التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب:{ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين}

          ░28▒ باب {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} [الصافات:171]
          ذكر فِيْهِ أحاديث:
          7453- أحدها: حَديث أبِي هُرَيْرَةَ ☺ السَّالف قريبًا: (إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي).
          7454- ثانيها: حَديث ابن مَسْعُودٍ ☺: (إِنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِيْنَ يَوْمًا أو أَرْبَعِيْنَ لَيْلَةً).
          7455- ثالثها: حَديث ابن عبَّاسٍ ☻ أنَّه ◙ قَالَ: (يا جِبْرِيْلُ، ما يَمْنَعُكَ أَنْ تَزُورَنَا أَكْثَرَ مِمَّا تَزُورَنَا؟) فَنَزَلَتْ: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} الآية [مريم64]. قَالَ: كَاَنَ هَذَا الجَوَابُ لِمُحَمَّدٍ صلعم.
          7456- رابعها: حَديث عَلْقَمةَ عَنْ عَبْد اللهِ ☺ فِي سؤال اليَهُود عَنْ الرُّوح، وقَد سَلَفَ [خ¦125].
          7457- خامسها: حَديث أبِي هُرَيْرَةَ ☺: (تَكَفَّلَ اللهُ لِمَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيْلِهِ _لا يُخْرِجُهُ إِلَّا الجِهَادُ فِي سَبِيْلِهِ وَتَصْدِيْقُ كَلِمَاتِهِ_ بِأَنْ يُدْخِلَهُ الجَنَّةَ، أَوْ يَرْجِعَهُ إِلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ مَعَ ما نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ).
          7458- سادسها: حَديث أبي مُوسَى ☺ قَالَ: جَاَءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُول اللِه صلعم فقال: الرَّجُلُ يُقَاتِلُ حَمِيَّةً، وَيُقَاتِلُ شَجَاعَةً، وَيُقَاتِلُ رِيَاءً، فَأيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيْلِ اللهِ؟ قَالَ: (مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هي العُلْيَا فَهْوَ فِي سَبِيْلِ اللهِ).
          الشَّرح: الكلمة السابقة هي كلمةُ الله بالقضاء المتقدِّم مِنْهُ قبل أَنْ يخلُقَ خَلقه فِي أمِّ الكتاب الَّذِي جرى به العِلْم للمُرْسلِين أنَّهم لَهُمُ المنصورون فِي الدُّنيا والآخرة كما نبَّه عليه المهلَّب، وقَد سَلَفَ فِي كتاب القدر ما يتضمَّنُ هَذَا الباب مِنْهُ.
          ومعنى الباب: إثباتُ الله تَعَالَى متكلِّمًا وذا كلامٍ خِلافًا لمن يقول مِن المعتزلة: إنَّه تَعَالَى غير متكلِّمٍ فيما مضى وكذلك هُوَ فيما بقي، وهذا كُفْرٌ قد نصَّ الله تَعَالَى عَلَى إبطاله بقوله: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} [الصافات:171] فِي آياتٍ أُخر.
          وقد نصَّ الشارع عَلَى بيان هَذَا المعنى فِي أحاديث هَذَا الباب فقال: (كَتَبَ عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ)، وقال: (ثُمَّ يَبْعَثُ اللهُ إِليهِ مَلَكًا فَيُؤْذَنُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ يُوْحِيْهَا اللهُ إِلَى المَلَكِ، فَيَكْتُبُهَا فِيْ أُمِّ الْكِتَابِ)، وقال: (فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ) بالقضاء المتقدِّم فِي سابق عِلْمه، والكتاب يقتضي كلامًا مكتوبًا، ودلَّ ذَلِكَ عَلَى أنَّه تَعَالَى لَمْ يزل عالمًا بما سيكون قبل كونه خلافًا لمن يقول إنَّه لا يَعلم الأشياء قبل كونها، ووجهُ مُشَاكلة حَديث ابن عبَّاسٍ ☻ للترجمة هُوَ أنَّ الَّذِي ينزِلُ به جبريلُ هُوَ كلامُ الله تَعَالَى ووحيُهُ.
