التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب قول الله تعالى: {ونضع الموازين القسط}

          ░58▒ باب قَوْلِ اللهِ ╡: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء:47]
          وَأَنَّ أعْمَالَ بَنِي آَدَمَ وَقَوْلَهُمْ يُوزَنُ.
          وَقَالَ مُجاهِدٌ: القُسْطَاسُ: العَدْلُ بِالرُّومِيَّةِ، ويقال: القِسْطُ: مَصْدَرُ المُقْسِطِ، وَهْوَ العَادِلُ، وأمَّا القَاسِطُ فَهْوَ الجَائِرُ.
          7563- ثُمَّ ساق حَديثَ أبِي هُرَيرَةَ ☺ السَّالف: (كَلِمَتَانِ حَبِيْبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ، خَفِيْفَتَان عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيْلَتَانِ فِي المِيْزَانِ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللهِ العَظِيْمِ).
          جمع البُخَارِيُّ فِي هذه الترجمة بين فوائدَ:
          منها: وصفُ الأعمال بالوزْنِ.
          ومنها: إدراجُ الكلام فِي الأعمال؛ لأنَّه وصفَ الكلمتين بالخفَّة عَلَى اللِّسان والثِّقل فِي الميزان فدلَّ عَلَى أنَّ الكلام عَمَلٌ يُوزن.
          ومنها: أنَّه ختَمَ كتابه بهذا التَّسبيح، وقد رُوِّينا فِي استحباب خَتْم المجلِسِ بالتَّسبيح وأنَّه كفَّارةٌ لِمَا لعلَّه أن يَتَّفق فِيْهِ ممَّا لا ينبغي مِن حَديث سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ، عن عَبْد الله بن عَمْرو بن العاصي ☻ أنَّه قَالَ: كلماتٌ لا يتكلَّمُ بهنَّ أحدٌ فِي مجلسه عند قيامه مِنْهُ ثلاثَ مَرَّاتٍ إِلاَّ كُفِّرَ بِهِنَّ عنه، ولا يقولهنَّ فِي مجلس ذِكْرٍ إِلاَّ خُتم له بهنَّ كما يختم بالخاتَم عَلَى الصَّحيفة: سُبحانك اللَّهُمَّ وبحمدكَ لا إله إِلاَّ أنت أستغفركَ وأتوبُ إليك.
          وعنه عن أبي هُرَيرَةَ ☺ عن رَسُول اللهِ صلعم مثلَه، أخرجَهُ أبُو داود فِي «سُننه»، وأخرجه التِّرْمذِيُّ والنَّسائيُّ مِن حَديث سُهَيل بن أبي صالِحٍ، عن أبيه، عن أبِي هُريرَة ☺.
          قال التِّرْمذِيُّ: حسنٌ صحيحٌ غريبٌ مِن هَذَاَ الوجه لا نعرفه إِلاَّ مِن هَذَاَ الوجه، وفي «سنن أبي داود» والنَّسائيِّ أيضًا مِن حَديث أبي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ نَضْلَة بن عُبَيدٍ ☺ قَالَ: كَاَنَ رَسُول اللهِ صلعم يقولُ بأخرةٍ إِذَا أراد أَنْ يقومَ مِن المجلس قَالَ: ((سبحانكَ اللَّهُمَّ وبحمدكَ، أشهد أن لا إله إِلاَّ أنت، أستغفرك وأتوب إليك)).
          فقال رجلٌ: يَا رَسُول اللهِ، إنَّك لتقول قولًا مَا كنتَ تقوله فيما مضى. قَالَ: ((كفَّارةٌ فِي المجلس)).
          وَهْوَ نظيرُ كونه بدأ كتابه بحديث: ((إنَّما الأعمال بالنِّيَّات)) فتأدَّب فِي فاتحتِهِ وخاتمتِهِ بآداب السُّنَّة، فابتدأ بإخلاص القَصْد والنِّيَّة لتخْلُصَ الأُمْنِيَّة، وختم بمراقبة الخواطر ومناقشة النَّفس عَلَى الماضي والاعتماد فِي تفكِّر مَا لعلَّه يحتاج إِلَى تفكُّرٍ ممَّا جعله الشارع مكفِّرًا لهفوةٍ تحصُلُ ونَزعةٍ تدخُلُ، فالختام مِسْكٌ.
