الأبواب والتراجم لصحيح البخاري

باب من قال لامرأته: أنت علي حرام

          ░7▒ (باب: مَنْ قَالَ لاِمْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ)
          كتب الشَّيخ قُدِّسَ سِرُّهُ في «اللَّامع»: ومذهب الحنفيَّة أنَّه إن نوى بذلك يمينًا كان يمينًا، وإن ثلاثًا فثلاثٌ، وإن واحدةً بائنةً فذلك. انتهى.
          وفي «الفيض» قوله: (وقال الحسن: نيَّته) أي: ما نوى يمينًا أو طلاقًا أو ظهارًا، وهو أصل مذهبنا، وإن أفتى المتأخِّرون بكونه طلاقًا. انتهى.
          والمسألة خلافيَّةٌ شهيرةٌ بسط الكلام عليها في «هامش اللَّامع» وأبسط منه في «الأوجز»، ففي «هامش اللَّامع»: قال الحافظ: في المسألة اختلافٌ كثيرٌ عن السَّلف بلغها القُرْطُبيُّ إلى ثمانية عشر قولًا، وزاد غيره عليها، قال القُرْطُبيُّ: قال بعض علمائنا: سبب الاختلاف أنَّه لم يقع في القرآن صريحًا ولا في السُّنَّة [نصٌّ] ظاهرٌ صحيحٌ يُعتمد عليه في حكم هذه المسألة فتجاذَبها العلماء، فمَنْ تمسَّك بالبراءة الأصليَّة قال: لا يلزمه شيءٌ، ومَنْ قال: إنَّه يمينٌ أخذ بظاهر قوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم:2] بعد قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم:1]... إلى آخر ما ذكر.
          وذكر ابن القيِّم في «الهدي» ثلاثة عشر مذهبًا أصولًا تفرَّعت على عشرين مذهبًا، وذكر في «إعلام الموقعين» خمسة عشر مذهبًا، واختلفت الرِّوايات عن الأئمَّة الأربعة في ذلك، والمرجَّح عندهم ما في فروعهم، قال الموفَّق: إذا قال لزوجته: أنت عليَّ حرامٌ وأطلق فهو ظِهارٌ، وأمَّا إن نوى غير الظِّهار فالمنصوص عن أحمد أنَّه ظِهارٌ نوى الطَّلاق أو لم ينوِ(1)، وعدَّه في «شرح الإقناع» للشَّافعيَّة مِنْ ألفاظ الكناية، قال البُجيرميُّ: كنايةٌ إن قصد بها الطَّلاق وقع وإلَّا فلا، ومع عدم النِّيَّة يلزمه كفَّارة يمينٍ، وعدَّه صاحب «الهداية» مِنْ فروع الحنفيَّة في الكنايات الَّتي إذا نوى بها الطَّلاق كانت واحدةً بائنةً، وإن نوى ثلاثًا كانت ثلاثًا، ثُمَّ قال في «الإيلاء»: وإن قال: أردت الظِّهار فهو ظهارٌ عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال محمَّدٌ: ليس بظهارٍ إن قال: أردت التَّحريم أو لم أرد شيئًا فهو يمينٌ يصير به مُولِيًا(2)، وقال الباجيُّ: الَّذي ذهب إليه مالكٌ أنَّها في المدخول بها ثلاثٌ نوى واحدةً أو ثلاثًا، وإن زعم أنَّه لم ينوِ طلاقًا لم يصدَّق، وأمَّا غير المدخول بها فإنَّ مالكًا ينويه.
          وقوله: أردت واحدةً ويحمله على الثَّلاث(3) إذا لم ينو عددًا، وفي «المحلَّى»: قال عياضٌ: المشهور عن مالكٍ أنَّه يقع به ثلاثٌ سواءٌ كانت مدخولة بها أو لا، لكن لو نوى أقلَّ مِنْ ثلاثٍ قُبِل في غير المدخول بها خاصَّةً. انتهى.
          وعدَّه الدَّرْدير في ألفاظٍ تجب به الثَّلاث إلَّا أن ينوي أقلَّ في غير المدخول بها، والظَّاهر عند هذا العبد الضَّعيف أنَّ الإمام البخاريَّ مال في هذه المسألة إلى مذهب الإمام مالكٍ كما يدلُّ عليه الرِّوايات الواردة في ذلك، لا يقال: إنَّ المعروف مِنْ دأبه أنَّ ميله يظهر مِنَ الآثار الَّتي أورده في الباب، وهاهنا ذكر أوَّلًا أثر الحسن وهو يشعر أنَّه مال إلى مذهب الشَّافعيِّ، فإنَّ مسلك الشَّافعيِّ موافقٌ لأثر / الحسن، وذلك لأنَّ الإمام البخاريَّ ذكر هاهنا الأقوال المختلفة للعلماء ومِنْ جملتها قولُ الحسن أيضًا، وقال الحافظ: الَّذي يظهر مِنْ مذهب البخاريِّ أنَّ الحرام ينصرف إلى نيَّة القائل، ولذا صدَّر الباب بقول الحسن، وهذه عادته في موضع الاختلاف مهما صدَّر به مِنَ النَّقل عن صحابيٍّ أو تابعيٍّ فهو اختياره... إلى آخر ما قال.