          وكذلك قوله فِي حَديث ابن مَسْعُودٍ: ({قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي}) يريد: أنَّ الرُّوْح خَلْقٌ مِن خَلْقه تَعَالَى خَلَقَه بقوله: كُن، وكُن كلامه الَّذِي هُوَ أمره الَّذِي لَمْ يزل ولا يزال.
          وَقَوْلُهُ فِي حَديث عَبْد اللهِ ☺: ({وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85]) دليلٌ عَلَى أنَّه لا يبلغُ حقيقة العِلْم بالمخلوقات فَضْلًا عَنْ العِلْم بالخالق سبحانه، وأنَّ مِن العِلْم ما يلزم التسليم فِيْهِ لله سبحانه وتعالى ويجِبُ الإيمان بمُشْكلهِ، وأنَّ الرَّاسخين فِي العِلْم لا يَعلمون تأويل المتشابه كما يزعُمُ المتكلِّمُون، إذ قد علَّمنا الله تَعَالَى أنَّ السؤال عَنْ الرُّوح ابتغاءُ ما لَمْ نُؤتَه مِن العِلْم، مَعَ أنَّه تَعَالَى وصف قلوب المتَّبِعين ما تَشَابه مِنْهُ بالزَّيْغ وابتغاء الفِتنة، ووصفَ الراسخين فِي العِلْم بالإيمان به، وأنَّ كلَّه مِن عند رَبِّهم مُسْتَعيذين مِن الزَّيْغ الَّذِي وَسَم الله تَعَالَى به مَن اتَّبع تأويل المتشابه، داعِين إِلَى الله لا يُزِيغ قلوبهم بابتغاء تأويله بعد إذ هداهم إِلَى الإيمان به.
          وأمَّا قوله: (كَتَبَ عِنْدَهُ إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي) فهو _والله أعلم_ كتابه فِي أمِّ الكتاب الَّذِي قضى به وخطَّه القلم، فكان مِن رحمتِهِ تلك أنِ ابتدأ خَلْقَهُ بالنِّعمة بإخراجهم مِن العدم إِلَى الوجود، وبسَطَ لهم مِن رحمته فِي قلوب الأبوين عَلَى الأبناء مِن الصَّبر عَلَى تربيتهم ومباشرة أقذارهم ما إِذَا دَبَّر مُدبِّرٌ أيقن أنَّ ذَلِكَ مِن رحمته تَعَالَى، ومِن رحمتهِ السابقة أنَّه يرزُق الكفَّار ويُنَعِّمُهم ويدفَعُ عنهم الآلام، ثُمَّ ربَّما أدخلهم الإسلام رحمةً مِنْهُ لهم، وقد بلغوا مِن التمرُّدِ عليه والخلْعِ لربوبيَّتِهِ غاياتٍ تُغضبه فتغلِبُ رَحْمتُهُ ويُدِخِلُهم جنَّته، ومَن لَمْ يتبْ عليه فقد رَحِمه مدَّةَ عُمُره بتراخي عُقوبته، وقد كَاَنَ له أن لا يُمْهِلَه بالعقوبة ساعةَ كُفْره به وَمَعْصِيته له، لكنَّه أمهلَهُ رحمةً له، ومع ذاك إنَّ رحمةَ الله السابقةَ أكثرُ مِن أن يُحيط بها الوصف.
          فَصْلٌ: / قوله: (لَمَّا قَضَى اللهُ الخَلْقَ) أَيْ: خَلَقهم، وكلُّ صنعةٍ محكَمَةٍ مُتقَنَةٍ فهي قضاءٌ، قاله أَبُو عَمْرٍو، ومنه {إِذَا قَضَى أَمْرًا} [آل عمران:47].