          وقول مُجَاهِدٌ رواه وَرْقَاءُ عن ابن جُرَيجٍ عنه، وذكر الزَّجَّاج فِي «معانيه» / أنَّ القِسْط والعَدْل بمعنى، ({وَنَضَعُ المَوَازِينَ}): ذوات القِسْط، وقَسَط مثل عَدَل مصدرٌ يُوصف به يُقال: ميزانُ قِسْطٍ، ومِيْزانانِ قِسْطٍ، وَمَوازِين قِسْطٍ، وأجمع أهل السُّنَّة عَلَى أنَّ الإيمانَ بالميزان، وأنَّ أعمال العباد تُوزن يوم القيامة، وأنَّ الميزان له لسانٌ وكفَّتان، ومثَّل الأعمال بما يُوزَن.
          وخالف ذَلِكَ المعتزلة وأنكروا الميزان وقالوا: إنَّه عبارةٌ عن العَدْل، وَهَذَا مخالِفٌ لنصِّ الكِتَاب والسُّنَّة؛ فأخبر الربُّ تعالى أن تُوضع الموازين لتُوزن أعمال العِباد بها فيُريهم أعمالهم ممثَّلَةً فِي الميزان لأعين العاملين؛ ليكونوا عَلَى أنفسهم شاهدِين قَطْعًا لحُجَّتهم، وإبلاغًا فِي إنصافهم مِن أعمالهم الحَسَنة، وتبكيتًا لمن قَالَ: إنَّ الله لا يَعلم كثيرًا ممَّا يَعملون، ونَقْضًا عليهم لأعمالهم المخالفة لِمَا شَرَع لهم، وبرهانًا عَلَى عدلِهِ عَلَى جميعهم، وأنَّه لا يَظْلِمُ مِثقال ذرَّةٍ مِن خَرْدَلٍ حَتَّى يعترف كلٌّ بما قد نسيَهُ مِن عمله، ويَمِيز مَا عساه قد احتقرَهُ مِن فعلهِ، ويُقال له عند اعترافه: {كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:14].
          فَصْلٌ: وقول البُخَارِيِّ: (وَيُقَالُ: القِسْطُ: مَصْدَرُ المُقْسِطِ)، إِنَّمَا أراد المصدر المحذوف الزَّوائد، كالقَدْر مصدر قَدَرْتُ إِذَا حَذَفت زوائده، قال الشاعر:
وَإِنْ يَهْلِكْ فَذَلكَ كَاَنَ قَدْري
          يعني تقديري، محذوفُ الزَّوائد وردَّه إِلَى الأصل ومثلُهُ كثيرٌ، وإنَّما تُحذف زوائد المصادر ليُردَّ الكلام إِلَى أصلِهِ ويدلُّ عليه. ومصدر المُقْسِط الجاري عَلَى فِعْله: الإقساط.
          وقال الإسماعيليُّ: أقسطَ إِذَا عدَلَ وقَسَط إِذَا جار، وهما يرجِعانِ إِلَى معنى متقاربٍ؛ لأنَّه يُقَالُ: عَدَل عن كذا إِذَا مالَ عنه، وكذلك قَسَط إِذَا عَدَل عن الحقِّ، وأَقْسَطَ كأنَّه لزم القِسْط وَهْوَ العدل.
          فَصْلٌ: وَحَدِيث أبِي هُرَيرَةَ ☺ سلف فِي الأدعية [خ¦6406] وَهْوَ دالٌّ عَلَى أنَّ تسبيحَ الله وتقديسَه مِن أفضل النَّوافل وأعظم الذَّخائر عنده تعالى، ألَا ترى قَوْلُهُ: (حَبِيْبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ) ووجهه أنَّ التسبيح لَمَّا كَاَنَ معناه التَّنزيه والإبعاد عمَّا يُنسب إليه ممَّا لا ينبغي مِن صاحبةٍ وولدٍ وشريكٍ كَاَنَ حبيبًا إليه.
          وثبتَ فِي «صحيح مُسْلمٍ»، «ومُسند أحمدَ»، و«الأدب» للبُخَاريِّ والنَّسائيِّ فِي «اليوم والليلة» والتِّرْمذِيِّ وقال: حَسَنٌ صحيحٌ عن أبي ذرٍّ ☺ قلت: يَا رَسُول اللهِ، أيُّ الكلام أحبُّ إِلَى الله تعالى؟ قَالَ: ((مَا اصطفاهُ الله لملائكتِهِ: سُبحانَ الله وبحمدِهِ، ثلاثًا تقولها)).
          ولفظ النَّسائيِّ فِي «اليوم والليلة»: ((سُبحان الله وبحمده)).
