنَّته»، فللأكثر في الموضعين: بضم المهملة وتشديد النون وبالتاء المثناة الفوقية؛ أي: من عادته وطريقته، وقال ابن قُرْقول: أي: ممَّا سنَّه واعتاده إذ كان من العرب من يأمر بذلك أهله.
          وضبطه بعضهم: بفتح المهملة بعدها موحدتان؛ أي: من أجله. /
          قال صاحب «المطالع»: حكي عن أبي الفضل محمَّد بن ناصرٍ أنَّ الأوَّل تصحيف، والصَّواب هو الثَّاني قال: وأيُّ سنةٍ للميِّت؟!
          وقال الزَّين ابن المُنيِّر: بل الأول أولى لإشعاره بالعناية بذلك إذ لا يقال: من سنته، إلَّا عند غلبة ذلك عليه واشتهاره به.
          وقال الحافظ العسقلانيُّ: وكان البخاريُّ ألهم هذا الخلاف فأشار إلى ترجيح الأوَّل حيث استشهد بالحديث الذي فيه لأنَّه أوَّل من سنَّ القتل، فإنَّه يثبت ما استبعده ابن ناصرٍ بقوله: وأيُّ سنةٍ للميت؟
          وقال الزَّركشي: هذا منه؛ أي: من المؤلِّف، حملٌ للنَّهي عن ذلك، أي أن يوصي بذلك فيعذَّب بفعل نفسه.
          وتعقَّبه صاحب «مصابيح الجامع» بأنَّ الظَّاهر أنَّ البخاريَّ لا يعني الوصية، وإنَّما يعني: العادة، يدلُّ عليه قوله: «من سنته»، إذ السنة: الطَّريقة والسيرة؛ يعني: إذا كان الميت قد عوَّد أهله أن يبكوا على من يفقدونه في حياته وينوحوا عليه بما لا يجوز، وأقرَّهم على ذلك وإن لم يوصِ، فإن أوصى فهو أشدُّ.
          (لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى): {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا (قُوا أَنْفُسَكُمْ} [التحريم:6]) بترك المعاصي وفعل الطَّاعات ({وَأَهْلِيكُمْ}) بأن تأخذوهم بما تأخذون به أنفسكم وتنصحوهم وتؤدِّبوهم.
          وفي الحديث: ((رحم الله رجلاً قال: يا أهلاه صلاتكم صيامكم زكاتكم مسكينكم يتيمكم جيرانكم، لعلَّ الله يجمعهم معه في الجنَّة))، وقيل: إنَّ أشدَّ النَّاس عذاباً يوم القيامة من جهل أهله.
          ({نَاراً}[التحريم:6]) وقودها النَّاس والحجارة؛ أي: نوعاً من النَّار لا تتَّقد إلَّا بالنَّاس والحجارة كما يتَّقد غيرها بالحطب، وعن ابن عبَّاس ☻ يعني: حجارة الكبريت، وهي أشدُّ الأشياء حرًّا إذا أوقد عليها.
          ووجه الاستدلال بالآية أنَّ هذا الأمر عامٌّ في جهات الوقاية، ومن جملتها: أن لا يكون الأصل مولعاً بأمر منكر كالنَّوح مثلاً، فإذا كان مولعاً به فأهله يقتدون به فهو صار سبباً لفعل أهله ذلك المنكر فما وقي أهله من النَّار فخالف الأمر فيعذب بذلك، وكذا إذا عرف أنَّ لأهله عادةً بفعلٍ منكرٍ من نوح أو غيره وأهمل نهيهم عنه، فيكون لم يقِ نفسه ولا أهله.
          (وَقَالَ النَّبِيُّ صلعم ) ممَّا تقدَّم موصولاً في حديث لابن عمر ☻ في «الجمعة» [خ¦893] (كُلُّكُمْ رَاعٍ) وهو الحافظ المؤتمن الملتزم لصلاح ما قام عليه وما هو تحت نظره، فكلُّ من / كان تحت نظره شيءٌ فهو مطلوبٌ بالعدل فيه، والقيام بمصالحه في دينه ودنياه، فإن وفَّى ما عليه من الرِّعاية حصل له الحظُّ الأوفر والجزاء الأكبر، وإن كان غير ذلك طالبه كلُّ أحدٍ من رعيَّته بحقِّه (وَمَسْؤولٌ) في الآخرة (عَنْ رَعِيَّتِهِ) هل وفَّى حقوقهم أو لا؟
          ووجه الاستدلال به أنَّ الرَّجل إذا كان راعياً لأهله وجاء منه منكرٌ يتبعه أهله على ذلك، أو رآهم يفعلون منكراً ولم ينههم عن ذلك، فإنَّه يُسئل عنه يوم القيامة؛ لأنَّ ذلك كان من سنَّته.
          فإن قيل: كيف استدلَّ البخاريُّ بهذه الآية، والحديث على ما ذهب إليه من حمل حديث الباب عليه من أنَّ تعذيب الميت ببعض بكاء أهله إذا كان من سنَّته فإنَّ الآية والحديث يقتضيان العموم.