          وَقَوْلُهُ: (فَوْقَ عَرْشِهِ) قال بعض العلماء: فوق بمعنى: دون استعظامًا أَنْ يكون شيءٌ مِن المخلوقات فوق العرش، واحتجَّ بقوله: {بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة:26]. أَيْ: فما دونها، وذكر غيره فِي فوقها قولين:
          أحدهما: فما فوقها فِي الصِّغَر لأنَّه المراد مِن الكلام.
          والثاني: أنَّها زائدةٌ كقوله تَعَالَى: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ} [الأنفال:12] أَيْ: الأعناق فما فوق، وقَد سَلَفَ ذَلِكَ أيضًا [خ¦7422].
          فَصْلٌ: قوله فِي حَديث ابن مَسْعُودٍ ☺: (إِنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ) الخَلْق هنا: بمعنى المخلوق، واختُلف فِي الوقت الَّذِي يعرُجُ به الملَك، ففي الكتاب بعد مائةٍ وعشرين، وقيل: بعد أربعين ليلةً، وقيل: إِذَا عرج الملَك بالنُّطْفة بعد آخر أربعين ليلةً تُلقى مِن يده إِلَى الأرض التي يصيرُ إليها إِذَا مات ثُمَّ يأخذها الملَكُ فيعرُجُ بها.
          فَصْلٌ: قوله: (فَيُؤْذَنُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ) أَيْ: يُعلَم فيكتبُ الكلمات المذكورة، قَالَ الدَّاودِيُّ: فقد أخبرَ أنَّه يكتبُ عملَهُ الَّذِي يُجازى به عليه، قال: وفي هَذَا دليلٌ أنَّ الأمر عَلَى خِلافِ مَن قال: إنَّ الله سبحانه لَمْ يَزَل متكلِّمًا بجميع كلامه، فهل يقول الأربع كلماتٍ قبلَ أن يَرجع إليه بما فِي الرَّحِم؛ ويردُّ قول مَن قال: إنَّه سبحانه لو شاء لعذَّب الخلق، وليس مِن صِفة الحِلم أن يتبدَّلَ عِلْمه، قد عَلِم فِي الأوَّل مَن يَرحم ومَن يعذِّب.
          وهذا مِن الدَّاودِيِّ خِلاف ما قاله أهل السُّنَّة؛ لأنَّهم يقولون: إنَّه تَعَالَى لَمْ يزل متكلِّمًا بجميع كلامه، وإنَّه لو شاء عذَّب النَّاس جميعًا، واتَّفق أهل الحقِّ أنَّ كلامه تعالى كلامٌ لنفسه، واختُلِف هل هُوَ أمرٌ لنفسهِ ونهيٌ لنفسِهِ، وَهْوَ تَعَالَى فِي الأزل آمرٌ وناهٍ.
          وقال القاضي وغيره: إنَّه أمرٌ ونهيٌ للإفهام، وإنَّ الكلام واحدٌ والأمر مِنْهُ هُوَ النَّهي وَهْوَ الخبر وإنَّما يسمعه السامع، فإِذَا خَلَق الله له الفهم بأنَّه أمرٌ كَاَنَ أمرًا، وإذا أفهمَهُ النَّهي كَاَنَ كلامه نهيًا، فعلى هَذَا لا يكون آمرًا ولا ناهيًا فِي الأَزَلِ.
          فَصْلٌ: قَالَ الدَّاودِيُّ: وَقَوْلُهُ: (ثُمَّ ينفخ فِيْهِ الرُّوْحَ) فإنَّما ذَلِكَ بأن يقول الله له: كن فيكون، قال: وهذا يؤيِّدُ ما قلناه لأنَّ النَّفخ بكلامه، والكلام الَّذِي نفخَ فِيْهِ لو وقف لَمْ يكن قبلَه ولا يكون بعدَه.
          وَقَوْلُهُ: (إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ) الحَدِيْث، ذُكر عَنْ عُمَر بن عبد العزيز أنَّه أنكر هَذَا، قال: كيف يصحُّ أن يَعمل العبدُ عُمُره طائعًا ثُمَّ لا يَدخل الجنَّة، كذا حكاه عنه ابن التِّين، وَهْوَ عجيبٌ مِنْهُ إنْ صحَّ.