          ورُوِّينا فِي «مُسند أحمدَ» عن ابن مَهْدِيٍّ، حدَّثنا إسرائيلُ، عن أبي سِنَانٍ، عن أبي صالِحٍ الحَنَفيِّ، عن أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ وأبي هُرَيرَةَ ☻ أنَّ رَسُول اللهِ صلعم: قَالَ: ((إنَّ الله اصطفى مِن الكلام أربعًا: سبحانَ الله، والحمدُ لله، ولا إله إِلاَّ الله، واللهُ أكبرُ، فمن قَالَ: سبحان الله كَتب الله له عشرين حسنةً أَوْ حطَّ عنه عشرين سيِّئةً، ومَن قَالَ: والله أكبر فمثلُ ذَلِكَ، ومن قَالَ: لا إله إِلاَّ الله فمثلُ ذَلِكَ، ومن قَالَ: الحمد لله ربِّ العالمين مِن قِبَل نفسِه كَتب الله له ثلاثين حسنةً أَوْ حطَّ عنه ثلاثين سيِّئةً)).
          ورواه النَّسائيُّ فِي «اليوم والليلة» عن عَمْرو بن عليٍّ، عن ابن مَهْدِيٍّ. وقد أسلفنا فيما مضى عن وَهْبِ بن منبِّهٍ أنَّه قَالَ: ((مَا مِن عبدٍ يقول: سُبحان الله وبحمده إِلاَّ قال له الربُّ جلَّ جلاله: صَدَق عبدي سُبحاني وبحمدي، فإنْ سأل أُعطي مَا سألَ، وإن سكت غُفر له مَا لا يُحصى)) [خ¦6406].
          قلت: وهي إحدى الباقيات الصَّالحات: ((سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إِلاَّ الله، والله أكبر))، عَلَى قول ابن عبَّاسٍ ☻ وجماعةٍ، فإن زاد: ((عَدَد خَلْقه وَزِنَة عَرْشِه وَرِضَا نَفْسِه وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ)) كَاَنَ عظيمًا كما شهد له به ◙، وقد أسلفنا هناك أيضًا أنَّه رُوي عن صَفيَّة قالت: مرَّ بي رَسُول اللهِ صلعم وأنا أسبِّحُ بأربعة آلافِ نَوَاةٍ، فقال: ((لقد قلتُ كلمةً هي أفضلُ مِن تسبيحكِ)) قلتُ: وما قلتَ؟ قَالَ: ((قلتُ: سُبحانَ اللهِ عَدَد مَا خلق)).
          ورُوِّينا فِي «صحيح مُسْلمٍ» مِن حَديث جُوَيْرِيَةَ أمِّ المؤمنين ♦ أنَّ النَّبِيَّ صلعم خرجَ مِن عِندها بُكرةً حين صلَّى الصُّبح وهي فِي مسجدها ثُمَّ رجع بعدَ أن أَضْحى وهي جالسةٌ، فقال: ((مَا زلتِ عَلَى الحال التي فارقتكِ عليها)) قالت: نعم، فقال ◙: ((لقد قلتُ بعدكِ أربعَ كَلِماتٍ ثلاثَ مرَّاتٍ؛ لو وُزِنتْ بما قُلْتِ منذ اليوم لوزنتهنَّ: سُبحانَ الله وبحمدِهِ عَدَد خَلْقه وَزِنَة عَرْشِه وَرِضَا نَفْسِه وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ)).
          وأخرجه ابن حِبَّانَ فِي «صحيحه» مِن حَديث ابن عبَّاسٍ ☻ أنَّه ◙ خرج إِلَى صلاة الصُّبح وجُوَيريَّة جالسةٌ فِي المسجد فذكره، ولم يقل ((ثلاث مرَّاتٍ))، وزاد: ((العظيم)). ثُمَّ قَالَ: جُوَيْرِيَةُ هي بنت الحارثِ بن عبد المطَّلِب عمِّ رَسُول اللهِ صلعم. قلت: وفي أبي داودَ أنَّه كَاَنَ اسمها بَرَّة فَحَوَّل رَسُول اللهِ اسمَها.
          وَهَذَا مِنْهُ دالٌّ عَلَى أنَّ جُوَيْرِيَةَ هي بنت الحارث أمُّ المؤمنين كما سلف. فإنَّها التي كَاَنَ اسمها برَّة وحُوِّل إِلَى جُوَيْرِيَةَ، ولم يذكر ابن الأثير الأولى وذكر ثلاثةً غيرها: أمَّ المؤمنين، وأمَّ المُجَلَّل زوج الحاطِبِ بن الحارث، وبنت أبي جَهْلٍ التي خَطَبها عليٌّ ☺.
