نجاح القاري لصحيح البخاري

باب الجريد على القبر

          ░81▒ (باب) وضع (الْجَرِيدِ) أي: الذي يُجرَّد منه الخوص، وفي رواية: <الجريدة> بالتاء، قال في «القاموس»: ولا يسمَّى جريداً ما دام عليه الخوص، وإنَّما يسمَّى سعفاً.
          (عَلَى الْقَبْرِ، وَأَوْصَى بُرَيْدَةُ) بضم الموحدة وفتح الراء، ابن الحُصَيب _بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين_ ابن عبد الله (الأَسْلَمِيُّ) مات بمرو سنة اثنتين وستين، وقد تقدَّم في باب «من ترك العصر» [خ¦553] (أَنْ يُجْعَلَ فِي قَبْرِهِ) ويروى: <على قبره> (جَرِيدَانِ) وفي رواية: <جريدتان> فعلى رواية: «في قبره»، يحتمل أن يكون بُريدة أمر أن يجعل الجريدان في داخل القبر لما في النَّخلة من البركة؛ لقوله تعالى: {كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} [إبراهيم:24].
          وعلى رواية: <على قبره>. يحتمل أن يكون أمر أن يغرزا في ظاهر القبر اقتداءً بالنَّبي صلعم في وضعه على القبر، وهذا الأخير هو الأظهر، وإيراد المؤلِّف حديث القبرين في آخر الباب يدلُّ عليه، وكأنَّ بريدة ☺ حمل الحديث على عمومه، ولم يره خاصًّا بذينك الرَّجلين.
          قال ابن رُشَيد: لكن الظَّاهر من تصرُّف المؤلِّف أنَّ ذلك خاص المنفعة بما فعله رسول الله صلعم ببركته الحاصلة الخاصَّة به، وأنَّ الذي ينفع أصحاب القبور إنَّما هي الأعمال الصَّالحة، فلذلك عقبه بقوله:
          (وَرَأَى ابْنُ عُمَرَ ☻ فُسْطَاطاً) بتثليث الفاء وسكون السين المهملة وبطائين مهملتين، هو: الخباء والبيت من الشِّعَر، وقد يكون من غيره، ويجوز فيه إبدال الطَّائين بمثناتين فوقيتين، وإبدال أولاهما فقط وإبدالهما وإدغامهما.
          (عَلَى قَبْرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) هو: ابن أبي بكرٍ الصِّدِّيق ☺، بيَّنه ابن سعدٍ في روايته موصولاً من طريق أيوب بن عبد الله بن يسار قال: مرَّ عبد الله بن عمر ☻ على قبر عبد الرَّحمن بن أبي بكر أخي عائشة ♥ وعليه فسطاط مضروبٌ.
          (فَقَالَ: انْزَعْهُ) أي: اقلعه (يَا غُلاَمُ، فَإِنَّمَا يُظِلُّهُ عَمَلُهُ) لا غيره، وفي رواية ابن سعد: ((قال الغلام: تضربني مولاتي، قال: كلا، فنزعه)) وكان الغلام الذي خاطبه عبد الله غلام عائشة أخت عبد الرَّحمن ☻ .
          فدلَّ هذا على أنَّ نصب الخيام على القبر مكروهٌ ولا ينفع الميِّت ذلك، ولا ينفعه إلَّا عمله الصَّالح الذي قدمه نعم يَصُلِ إليه الثَّواب الذي أُهدي إليه من قبل أقربائه وأصدقائه على المذهب المختار. /
          (وَقَالَ خَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ) بن ثابتٍ الأنصاريِّ أحد التَّابعين الثِّقات وأحد الفقهاء السَّبعة من أهل المدينة (رَأَيْتُنِي) بضم المثناة الفوقية وكون الفاعل والمفعول ضميرين لشيءٍ واحد من خصائص أفعال القلوب، والتَّقدير: رأيت نفسي، والواو في (وَنَحْنُ شُبَّانٌ) بضم المعجمة وتشديد الموحدة، جمع شاب حاليةٌ.
          (فِي زَمَنِ عُثْمَانَ) بن عفَّان ☺؛ أي: في مدَّة خلافته (وَإِنَّ أَشَدَّنَا وَثْبَةً) مصدر وثب يثب وثباً ووثوباً ووثبة (الَّذِي يَثِبُ قَبْرَ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ) بظاء معجمة ساكنة وعين مهملة ☺ (حَتَّى يُجَاوِزَهُ) من ارتفاعه، وهذا التَّعليق وصله البخاريُّ في «التاريخ الصغير»: من طريق ابن إسحاق: حدَّثني يحيى بن عبد الرَّحمن بن أبي عمرة الأنصاريِّ: سمعت خارجة. فذكره.
