الأبواب والتراجم لصحيح البخاري

باب قول الله تعالى: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن}

          ░18▒ (باب: قول الله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة:221])
          لم يبتَّ البخاريُّ حكم المسألة لقيام الاحتمال عنده في تأويلها، فالأكثر أنَّها على العموم، وأنَّها خصَّت بآية المائدة، وعن بعض السَّلف أنَّ المراد بالمشركات هنا عَبَدَة الأوثان والمجوس، حكاه ابن المنذر وغيره، ثُمَّ أورد المصنِّف فيه قول ابن عمر في نكاح النَّصرانيَّة، وهذا مصيرٌ منه إلى استمرار حكم عموم آية البقرة فكأنَّه يرى أنَّ آية المائدة منسوخةٌ، وبه جزم إبراهيم الحربيُّ وردَّه النَّحاس وحمله على التَّورُّع، كما سيأتي.
          وذهب الجمهور إلى أنَّ عموم آية البقرة خُصَّ بآية المائدة، وهي قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة:5] فبقي سائر المشركات على أصل التَّحريم، وأطلق ابن عبَّاسٍ أنَّ آية البقرة منسوخةٌ بآية المائدة، وقد قيل: إنَّ ابن عمر شذَّ بذلك، فقال ابنُ المنذر: لا يُحفظ عن أحدٍ مِنَ الأوائل أنَّه حرَّم ذلك. انتهى.
          لكنْ أخرج ابن أبي شيبة بسندٍ حسنٍ أنَّ عطاءً كره نكاح اليهوديَّات والنَّصرانيَّات، وقال: كان ذلك والمسلمات قليلٌ، ورُوي عن عمر أنَّه كان يأمر بالتَّنزُّه عنهنَّ مِنْ غير أن يحرِّمهنَّ، وقيل: إنَّ هذا مراد ابن عمر أيضًا(1) لكنَّه خلاف ظاهر السِّياق، لكنَّ الَّذي احتجَّ به ابنُ عمر يقتضي تخصيص المنع بمَنْ يشرك مِنْ أهل الكتاب لا مَنْ يوحِّد، وقد فَصَلَ كثيرٌ مِنَ العلماء كالشَّافعيَّة بين مَنْ دخل آباؤها في ذلك الدِّين قبل التَّحريف أو النَّسخ أو بعد ذلك، وهو مِنْ جنس مذهب ابن عمر، بل يمكن أن يُحمل عليه.
          وذهب الجمهور إلى تحريم النِّساء المجوسيَّات، وجاء عن حذيفة أنَّه تسرَّى بمجوسيَّةٍ، أخرجه ابن أبي شيبة وأورده أيضًا عن سعيد بن المسيِّب وطائفةٍ، وبه قال أبو ثورٍ، وقال ابن بطَّالٍ: هو محجوجٌ بالجماعة والتَّنزيل، وأجيب بأنَّه لا إجماع مع ثبوت الخلاف عن بعض الصَّحابة والتَّابعين.
          وأمَّا التَّنزيل: فظاهره أنَّ / المجوس ليسوا أهل كتاب، لقوله تعالى: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} [الأنعام:156] لكن لمَّا أخذ النَّبيُّ صلعم الجزية مِنَ المجوس دلَّ على أنَّهم أهلُ كتاب، فكان القياس أن تجري عليهم بقيَّة أحكام الكتابيِّين، لكن أجيب عن أخذ الجزية مِنَ المجوس أنَّهم اتَّبعوا فيهم الخبر(2)، ولم يَرِدْ مثل ذلك في النِّكاح والذَّبائح، وسيأتي تعرُّضٌ لذلك في كتاب الذَّبائح إن شاء الله تعالى. انتهى مِنَ «الفتح».
          قال العَينيُّ في شرح ترجمة الباب: وإنَّما ذكر هذه الآية الكريمة توطئةً للأحاديث الَّتي ذكرها في هذا الباب وفي البابين اللَّذين بعده، وإنَّما لم ينبِّه على المقصود مِنْ إيرادها للاختلاف القائم فيها، وقد أخذ ابن عمر بعموم قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة:221] حتَّى كره نكاح أهل الكتاب، وأشار إليه البخاريُّ بإيراد حديثه في هذا الباب، ونكح جماعةٌ مِنَ الصَّحابة نساءً نصرانيَّاتٍ ولم يرَوا بذلك بأسًا، إلى آخر ما بسط.
          وقال القَسْطَلَّانيُّ: والأئمَّة الأربعة على حِلِّ الكتابيَّة الحرَّة، وعلى المنع مِنْ غير أهل الكتابين مِنَ المجوس وإن كان لهم شبهةُ كتابٍ، إذ لا كتاب بأيديهم وكذا المتمسِّكون بصحف شيث وإدريس وإبراهيم وزبور داود، لأنَّها لم تنزل بنظمٍ يُدرس ويُتلى وإنَّما أوحي إليهم معانيها... إلى آخر ما ذكر.
          قلت: والَّذي يظهر عند هذا العبد الضَّعيف أنَّ المصنِّف مال في تلك المسألة إلى قول ابن عمر ومَنْ وافقه مِنْ بعض السَّلف، ثُمَّ لا يذهب عليك أنَّ حكم الحرائر مِنَ الكتابيَّات يخالف حكم إماء أهل الكتاب، أمَّا الأوَّل فقد تقدَّم الحكم في ذلك، وأنَّ الأئمَّة الأربعة متَّفقةٌ في إباحة النِّكاح فيها.
          وفي «الأوجز»: لا اختلاف بين أهل العِلم في حلِّ حرائر أهل الكتاب، قال ابن المنذر: لا يصحُّ عن أحدٍ مِنَ الأوائل أنَّه حرَّم ذلك، وبه قال سائر أهل العِلم، وحرَّمته الإماميَّة لقوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} [البقرة:221]، وقوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة:10]... إلى آخر ما بسط فيه، وقد تقدَّم الخلاف فيه لبعض السَّلف كابن عمر وغيره.
          وأمَّا حكم إماء أهل الكتاب فهي مسألةٌ خلافيَّةٌ، فقد ترجم الإمام مالكٌ في «موطَّئه»: النَّهي عن نكاح إماء أهل الكتاب، وفي «الأوجز»: قال الموفَّق: وليس للمسلم وإن كان عبدًا أن يتزوَّج أمَةً كتابيَّةً لقوله تعالى: {مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء:25] وهذا ظاهر مذهب أحمد وهو قول مالكٍ والشَّافعيِّ، وقال أبو مسيرة(3) وأبو حنيفة: يجوز للمسلم نكاحها، لأنَّها تحلُّ بملك اليمين، فحلَّت بالنِّكاح، ونُقل ذلك عن أحمد إلَّا أنَّ الخلَّال ردَّ هذه الرِّواية وقال: إنَّما توقَّف أحمدُ فيها... إلى آخر ما فيه.
          وهاهنا مسألةٌ ثالثةٌ: وهي إجماعيَّةٌ بين الأئمَّة الأربعة، وهي إباحة وطء الأمَة الكتابيَّة بملك اليمين، ففي «الأوجز» عن «المغني» أنَّ أمَته الكتابيَّة حلالٌ له، وهذا قول عامَّة أهل العِلم إلَّا الحسنَ البصريَّ فإنَّه كرهه. انتهى.


[1] قوله: ((أيضًا)) ليس في (المطبوع).
[2] في (المطبوع): ((الخير)).
[3] في (المطبوع): ((ميسرة)).