          أنبأني غير واحدٍ عن الدِّمْياطِيِّ الحافظ فِي آخر كتابه «الباقيات الصَّالحات» ذكر عن نَصْرِ بن عليٍّ قَالَ: حدَّثني أبي قَالَ: رأيت الخليل بن أحمد فِي النوم فقال لي: ما رأيت مَا كنَّا فِيْهِ من النَّحو واللُّغة، فإنَّ ربَّك لا يعبأُ به شيئًا، مَا رأيت أنفعَ مِن سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إِلاَّ الله، والله أكبر.
          فَصْلٌ: وقد صحَّ أنَّ الحمد تملأ الميزان، وأنَّ سبحان الله، والحمد لله تملآن بين السماء والأَرْض، رُوِّينا فِي «صحيح مُسْلمٍ» مِن أفراده مِن حَديث أبي مالكٍ الأَشْعَريِّ، واسمه كعْبُ بن عاصِمٍ أَوْ الحارث بن مالكٍ قَالَ: قال رَسُول اللهِ صلعم: ((الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ، وَسُبْحَانَ اللهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَآَنِ _أَوْ تَمْلَأُ_ مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَالصَّلَاةُ نُورٌ، وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ، وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَايِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا)).
          وأخرجه التِّرْمذِيُّ وفي روايةٍ له: ((التَّسبيح نِصف الميزان، والحمدُ لله تملؤه، والتكبيرُ يملأ مَا بين السَّماء والأَرْض، والصَّوم نِصف الصَّبر)). وفي روايةٍ أخرى: ((ولا إله إِلاَّ الله ليس لها دونَ اللهِ حِجَابٌ حَتَّى تخلُصُ لله)).
          فائدة: أبُو مالكٍ هَذَاَ أخرج له مُسْلمٌ حديثين: هَذَاَ أحدهما، والثاني: ((أربعٌ مِن أمرِ الجاهليَّة..))، وسلف فِي البُخَارِيِّ حَديث أبي مالكٍ الأَشْعَرِيِّ أَوْ أبي عامرٍ عَلَى الشكِّ [خ¦5590].
          فَصْلٌ: قد شاركت هاتان الخِصْلتان كلمةَ التوحيد، وهي أعظم وأجلُّ وأشرفُ، رُوِّينا فِي كتاب «الدَّعَوات» للمُسْتَغْفِريِّ مِن حَديث أبِي هُرَيرَةَ ☺ / مرفوعًا: ((لقِّنُوا موتاكم: لا إله إِلَّا الله فإنَّها خفيفةٌ فِي اللِّسان ثقيلةٌ فِي الميزان، ولو جُعلت لا إله إِلاَّ الله فِي كفَّةٍ، وجُعلت السَّمَوات والأَرْض وما فيهنَّ فِي كفَّةٍ، لَرَجَحَت بهنَّ لا إله إِلاَّ الله)).
          ورُوِّينا حَديث البِطَاقة فِي ذَلِكَ وَهْوَ جليلٌ حَفِيلٌ فَلْنَخْتِم الكِتَاب به.