          قلت: وكان رأيي(4) أوَّلًا في ذلك ما ذهب إليه الحافظ: مِنْ أنَّ ميل البخاريِّ في ذلك إلى قول الحسن كما هو ظاهرٌ(5) مِنْ صنيعه، لكنَّ النَّظر الدَّقيق يُشْعِر إلى أنَّه مال في ذلك إلى قول مالكٍ للرِّوايات المرفوعة الواردة في الباب... إلى آخر ما في «هامش اللَّامع».
          قوله: (قال أهل العلم: إذا طلَّق ثلاثًا...) إلى آخره، كتب الشَّيخ في «اللَّامع»: استدلالٌ على وقوع الثَّلاث بلفظ الحرام إذا نوى به الطَّلاق ويُستنبط منه الحكم في غير الثَّلاث. انتهى.
          وبسط الكلام في شرح قول البخاريِّ هذا في «هامش اللَّامع» فارجع إليه لو شئت.
          قوله: (وليس هذا كالَّذي يحرِّم الطَّعام) قال العلَّامة القَسْطَلَّانيُّ: أي: ليس هذا التَّحريم المذكور في المرأة كالَّذي يحرِّم الطَّعام على نفسه، (لأنَّه يقال لطعام الحلِّ)_ولأبي ذَرٍّ <للطَّعام الحلِّ>_: (حرام)، قال الشَّافعيُّ: وإن حرَّم طعامًا وشرابًا فلغوٌ، ويقال للمطلَّقة: حرامٌ، خلافًا لما نُقل عن الأصبغ وغيره ممَّن سوَّى بين الزَّوجة والطَّعام والشَّراب، وقد ظهر أنَّ الشَّيئين وإن استويا مِنْ جهةٍ فقد يفترقان مِنْ جهةٍ أخرى، فالزَّوجة إذا حرَّمها على نفسه وأراد بذلك تطليقها حرُمت عليه، والطَّعام والشَّراب إذا حرَّمه على نفسه لم يحرُم عليه ولا يلزمه كفَّارةٌ لاختصاص الأبضاع بالاحتياط، وشدَّة قَبولها التَّحريم، ولذا احتجَّ باتِّفاقهم على أنَّ المرأة بالطَّلقة الثَّالثة تحرُم على الزَّوج فقال: (وقال تعالى: في الطَّلاق الثَّلاث(6)...) إلى آخره. انتهى مِنَ القَسْطَلَّانيِّ.
          وكتب الشَّيخ في «اللَّامع»: قوله: (لأنَّه لا يقال...) إلى آخره، فلم يحتمل إلَّا اليمين، بخلاف المرأة فإنَّها تصير حرامًا بتحريمه إيَّاها عليه، فاحتمل طلاقًا ويمينًا، والمصيرُ في مثله النِّيَّة. انتهى.
          قال الحافظ: وأظنُّ البخاريَّ أشار إلى قول أصبغ وغيره ممَّن سوَّى بين الزَّوجة والطَّعام والشَّراب، ثُمَّ قال الحافظ: وقد اختلف العلماء فيمن حرَّم على نفسه شيئًا فقال الشَّافعيُّ: إنْ حرَّم زوجته أو أَمَته ولم يقصد الطَّلاق ولا الظِّهار ولا العتق فعليه كفَّارة يمينٍ، وإن حرَّم طعامًا أو شرابًا فلغوٌ، وقال أحمد: عليه في الجميع كفَّارة يمينٍ. انتهى مختصرًا.
          وفي «الإكليل شرح مدارك التَّنزيل» عن «كتاب رحمة الأمة في اختلاف الأئمَّة»: اختلفوا في الرَّجل إذا حرَّم طعامه أو شرابه أو أَمَته، فقال أبو حنيفة وأحمد: هو حالفٌ وعليه كفَّارة يمينٍ بالحِنْث، وقال الشَّافعيُّ: إن حرَّم الطَّعام أو الشَّراب أو الملبوس فليس بشيءٍ ولا كفَّارة عليه، وإن حرَّم الأمة فقولان:
          أحدهما: لا شيء عليه.
          والثَّانية: لا يحرم، ولكن عليه كفَّارة يمينٍ وهو الرَّاجح، وقال مالكٌ: لا يحرم عليه شيءٌ مِنْ ذلك على الإطلاق ولا كفَّارة. انتهى مختصرًا كذا في «هامش اللَّامع».
          قال صاحب «الفيض»: لفظ الحرام مؤثِّرٌ في النِّساء عندنا وعند غيرنا، أمَّا في غير النِّساء كالطَّعام والشَّراب فيؤثِّر فيه أيضًا عندنا بخلاف الشَّافعيِّ، وتفرَّد ابن عبَّاسٍ حيث أنكر تأثيره في النِّساء وغيرها سواءً. انتهى.
          ويأتي تبويب المصنِّف على هذه المسألة في كتاب الأيمان والنُّذور إذ ترجم بقوله: (باب: إذا حرَّم طعامًا).


[1] في (المطبوع): ((ينوِه)).
[2] في (المطبوع): ((مُؤليًا)).
[3] في (المطبوع): ((الثلاثة)).
[4] في (المطبوع): ((رأي)).
[5] في (المطبوع): ((الظاهر)).
[6] في (المطبوع): ((ثلاث)).