          فالجواب: أنَّه لا مانع في سلوك طريق الجمع من تخصيص بعض العمومات وتقييد بعض المطلقات.
          فالآية والحديث وإن كانا دالَّين على تعذيب كلِّ ميتٍ بكلِّ بكاءٍ لكن دلَّت أدلَّة أخرى على تخصيص ذلك ببعض الميت وبعض البكاء ويتقيَّد ذلك بمن كانت تلك سنته أو أهمل النَّهي عن ذلك، وأمَّا من لم يكن له علمٌ بما يفعله أهله من المنكر أو أدَّى ما عليه بأن نهاهم فلم ينتهوا فهذا لا مؤاخذة عليه بفعل غيره.
          ولهذا قال عبد الله بن المبارك: إذا كان ينهاهم في حياته ففعلوا شيئاً من ذلك بعد وفاته، لم يكن عليه شيءٌ، ومن ثمَّة قال المؤلف:
          (فَإِذَا لَمْ يَكُنْ) النَّوح (مِنْ سُنَّتِهِ) أي: كمن لا شعور عنده بأنَّهم يفعلون شيئاً من ذلك أو نهاهم عنه فلم ينتهوا (فَهُوَ) أي: فلا مؤاخذة عليه بل هو (كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ ♦) مستدلةٌ لما أنكرت على عمر ☺ حديثه المرفوع الآتي إن شاء الله تعالى قريباً بقوله تعالى [خ¦1288]:
          ({وَلاَ تَزِرُ}) أي: لا تحمل ({وَازِرَةٌ}) نفس حاملة ذنباً ({وِزْرَ}) ذنب نَفْسٍ ({أُخْرَى}) وحاصله: أنَّ كلَّ نفسٍ يوم القيامة لا تحمل إلَّا وزرها الذي اقترفته، لا تؤخذ نفسٌ بذنب نفسٍ كما تأخذ جبابرة الدُّنيا الوليَّ بالوليِّ والجار بالجار.
          وهذا حمل من المؤلف لإنكار عائشة ♦ على إنكار عموم التَّعذيب لكلِّ ميِّتٍ يبكي عليه.
          (وَهُوَ) أي: ما استدلَّت به عائشة ♦ من قوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء:15].
          (كَقَوْلِهِ) تعالى ({وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ} ذُنُوباً) وليس قوله: «ذنوباً» من التِّلاوة، وإنَّما هو في تفسير مجاهد، فنقله المؤلِّف / والمعنى: وإن تدع نفس أثقلتها أوزارها أحداً من الآحاد.
          ({إِلَى حِمْلِهَا}) أي: إلى أن يحمل ببعض ما عليها من الأوزار والآثام ({لاَ يُحْمَلْ}) بالجزم على جواب «إن» ({مِنْهُ شَيْءٌ}) ولو كان؛ أي: المدعوُّ المفهوم من قوله: {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ} [فاطر:18] وإنَّما ترك ذكره ليعمَّ كل مدعوٍّ واستقام إضمار العامِّ مع أنَّه لا يصحُّ أن يكون العام ذا قربى للمثقلة؛ لأنَّه من العموم الكائن على البدل لا على الشُّمول.
          ذا قربى؛ أي: ذا قرابتها من أبٍ أو أمٍّ أو ولدٍ أو أخٍ، وهذا يدلُّ على أن لا غياث يومئذٍ لمن استغاث من [الكفار]، حتَّى إنَّ نفساً قد أثقلتها الأوزار لو دعتْ إلى أن يخفف بعض وقرهَا لم تجبْ ولم تغث.
          وموقع التَّشبيه بين الآيتين أنَّ الأولى دلَّت على أنَّ النَّفس المذنبة لا يؤاخذ غيرها بذنبها فكذلك الثَّانية دلَّت على أنَّ النَّفس المذنبة لا يحمل عنها غيرها شيئاً من ذنوبها ولو طلبت ذلك ودعت إليه.
          وأمَّا قوله تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت:13] ففي الضَّالين المضلِّين وأنَّهم يحملون أثقال إضلال النَّاس مع أثقال ضلالهم، وذلك كله أوزارهم ما فيها شيءٌ من وزر غيرهم، ألا ترى كيف كذَّبهم الله تعالى في قولهم: {اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} [العنكبوت:12] بقوله: {وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [العنكبوت:12].
          ثمَّ قوله: وهو كقوله: {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ} [فاطر:18] إلى آخره إنَّما وقع في رواية أبي ذرٍّ، كما قاله الحافظ العسقلانيُّ.
          (وَمَا يُرَخَّصُ مِنَ الْبُكَاءِ) في المصيبة (فِي غَيْرِ نَوْحٍ) هذا عطفٌ على أوَّل التَّرجمة.