          وقد أخبرنا غيرُ واحدٍ بقراءتي عليهم أبو نُعَيمٍ أحمدُ بن الحافظ تقيِّ الدِّين عُبَيدٍ الأَشْعَرِيُّ والصَّدرُ المَيْدُوْمِيُّ والنَّجم القُطْبيُّ والشِّهاب بن كُشْتَغْدَى. قالوا: أخبرنا ابن علَّاقٍ خلا ابن كُشْتَغْدَى والمعين الدِّمَشْقيُّ، وزاد النَّجْمُ أيضًا قالوا: أخبرنا أبُو القاسم البُوصِيريُّ، أخبرنا أبُو صادِقٍ المَدِينيُّ بقراءة السِّلْفيِّ الحافظ، أخبرنا ابن حِمِّصَةَ الصَّوَّافُ، أخبرنا حَمْزَةُ الكِنَانيُّ: أخبرنا عِمْرَانُ بن موسى الطَّبيبُ: حدَّثنا يحيى بن عَبْد الله بن بُكَيرٍ، حدَّثني اللَّيثُ بن سعْدٍ، عن عامرِ بن يحيى المَعَافِرِيِّ، عن أبي عبد الرَّحمن الحُبُليِّ أنَّه قَالَ: سَمِعْتُ عَبْد الله بْنَ عَمْرٍو يَقُولُ: قال رَسُول اللهِ صلعم: ((يُصَاحُ بِرَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي عَلَى رُءُوسِ الخَلائِقِ يوم القيامة فَيُنْشَرُ لَهُ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ سَجِلاًّ كَلُّ سِجِلٍ منها مَدَّ البَصَرِ ثُمَّ يَقُولُ اللهُ تعالى: أَتُنْكِرُ مِنْ هَذَاَ شَيْئًا؟ فَيَقُولُ: لا يَا رَبِّ، فَيَقُولُ الربُّ تبارك وتعالى: ألَك عُذرٌ أَوْ حَسَنَةٌ؟ فَيهَابُ الرَّجُلُ فَيَقُولُ: لا يا ربِّ فَيَقُولُ الله ╡: بَلَى إنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَاتٍ، وَإِنَّهُ لا ظُلْمَ عَلَيْكَ، فَتخْرَجُ لَهُ بِطَاقَةٌ فِيْهَا أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَه إِلاَّ اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللهِ، فَيَقُولُ: يَا ربِّ مَا هذه البِطَاقَةُ مَعَ هذه السِّجِلَّاتِ؟ فَيَقُولُ: إِنَّكَ لا تُظْلَمُ، قَالَ: فَتُوضَعُ السِّجِلَّاتُ فِي كَفَّةٍ وَالبِطَاقَةُ فِي كَفَّةٍ فَطَاشَتْ السِّجِلَّاتُ وَثَقُلَتْ البَطَاقَةُ)).
          وَهْوَ حَديثٌ صحيحٌ عَلَى شرْطِ مُسلمٍ، أخرجه النَّسائيُّ فِي «سُننه»، والتِّرْمذِيُّ فِي «جامعه» وقال: حَسَنٌ غريبٌ.
          قال حَمْزَةُ: ولا أعلمهُ روى هَذَاَ الحَدِيث غير اللَّيث بن سعْدٍ وَهْوَ مِن أحسن الحَدِيث، قال أبُو الحسن عليُّ بن حِمِّصَةَ: أنا حضرتُ رجلًا فِي المجلس وقد زَعَق عند هَذَاَ الحَدِيث وماتَ، وشهدتُ جِنَازته وصلَّيت عليه.
          ورُوِّينا بالإسناد إِلَى دَرَّاجٍ، عن أبي الهيثمِ، عن أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، عن رَسُول اللهِ صلعم أنَّه قَالَ: ((قال موسى ◙: يَا رب علِّمني شيئًا أذكركَ به وأدعوكَ به، قَالَ: فقل يَا موسى: لا إله إِلاَّ الله، قَالَ: يَا ربِّ كلُّ عبادكِ يقول هَذَاَ، قَالَ: قل: لا إله إِلاَّ الله، قَالَ: إِنَّمَا أريد شيئًا تخصُّني به، قَالَ: يَا موسى لو أنَّ أهل السَّمَوات السَّبع والأرضين السَّبع فِي كفَّةٍ، ولا إله إِلاَّ الله فِي كفَّةٍ؛ لمالت بهم لا إله إِلاَّ الله)).
          أخرجه أبُو حاتِمٍ ابن حِبَّان فِي «صحيحه».
          هَذَاَ آخِرُ كلامنا مِن هَذَاَ الشَّرح المبارك بحمدِ الله ومَنِّه، اللَّهُمَّ إنَّا نُنَزِّهك مِن النَّقَائص، ونَبْرأُ إليك مِن كلِّ مَا نُسب إليك ممَّا لا يَلِيق بك، ونَسْتَغْفِرك مِن كلِّ مَا لا نَعْلم، ونتوبُ إليك ممَّا نَعلم، ونصلِّي عَلَى هَذَاَ النَّبِيِّ المعظَّم، وصَفْوة العالَمِ الأَعْلم، فَبِحُرْمته عندك جَازِنا عَلَى كتابنا هَذَاَ شفاعتَهُ والرِّضى منك ومنه علينا، ولك الحمدُ عَلَى تسهيل طريق هَذَاَ المصنَّف المبارك وتهذيبهِ وتنقيحهِ عَلَى هَذَاَ الأسلوب.