          قال الحافظ العسقلانيُّ: وفيه جواز تعلية القبر ورفعه عن وجه الأرض، ومناسبة هذا الأثر للتَّرجمة من حيث إنَّ وضع الجريد على القبر يرشد إلى جواز وضع ما يرتفع به ظهر القبر عن الأرض.
          وقال العينيُّ: وقد يتكلَّف في كون هذا الأثر من هذا الباب بأنَّه إشارةٌ إلى أنَّ ضرب الفسطاط إن كان لغرضٍ صحيحٍ كالتَّستر من الشَّمس مثلاً للأحياء لا لإظلال الميت فقط جاز فكأنَّه يقول: إذا أُعلِيَ القبر لغرضٍ صحيحٍ لا لقصد المباهاة جاز، كما يجوز القعود عليه لغرضٍ صحيحٍ كالتِّلاوة، والله أعلم.
          (وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ حَكِيمٍ) بن عباد بن حنيفٍ الأنصاريُّ الأوسيُّ، أبو سهل المدنيُّ، الكوفي، أخو حكيم بن حكيم، وعن أحمد: ثقةٌ، وهو من إفراد مسلم (أَخَذَ بِيَدِي خَارِجَةُ) بن زيد (فَأَجْلَسَنِي عَلَى قَبْرٍ، وَأَخْبَرَنِي عَنْ عَمِّهِ يَزِيدَ بْنِ ثَابِتٍ) بالمثلثة في أوله، ويزيد من الزِّيادة أنَّه (قَالَ: إِنَّمَا كُرِهَ ذَلِكَ) أي: الجلوس على القبر (لِمَنْ أَحْدَثَ عَلَيْهِ) ما لا يليق من الفحش قولاً أو فعلاً لتأذي الميت بذلك، أو المراد تغوَّط أو بال، وهذا التَّعليق وصله مسدد في «مسنده الكبير» وبيَّن فيه سبب إخبار خارجة بذلك، ولفظه: حدَّثنا عيسى بن يونس: حدَّثنا عثمان بن حكيم: حدَّثنا عبد الله بن سرجس وأبو سلمة بن عبد الرَّحمن أنَّهما سمعا أبا هريرة ☺ يقول: لأَنْ أجلس على جمرةٍ فتحرق ما دون لحمي حتَّى تفضي إليَّ أحبُّ إليَّ من أن أجلس على قبرٍ، قال عثمان: فرأيتُ خارجة بن زيدٍ في المقابر فذكرت له ذلك فأخذ بيدي... الحديث.
          وهذا إسنادٌ صحيحٌ، وقد أخرج مسلم حديث أبي هريرة ☺ مرفوعاً فقال: حدَّثني زهير بن حربٍ قال: حدَّثنا جرير عن سُهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة ☺ / قال: قال رسول الله صلعم : ((لأَن يجلس أحدُكم على جمرةٍ فتحرق ثيابه فتخلصَ إلى جلده خيرٌ له من أن يجلسَ على قبرٍ)).
          وقال الحافظ العسقلانيُّ: وروى الطَّحاوي من طريق محمَّد بن كعب قال: إنَّما قال أبو هريرة من جلس على قبرٍ ليبول عليه أو يتغوَّط فكأنَّما جلس على جمرةٍ. لكن إسناده ضعيفٌ.
          هذا قال العينيُّ: سبحان الله ما لهذا القائل من التَّعصبات الباردة، فإنَّ الطَّحاوي أخرج هذا عن أبي هريرة ☺ من طريقين:
          أحدهما: هذا الذي ذكره من طريق محمَّد بن كعب.
          والآخر: أخرجه عن ابن أبي داود عن محمَّد بن أبي بكرٍ المقدمي عن سليمان بن داود عن محمد بن أبي حميدٍ نحوه. وأخرجه عبد الله بن وهب والطَّيالسي في «مسنديهما».
          ولم يذكر الطَّحاوي هذا الحديث إلَّا تقوية لحديث زيد بن ثابتٍ ☺.
          أخرجه عن سليمان بن شعيب عن الحصيب عن عمرو بن علي الفلاس عن عثمان بن حكيم عن أبي أمامة أنَّ زيد بن ثابتٍ ☺ قال: هلمَّ يا ابن أخي أخبرك إنَّما نهى النَّبي صلعم عن الجلوس على القبور لحدث غائطٍ أو بول.
          ورجاله ثقاتٌ فهذا القائل هلَّا ما أورد هذا الحديث الصَّحيح وأوردَ الحديث الذي فيه محمَّد بن أبي حميد المتكلِّم فيه مع أنَّه ذكر الطَّحاوي هذا استشهاداً وتقوية.