          وقال الكرمانيُّ: أو هو عطفٌ على «كما قالت»؛ أي: فهو كما يرخص في عدم العذاب، وكلمة ((ما)) يجوز أن تكون موصولة وأن تكون مصدرية، وترخيص البكاء في غير نوح جاء في حديثٍ أخرجه الطَّبراني في «الكبير» بإسناده إلى عامر بن سعد قال: دخلت عرشاً وفيه قرظة بن كعب، وأبو مسعودٍ الأنصاري فذكر حديثاً لها وفيه قالا: إنَّه قد رخَّص لنا في البكاء عند المصيبة من غير نوحٍ. وصحَّحه الحاكم ولكن ليس إسناده على شرط البخاريِّ فلذلك لم يذكره، واكتفى بالإشارة إليه واستغنى عنه بأحاديث الباب الدَّالَّة على مقتضاه.
          وقَرَظة _بفتح القاف والراء والظاء المشالة_ أنصاريٌّ خزرجيٌّ كان أحد من وجَّهه عمر ☺ إلى الكوفة ليفقِّه النَّاس وكان على يده فتح الرَّي. /
          واستخلفه علي ☺ على الكوفة، وقال ابنُ سعد وغيره: مات في خلافة عليٍّ ☺.
          (وَقَالَ النَّبِيُّ صلعم : لاَ تُقْتَلُ نَفْسٌ) على صيغة المجهول (ظُلْماً) نصب على التمييز؛ أي: من حيث الظُّلم (إِلاَّ كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأَوَّلِ) المراد به قابيل الذي قتل أخاه شقيقه هابيل ظلماً وحسداً.
          روي أنَّه أوحى الله تعالى إلى آدم ╕ أن يزوِّج كلَّ واحدٍ منهما توأمة الآخر، وكانت توأمة قابيل أجمل، واسمها: إقليما، فحَسَدَ عليها أخاه وسخط، فقال لهما آدم: قرِّبا قرباناً فمن أيكما قُبِل تزوجها؟ فقُبل قربان هابيل بأن نزلت نارٌ فأكلته فازداد قابيل حسداً وسخطاً وتوعَّده بالقتل حتَّى قتله، فهو أوَّل قتيلٍ قُتِل على وجه الأرض من بني آدم، ولمَّا قتله تركه بالعراء لا يدري ما يصنع، فخاف عليه السِّباع فحمله في جرارٍ على ظهره سنة حتَّى أروح وأنتن وعكفت عليه السِّباع، فبعث الله غرابين فاقتتلا فقتل أحدهما الآخر، فحفر له بمنقاره ورجليه، ثمَّ ألقاه في الحفرة، فقال: يا ويلتى أعجزتُ أن أفعل مثل ذلك.
          وروي أنَّه لمَّا قتله اسودَّ جسده وكان أبيض فسأله آدم ◙ عن أخيه فقال: ما كنت عليه وكيلاً، فقال: بل قتلته، ولذلك اسودَّ جسدك.
          وروي أنَّ آدم ◙ مكث بعد قتله مائة سنةٍ لا يضحك، وقيل: قتل وهو ابن عشرين سنةً وكان قتله عند عقبة حراء، وقيل: بالبصرة في موضع المسجد الأعظم.
          (كِفْلٌ) بكسر الكاف؛ أي: نصيبٌ وحظٌّ، وقال الخليل: الضعف (مِنْ دَمِهَا، وَذَلِكَ) أي: كون الكفل على ابن آدم الأوَّل (بِأَنَّهُ) أي: بسبب أنَّ ابن آدم الأوَّل (أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ) أي: قتل النَّفس ظلماً وحسداً وهذا الحديث طرفٌ من حديث ابن مسعود ☺ وصله المؤلِّف في «الديات» [خ¦6867] وغيرها، وهو من قواعد الإسلام موافقٌ لحديث: ((من سنَّ في الإسلام سنَّةً حسنةً فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيءٌ، ومن سنَّ في الإسلام سنَّةً سيئةً كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقصَ من أوزارهم شيء)) أخرجه مسلم عن جرير ☺.
          ثمَّ وجه الاستدلال بهذا الحديث أنَّ القاتل المذكور يشارك من صنع صنيعه لكونه فتح له الباب ونهج / له الطَّريق، فكذلك من كانت طريقته النَّوح على الميت يكون قد فتح لأهله هذا الطَّريق فيؤاخذ على فعله الأوَّل.
          وحاصل ما أراد البخاريُّ في هذه التَّرجمة أنَّ الشَّخص لا يعذَّب بفعل غيره إلَّا إذا كان له فيه تسُّبب، فمن قال: بجواز تعذيب شخصٍ بفعل غيره فمراده هذا، ومن نفاه فمراده ما إذا لم يكن له فيه تسبب أصلاً.
          وفيه: الردُّ على القائل بأنَّ الإنسان لا يعذَّب إلَّا بذنبٍ يباشره بقوله أو فعله، ولا يعذب بما كان له فيه تسبٌّب، والله أعلم.