          الحمد لله الَّذِي هدانا لهذا، وما كنَّا لنهتديَ لولا أنْ هدانا الله، ونسألك أن تنفع به، وأن تعمَّ بركتُهُ والديَّ وولدي، وكلَّ مَن لاذَ بي، وكلَّ واقفٍ عليه، إنَّك أهل التقوى وأهل المغفرة.
          واعلم أيَّها النَّاظِر فِي هَذَاَ الكِتَاب أنَّه نُخْبةُ عُمْر المتقدِّمين والمتأخِّرين إِلَى يومنا هَذَا، فإنِّي نظرتُ عليه جُلَّ كُتُب هَذَا الفن مِن كلِّ نوعٍ، ولنذكر جملةً منها، فنقول: أصلُهُ مَا فِي الكتب السِّتَّة: البُخَارِيُّ، ومسلمٌ، والأربعةُ: أبُو داودَ، والتِّرْمذِيُّ، والنَّسائيُّ، وابن ماجَه، و«الموطَّأ» لمالكٍ مِن طُرُقه، و«موطَّأ عَبْد الله بن وَهْبٍ»، و«مُسند الشَّافعِيِّ»، و«الأمُّ»، والبُوَيِطيُّ، و«السُّنن» مِن طريق الطَّحَاويِّ، عن المُزَنيِّ، وعنه، و«مُسند الإمام أحمد»، و«مُسند أبي داود الطَّيالسِيِّ»، وعَبْدِ بن حُمَيدٍ، وابنِ أبي شَيْبةَ، والحُمَيدِيِّ، والبزَّارِ، وإسحاقَ بن رَاهَوَيهِ، وأبي يَعْلى، والحارثِ بن أبي أُسامةَ، وأحمدَ بن مَنِيعٍ شيخ البُخَارِيِّ، و«المنتقى» لابن الجَارُود، و«صحيح أبي بكْرٍ الإسماعيليِّ» و«تاريخ البُخَارِيِّ الأكبر» و«الأَوْسَط» و«الأصغر»، و«تاريخ ابن أبي خَيْثمَةَ»، و«الجرح والتعديل» لابن أبي حاتِمٍ، و«الكامل» لابن عَدِيٍّ، و«الضُّعفاء» للبُخَاريِّ، والنَّسائيِّ، والعُقَيلِيِّ، وابن شَاهِينٍ، وابن حِبَّان وأبي العرب، وابن الجوزيِّ، و«تاريخ نَيْسَابُور» للحاكِمِ، و«بغداد» للخطيب، و«ذيله» و«ذيل ذيله»، و«تاريخ دِمْشَقَ» لابن عَسَاكِرَ، و«مُستدرك الحاكم عَلَى الصَّحيحين» و«صحيح ابن خُزَيمةَ»، و«صحيح ابن حِبَّانَ»، و«صحيح أبي عَوَانَةَ»، والمعاجم الثلاثة للطَّبرانيِّ: «الكبير» و«الأوسط» و«الأصغر»، و«سنن البَيْهَقِيِّ» و«المعرفة» له، و«الشُّعَب» أيضًا، و«سُنن اللاَّلْكَائِيِّ»، و«سُنن أبي عليٍّ ابن السَّكَن»، وأحكام عبد الحقِّ الثلاثة: «الكبرى» و«الوسطى» و«الصُّغرى»، وكلام ابن القطَّان عَلَى «الكبرى»، و«أحكام الضِّياء المقدِسِيِّ»، وابن بُزَيزة، و«أحكام المحبِّ الطَّبرِيِّ»، وابن الطَّلاع، وغير ذَلِكَ.
          و«ثِقَات ابن شَاهِينٍ»، وابن حبَّان، و«المختلف فِيْهِ» لابن شَاهِينٍ، وآخرهم «الكمال» لعبد الغنيِّ، و«تهذيب الكمال» للحافظ المِزِّيِّ _وقد هذَّبته بزياداتٍ واستدراكاتٍ_ ومختصرهُ للذَّهَبيِّ و«ميزانه»، و«المغني فِي الضُّعفاء» له، و«الذبُّ عن الثِّقات»، «وَمَن تُكُلِّمَ فِيْهِ وَهْوَ موثَّقٌ».