          وتحقيق الكلام في هذا الباب ما قاله الطَّحاوي حيث قال: باب الجلوس على القبور: حدَّثنا يونس قال: حدَّثنا يحيى بن حسان قال: حدَّثنا صدقة بن خالد، عن عبد الرَّحمن بن يزيد بن جابر، عن بسر بن عبيد الله، عن أبي إدريس الخولاني، عن واثلة بن الأسقع، عن أبي مرثدٍ الغنوي قال: سمعتُ رسول الله صلعم يقول: ((لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا إليها)) وأخرج هذا الحديث من أربع طرقٍ. وأخرجه مسلم وأبو داود والتِّرمذي.
          وأخرج أيضاً من حديث عَمرو بن حزم قال: رآني رسول الله صلعم على قبرٍ فقال: ((انزل عن القبر فلا تؤذ صاحب القبر ولا يؤذيك)).
          وأخرج أيضاً من حديث جابر ☺ قال: نهى رسول الله صلعم عن تجصيص القبور والكتاب عليها والجلوس عليها والبناء عليها. وأخرجه الجماعة غير البخاريِّ.
          ثمَّ قال: فذهب قومٌ إلى هذه الآثار وقلَّدوها وكرهوا من أجلها الجلوس على القبور، وأراد بالقوم الحسن البصري ومحمَّد بن سيرين وسعيد بن جبير ومكحول وأحمد وإسحاق وأبا سليمان.
          ويروى ذلك أيضاً عن عبد الله وأبي بكرة وعقبة بن عامر وأبي هريرة وجابر ♥ وإليه ذهب الظَّاهرية.
          وقال ابن حزم في «المحلى»: ولا يجوز لأحدٍ / أن يجلسَ على قبرٍ، وهو قول أبي هريرة وجماعة من السَّلف.
          ثمَّ قال الطَّحاوي: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: لم ينهَ عن ذلك لكراهة الجلوس على القبر، ولكنَّه أريد به الجلوس للغائط أو البول، وذلك جائزٌ في اللُّغة يقال: جلس فلانٌ للغائط وجلس فلانٌ للبول.
          وأراد بالآخرين أبا حنيفة ومالكاً وعبد الله بن وهب وأبا يوسف ومحمداً، وقالوا: ما روي عن النَّهي محمولٌ على ما ذكرنا، ويحكى ذلك عن عليِّ بن أبي طالبٍ وعبد الله بن عمر ♥ .
          ثمَّ قال: واحتجُّوا في ذلك بما حدَّثنا سليمان بن شعيب، وقد مرَّ عن قريبٍ وهو حديث زيد بن ثابتٍ ☺ ثمَّ قال: فبيَّن زيد أنَّ الجلوس المنهيَّ عنه في الآثار الأُول ما هو.
          ثمَّ روي عن أبي هريرة ☺ من طريق يونس وطريق ابن أبي داود. وقد ذُكِرا عن قريبٍ أيضاً ثمَّ قال: فثبت بذلك أنَّ الجلوس المنهي عنه في الآثار الأُول هو هذا الجلوس، يعني للغائط والبول، فأمَّا الجلوس لغير ذلك فلم يدخل في ذلك النَّهي، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمَّد ▓.
          قال العينيُّ: فعلى هذا ما ذكره أصحابنا في كتبهم من أنَّ وطء القبور حرامٌ، وكذا النَّوم عليه ليس على ما ينبغي، فإنَّ الطَّحاوي هو أعلم النَّاس بمذاهب العلماء ولاسيَّما بمذهب أبي حنيفة.
          (وَقَالَ نَافِعٌ) مولى ابن عمر (كَانَ ابْنُ عُمَرَ ☻ يَجْلِسُ عَلَى الْقُبُورِ).
          وهذا التَّعليق وصله الطَّحاوي: حدَّثنا علي، قال: حدَّثنا عبد الله بن صالح، قال: حدَّثني بكر، عن عَمرو عن بكير أنَّ نافعاً حدَّثه أنَّ عبد الله بن عمر ☻ : كان يجلس على القبور.
          فإن قيل: روى ابنُ أبي شيبة بإسنادٍ صحيحٍ عنه قال: لأن أطأ على رضفٍ أحبُّ إليَّ من أن أطأ على قبرٍ.
          فالجواب: أنَّه محمولٌ على معنى: لأن أطأَ لأجل الحدث، والله أعلم.
          ومناسبة هذا الأثر وما قبله للتَّرجمة من حيث إنَّ قول ابن عمر ☻ إنَّما يظلُّه عمله عام يدخل فيه أنَّه كما لا ينتفع بإظلاله ولو كان تعظيماً له لا يتضرَّر بالجلوس عليه وإن كان تحقيراً له.
          وقال ابن رُشَيد: كأنَّ بعض الرُّواة كتب هذه الآثار في غير موضعها، فإنَّ الظَّاهر أنَّها من الباب التَّالي لهذا الباب وهو باب «موعظة المحدِّث عند القبر وقعود أصحابه حوله»، والله أعلم.