الأبواب والتراجم لصحيح البخاري

باب اللعان

          ░25▒ (باب: اللِّعَانِ)
          قال العلَّامة العينيُّ: هو مصدر لاعَنَ وهو مشتقٌّ مِنَ اللَّعن، وهو الطَّرد والإبعاد لبعدهما مِنَ الرَّحمة أو لبعد كلٍّ منهما عن الآخر، ولا يجتمعان أبدًا، واللِّعان والالتعان والملاعنة بمعنًى، وسُمِّي به لما فيه مِنْ لعن نفسه في الخامسة، وهي مِنْ تسمية الكلِّ باسم البعض كالصَّلاة تسمَّى ركوعًا وسجودًا، ومعناه الشَّرعيُّ: شهاداتٌ مؤكَّداتٌ بالأيمان مقرونةٌ باللَّعن.
          وقال الشَّافعيُّ: هي أيمانٌ مؤكَّداتٌ بلفظ الشَّهادة، فيُشترط أهليَّة اليمين عنده، فيجري بين المسلم وامرأته الكافرة، وبين الكافر والكافرة، وبين العبد وامرأته، وبه قال مالكٌ وأحمد، وعندنا يُشترط أهليَّة الشَّهادة فلا يجري إلَّا بين المسلمين الحرَّين العاقلين البالغين غير محدودَين في قذفٍ، واختير لفظ اللَّعن على لفظ الغضب، وإن كانا مذكورين في الآية لتقدُّمه فيهما، ولأنَّ جانب الرَّجل فيه أقوى مِنْ جانب المرأة لأنَّه قادرٌ على الابتداء باللِّعان... إلى آخر ما ذكر.
          وقال أيضًا: وجوِّز اللِّعان لحفظ الأنساب ودفع المعرَّة عن الأزواج، وأجمع العلماء على صحَّته. انتهى.
          قوله: (فإذا قذف الأخرس امرأته...) إلى آخره، قال العَينيُّ: أراد البخاريُّ بهذا الكلام كلِّه بيانَ الاختلاف بين أهل الحجاز وبين الكوفيِّين في حكم الأخرس في اللِّعان والحدِّ فلذلك قال: ((فإذا قذف الأخرس)) إلى آخره، بالفاء عقب ذكر قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} الآية [النور:6] وأخذ بعموم قوله: {يَرْمُونَ} لأنَّ الرَّمي أعمُّ مِنْ أن يكون باللَّفظ أو بالإشارة المُفْهِمة، وبنى على هذا كلامه فقال: إذا قذف الأخرس امرأته... إلى آخره. انتهى.
          ثُمَّ قال العَينيُّ: قوله: (وقال بعض النَّاس) أراد به الكوفيِّين، لأنَّه لمَّا فرغ مِنَ الاحتجاج لكلام أهل الحجاز شرع لبيان قول الكوفيِّين في قذف الأخرس، إلى آخر ما بسط في شرح كلام البخاريِّ والجواب عن الحنفيَّة، فارجع إليه لو شئت.
          واختلفت الأئمَّة / في لِعان الأخرس والخرساء، قال الموفق: فأمَّا الأخرس والخرساء فإن كانا غير معلومَي الإشارة والكتابة فهما كالمجنونين لأنَّه لا يُتصوَّر منهما لعانٌ، وإن كانا معلومَي الإشارة والكتابة فقد قال أحمد: إذا كانت المرأة خرساء لم تلاعن لأنَّه لا تُعلم مطالبتُها، وحكاه ابن المنذر عن أحمد وأصحاب الرَّأي، وكذلك ينبغي أن يكون في الأخرس، وقال القاضي وأبو الخطَّاب: هو كالنَّاطق في قذفه ولِعانه، وهو مذهب الشَّافعيِّ. انتهى مختصرًا.
          وأمَّا مذهب المالكيَّة فموافقٌ للشَّافعيِّ، قال الدَّرْدير: شهد بالله أربعًا لرأيتها تزني وأشار الأخرس ذكرًا كان أو أنثى أو كتب ما يدلُّ عليه. انتهى.
          قوله: (ثُمَّ زعم إن طلقوا بكتاب أو إشارة...) إلى آخره، في «هامش الهنديَّة» عن «الخير الجاري»: المؤلِّف أورد النَّقض في كلام الحنفيَّة حيث جعلوا أحد الكلامين وهو الطَّلاق صحيحًا بالإشارة دون الآخر وهو القذف، وهذا النَّقض غير واردٍ عليهم، فإنَّ القذف مِنَ الحدود، وهي تندرئ بالشُّبهات والطَّلاق مِنَ الأمور الَّتي جِدُّهنَّ جدٌّ وهزلُهنَّ جِدٌّ، فجِدُّه وهزلُه سواءٌ، فأين أحدهما مِنَ الآخر؟ انتهى.
          وكتب الشَّيخ قُدِّسَ سِرُّهُ في «اللَّامع» قوله: (فإذا قذف الأخرس امرأته...) إلى آخره، بحثُه عن الإشارة بعد باب اللِّعان إشارةٌ إلى أنَّ الإشارة معتبرةٌ في جملة هذه الأبواب لِعانًا كان أو طلاقًا أو غير ذلك، ولذلك عمَّم في ترجمة الباب الأوَّل لفظ الأمور ليشمل كلَّ بابٍ، وأنت تعلم أنَّ اندراء الحدود عندنا مبنيٌّ على قوله صلعم: ((ادرؤوا الحدود بالشُّبهات)) فلا يضرُّنا ما ساقه مِنَ الرِّوايات والآثار وغيرها، لأنَّا لم ننكر ثبوت الحكم بالإشارة حتَّى يُفتقر إلى ثبوته، وإنَّما قلنا: إنَّ الإشارة غير صريحةٍ في المراد ولا شكَّ فيه فنشأت شبهةٌ درأت الحدَّ في القاذف، وكذلك في غيره مِنَ الحدود، وإنَّما سقط اللِّعان لقيامه مَقام الحدِّ. انتهى.