          ومِن كُتُب الكُنى للنَّسائيِّ والدُّوْلاَبِيُّ وأبو أحمدَ الحاكمِ، و«رجال الصَّحيحين» للكَلاَبَاذِيِّ، وابن طاهِرٍ وغيرهما، و«المدخل للصَّحيحين» للحاكِمِ، و«الأسماء المفردة» للحافظ أبي بكْرٍ البَرْدِيْجِيِّ، و«رجال الكتب السِّتَّة» لابن نُقْطَةَ، و«كشف النِّقاب عن الأسماء والألقاب» لابن الجَوْزِيِّ، و«الأنساب» لابن طاهِرٍ، و«إيضاح الشكِّ» للحافظ عبد الغنيِّ المصريِّ، و«غُنية الملتمس فِي إيضاح الملتبس» للحافظ أبي بكْرٍ البَغْدَاديِّ، و«موضح أوهام الجمع والتَّفريق» له، و«تلخيص المتشابه فِي الرَّسْم وحماية مَا أشكل مِنْهُ عن نوادر التَّصحيف والوَهْم» أيضًا، و«أسماء مَن روى عن مالكٍ» له، وكتاب «الفَصْل للوَصْل المدرَج فِي النَّقل» له. ومِن كُتُب العِلَل مَا أودعه أحمدُ وابن المَدِينيِّ وابن أبي حاتمٍ والدَّارَقُطنِيُّ، وابن القطَّان فِي «وهمه»، وابن الجوزيِّ فِي عِللهم، قال ابن مَهْدِيٍّ الحافظ: لأنْ أعرف علَّة حَديثٍ أحبُّ إليَّ / مِن أن أكتب عشرين حديثًا ليس عندي.
          ومن كُتُب المراسيل مَا أودعه أبُو داودَ، وابن أبي حاتِمٍ، وابن بدرٍ الموصليِّ، وغيرهم، ومن كُتُب الموضوعات مَا أودعه ابن طاهِرٍ، والجوزقانيُّ، وابن الجوزيُّ، والصَّغانيُّ، وابنُ بدرٍ المَوْصِليُّ فِي موضوعاتهم، ومِن كُتُب الصَّحابة كتاب أبي نُعَيمٍ، وأبي موسى، وابن عبد البرِّ، وابن قانِعٍ فِي «معجمه»، والعَسْكَرِيِّ، و«أُسْد الغابة» لابن الأثير، ولخَّصه الذَّهبِيُّ فِي «معجمه» وفيه إعوازٌ.
          ومِن كُتُب الأطراف: «أطراف خَلَفٍ»، وأبي مَسْعُودٍ، وابن عَسَاكِرَ، وابن طَاهِرٍ، و«أطراف المزِّيِّ» الجامعة.
          ومن كُتُب الخِلَافيَّات الحَدِيثيَّة: «خِلَافيَّات البَيْهَقِيِّ»، وابن الجَوْزِيِّ، و«المحلَّى» لابن حزْمٍ _ولنا معه مناقشاتٌ_ ولابن عبد الحقِّ، ولابن مُفَوِّزٍ أيضًا.
          ومِن كُتُب الأمالي: «أمالي ابن السَّمْعَانيِّ»، و«أمالي ابن مَنْدَه»، و«أمالي ابن عَسَاكِر».
          ومِن كُتُب النَّاسخ والمنسوخ: ما أودعه الشَّافعِيُّ في «اختلاف الحديث»، والأَثْرَمُ، والحَازِميُّ، وابن شَاهِينٍ، وابن الجَوْزِيِّ في تواليفهم.
          ومِن كُتُب المبهمات: ما أودعه الخَطِيبُ، وابن بَشْكُوالٍ، وابن طَاهِرٍ، وابن بَاطِيشٍ، وما أودعه النَّووِيُّ في «مختصر الخطيب»، وابن الجَوْزِيِّ في آخر «تلقيحه».
          ومن كُتُب اللُّغات والغريب: «غَريب أبي عُبَيدٍ»، وأبي عُبَيدةَ _وجمعَهُ في أربعين سنةً_ والحَرْبيِّ صاحب الإمام أحمدَ، والزَّمَخْشَرِيُّ في «الفائق»، والهَرَويُّ في «غريبيه»، وابن الأثير في «نهايته» و«جامعه»، وابن الجَوْزِيِّ، و«المحكم»، و«المخصَّص» لابن سِيدَه، و«الصَّحاح»، و«العُباب»، و«التهذيب»، و«الواعي»، و«الجامع»، وغير ذلك، و«المجمل»، و«الزَّاهر»، و«الجمهرة» لابن دُرَيدٍ، وعِيَاضٌ في «مَشَارقه»، وتلاه ابن قُرْقُولَ في «مَطَالعه»، والخطَّابيُّ في «تصحيفه»، والصُّولِيُّ، والعَسْكَرِيُّ، والمُطَرِّزِيُّ.
