نجاح القاري لصحيح البخاري

باب السرعة بالجنازة

          ░51▒ (بابُ: السُّرْعَةِ بِالْجِنَازَةِ) أي: بعد الحمل (وَقَالَ أَنَسٌ) أي: ابن مالك ☺ (أَنْتُمْ مُشَيِّعُونَ فَامْشُوا) كذا في رواية الكشميهنيِّ، وفي رواية: <فامشِ> بالإفراد، وفي أخرى: <وامشِ> بالإفراد أيضاً وبالواو والأول أنسب.
          (بَيْنَ يَدَيْهَا، وَخَلْفَهَا، وَعَنْ يَمِينِهَا، وَعَنْ شِمَالِهَا) وأثر أنس ☺ هذا وصله عبد الوهاب بن عطاء الخفَّاف في كتاب «الجنائز» له عن حميد، عن أنس بن مالك ☺: أنَّه سئل عن المشي في الجنازة فقال: أمامها وخلفها وعن يمينها وعن شمالها إنَّما أنتم مشيِّعون.
          وفي «رباعيَّات أبي بكر الشَّافعي» من طريق يزيد بن هارون عن حميد كذلك، وبنحوه أخرجه ابن أبي شيبة عن أبي بكر بن عياش عن حميد.
          وأخرجه عبد الرَّزَّاق عن أبي جعفر الرَّازي، عن حميد: سمعت العيزارَ _يعني: ابن حريث_ سأل أنس بن مالك ☺ _يعني: عن المشي مع الجنازة_ فقال: إنَّما أنت مشيِّع، فذكر نحوه. فاشتمل هذا على فائدتين: تسمية السَّائل، والتَّصريح بسماع حميد.
          وقال الزَّين ابن المُنيِّر: مطابقة هذا الأثر للتَّرجمة أنَّ الأثر يتضمَّن التَّوسعة على المشيِّعين، وعدم التزامهم جهة معيَّنة، وذلك لما علم من تفاوت أحوالهم في المشي، وقضية الإسراع بالجنازة أن لا يلزموا بمكان واحد يمشون فيه؛ لئلا يشقُّ على بعضهم ممَّن يضعف في المشي / عمَّن يقوى عليه.
          ومحصِّله: أنَّ السُّرعة بالجنازة لا يكون غالباً إلَّا في جهات مختلفة، ولا يكون في جهة معيَّنة لتفاوت النَّاس في المشي، وحصول المشقَّة من بعضهم على بعض في تعيين جهة، فإذا كان كذلك تكون السُّرعة من جوانبها الأربع فتناسبا.
          وقال ابن رُشَيد: ويمكن أن يقال: لفظ المشي والتَّشييع في أثر أنس ☺ أعم من الإسراع والبطء، فلعلَّه أراد أن يفسِّر أثر أنس ☺ بالحديث، قال: ويمكن أن يكون أراد أن يبين بقول أنس ☺ أنَّ المراد بالإسراع ما لا يخرج عن الوقار لمتبعيها بالمقدار الذي يصدق عليهم به المصاحبة.
          (وَقَالَ غَيْرُهُ) أي: غير أنس ☺ امشِ (قَرِيباً مِنْهَا) أي: من الجنازة؛ أي: من أيِّ جهة كان؛ لاحتمال أن يحتاج حاملوها إلى المعاونة، فإن بعد عنها لم يكن مشيِّعاً، فإن كان بُعده لكثرة الجمع حصل له فعل المتابعة.
          قال الحافظ العسقلاني: والغير المذكور أظنُّه عبد الرَّحمن بن قُرْط _بضم القاف وسكون الراء بعدها_ قال سعيد بن منصور: حدَّثنا مسكين بن ميمون: حدَّثني عروة بن رويم قال: شهد عبد الرَّحمن بن قرط جنازة، فرأى ناساً تقدَّموا وآخرين استأخروا، فأمر بالجنازة فوضعت ثمَّ رماهم بالحجارة حتَّى اجتمعوا إليه، ثمَّ أمر بها فحملت، ثمَّ قال: بين يديها وخلفها وعن يسارها وعن يمينها.
          وعبد الرَّحمن المذكور صحابي ذكر البخاري ويحيى بن معين أنَّه كان من أهل الصفَّة، وكان والياً على حمص في زمن عمر ☺.
          هذا وتعقَّبه العيني: بأنَّ ما ذكره تخمين وحسبان، ولئن سلَّمنا أنَّه هو ذلك الغير فلا نسلِّم أنَّ هذا مناسب لما ذكره الغير، بل هو بعينه مثل ما قاله أنس ☺.
          ودلَّ إيراد المؤلِّف لأثر أنس ☺ على اختيار هذا المذهب، وهو التَّخيير في المشي مع الجنازة، وهو قول الثَّوري وغيره، وبه قال ابن حزم، لكن قيَّده بالماشي؛ لحديث المغيرة بن شعبة مرفوعاً ☺ الذي رواه أصحاب السُّنن، وصححه ابن حبَّان والحاكم: ((الرَّاكب خلف الجنازة والماشي حيث شاء منها)).
          وعن النَّخعي: إن كان في الجنازة نساء مشى أمامها وإلَّا فخلفها، وكثير من الأئمة على أنَّ المشي وكونه أمامها أفضل للاتباع.
          وفيه حديث لابن عمر ☻ أخرجه أصحاب السُّنن، ورجاله رجال الصَّحيح إلَّا أنَّه اختلف في وصله وإرساله، ولأنَّه شفيع وحقُّ الشَّفيع أن يتقدَّم.
          ويعارضه ما رواه سعيد بن منصور وغيره من طريق / عبد الرَّحمن بن أبزى، عن عليٍّ ☺ موقوفاً له حكم الرَّفع قال: ((المشي خلفها أفضل من المشي أمامها، كفضل صلاة الجماعة على صلاة الفذِّ)) إسناده حسن.
          لكن حكى الأثرم عن أحمد أنَّه تكلَّم في إسناده، وهذا قول الأوزاعي وأبي حنيفة ومن تبعهما، وأمَّا القول بأنَّه شفيع وحقُّ الشَّفيع أن يتقدَّم فهو استدلال بمقابلة النَّص، والله أعلم.
          ثمَّ إنَّ كونه قريباً منها بحيث يراها إن التفت إليها أفضل، ويكره ركوبه في ذهابه معها؛ لحديث التِّرمذي أنَّه صلعم رأى ناساً ركباناً مع جنازة فقال: ((ألا تستحيون إنَّ ملائكة الله على أقدامهم، وأنتم على ظهور الدَّواب)).
          نعم إن كان له عذر كمرض، أو كان ركوبه في رجوعه فلا كراهية فيه. ذكره العسقلاني.