          ومن كُتُب شروحه: القزَّاز، والخطَّابيِّ، والمهلَّب، وابن بطَّالٍ، وابن التِّين، ومِن المتأخِّرين: شيخنا قُطْبُ الدِّين عبد الكريم في نحو سِتَّة عشر سِفْرًا، وبعده علاءُ الدِّين مُغُلْطايُّ في تِسعةَ عشرَ سِفْرًا صِغَارًا.
          وشرحُنا هذا خُلَاصة الكلِّ مع زياداتٍ مُهمَّاتٍ وتحقيقاتٍ، ومِن شُرُوحِ الحديث المازَرِيُّ، وعِيَاضٌ، والقُرْطُبيُّ، والنَّوويُّ، و«شرح سُنن أبي داود» للخطَّابيِّ، والحواشي للزَّكيِّ عبد العظيم، و«شرح مُسند الإمام الشَّافعِيِّ» لابن الأثير، والرَّافعِيِّ.
          ومن كُتُب أسماء الأماكن: ما أودعَهُ الوزير أبو عُبَيدٍ البَكْرِيُّ في «معجم ما استعجمَ مِن أسماء البلدان»، ثمَّ الحازمِيُّ في «مختلفه ومؤتلفه».
          ومن كُتُب الخِلَاف: «تهذيب ابن جَرِيرٍ»، وكتب ابن المُنْذِر «الأوسط» و«الإشراف» وغير ذلك.
          ومن كُتُب الطَّبقات: مُسْلمٌ، وابن سعْدٍ، وكُتُب السِّيَر والمغازِي لابن إسحاقَ، والوَاقدِيِّ، وغيرهما، وما يتعلَّق بها مِن ضَبْطٍ كالسُّهَيْلِيِّ، وغيره.
          وكتب المؤتلف: عبدُ الغَنيِّ، والدَّارَقُطنِيُّ، والخَطِيبُ، وابن مَاكُولا، وابن نُقْطَةَ، وابن سُلَيمٍ، وغيرهم.
          وكُتُب الأنساب: الرُّشَاطِيُّ، والسَّمْعَانيُّ، وابن الأثير.
          ومِن كُتُبٍ أُخرى: كـ«معجم أبي يَعْلَى المَوْصِليِّ»، و«جامع المسانيد» لابن الجَوْزِيِّ، و«نفي النَّقل» له، و«تحريم الوَطْءِ في الدُّبُر» له، و«الأشربة» لأحمدَ، و«الحِلْية» لأبي نُعَيمٍ، و«الأمثال» للرَّامَهُرْمُزِيِّ، و«علوم الحديث» للحاكم، ثمَّ ابن الصَّلاح وما زدتُهُ عليها، وكتب ابن دِحْيةَ «العلم المشهور»، و«الآيات البَيِّنات»، و«شرح مَرَج البحرَين»، و«التَّنوير»، وغيرها.
          وأمَّا أجزاء فلا تنحصِرُ، وكذا كتب الفِقه.
          وأسأل الله أن يجعل سَعْينا في ذلك مشكورًا، وأن نلقى حَبْرَةً وسرورًا، ولا يجعلنا ممَّن وكلَهُ إلى نفسهِ وأهمله إلى رمسِهِ.
          وكان الابتداء في هذا التأليفِ المبارَكِ في أواخر ذي الحَجَّة سنة ثلاثٍ وستِّين وسبع مئةٍ، ثمَّ فتر العَزْم إلى سنة اثنتين وسبعين فشرعتُ فيه، وكانت خاتمتُهُ قُرْب زوال يوم الأحد ثالث وعشري المحرَّم مِن شهور سنة خمسٍ وثمانين وسبع مئةٍ سوى فتراتٍ حَصَلت في أثناء ذلك فكتبتُ في غيره، وذلك ببهتيت مِن ضواحي كوم الرِّيش، ولله الحَمْدُ والمنَّة.
          وكتب مؤلِّفُهُ عُمَر بن عليِّ بن أحمدَ بن مُحَمَّدٍ الأنصاريُّ الشَّافعِيُّ حامدًا ومُصَلِّيًا ومسلِّمًا إلى يوم الدِّين، حسبنا الله ونِعْمَ الوكيلُ ولا حولَ ولا قُوَّةَ إلَّا بالله العَلِيِّ العَظِيم. / / .