          فَصْلٌ: المراد بـ({مَا بَيْنَ أَيْدِينَا}) فِي الآيَة فِي حَديث ابن عبَّاسٍ ☻ أمر الآخرة، ({وَمَا خَلْفَنَا}): أمر الدُّنيا، ({وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ}): البرْزَخُ بين الدُّنيا والآخرة، قاله سَعِيدُ بن جُبَيرٍ.
          وَقَوْلُهُ: ({وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا})، قيل: لَمْ يَنْسَكَ وإن تأخَّر عنك الوحيُ، وقيل: هُوَ عالِمٌ بكلِّ شيءٍ حافظٌ له لَمْ ينسَهُ ولا شيئًا مِنْهُ.
          فَصْلٌ: فِي حَديث ابن مَسْعُودٍ ☺: (كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُول اللِه صلَّى اللهُ علَيْهِ فِي حَرْثٍ) أَيْ: زَرْعٍ، قاله الجَوْهَرِيُّ.
          وقَالَ الدَّاودِيُّ: يعني خارج المَدِيْنَة. قال: والعَسِيب: هُوَ القَضِيب. والمِخصَرةُ: هُوَ القَضِيب وربَّما كَاَنَ مِن جَرِيدٍ، قال: واشتقاقُ القَضِيب لِمَا يَجِدُ مِن ثِقَل الوحي، وقَد سَلَفَ ذَلِكَ مَعَ الكلام عَلَى الرُّوح [خ¦7297].
          وَقَوْلُهُ: ({وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85])، إنْ قُلت: كيف قيل لليَهُود ذَلِكَ، وقد أُوتوا التَّوراة؟
          وجوابه: أنَّ قليلًا وكثيرًا إنَّما يُعرَّفان بالإضافة إِلَى غيرهما، فإِذَا أُضيفت التوراة إِلَى علم الله تَعَالَى كَانَت قليلًا مِن كثيرٍ، أَلَا ترى قوله: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي} الآية [الكهف:109].
          وَقَوْلُهُ: (فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ) قَالَ الدَّاودِيُّ: قد أيقنتُ، والظنُّ يكون يقينًا وشكًّا وَهْوَ مِن الأضداد، ويدلُّ عَلَى صِحَّة هَذَا التأويل أنَّ فِي الحَدِيْث الَّذِي بعد هَذَا فِي باب: إنَّما أمرنا لشيءٍ: ((فَعَلِمتُ أنَّه يُوحى إليه))، ويصحُّ أن يكون هَذَا الظنُّ عَلَى بابه، ويكون ظنَّ ذَلِكَ ثُمَّ تحقَّقه وَهْوَ أظهرُ؛ لأنَّ فِي الحَدِيْث الآخر: ((فَحَسِبتُ أنَّه يُوحى إليه)).
          فَصْلٌ: قوله: (تَكَفَّلَ اللهُ لِمَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ) أضاف الكَفَالة إليه تَعَالَى؛ لأنَّه أوفى كَفِيلٍ فِي سبيل التعظيم والتَّصحيح لثواب مَن جاهَدَ فِي سبيلِهِ، وقال: (لاَ يُخْرِجُهُ إِلَّا الجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ) يريد إخلاص ذَلِكَ لله تَعَالَى لا يَشُوبه طلبُ الغنيمة ولا التعصُّب للأهل والعَشِير غير أنْ تكون كَلِمةُ الله هي العليا، وإذا كَانَت بنيَّةِ الجهاد فلا يُنْتَقص مِن أجرهِ، ولا يُنْتَقض عهدُهُ بما ينال بعدُ مِن غنيمةٍ، وإنَّما يكره أَنْ يكون سببُ خروجه للغنيمة.
          وَقَوْلُهُ: (وَتَصْدِيقُ كَلِمَاتِهِ) قيل: يريد به الأمر بالقِتال فِي سبيل الله وما وَعَد عليه الثواب، ويحتمل أَنْ يريد به الشهادتين، وأنَّ تصديقَهُ بها يُثبِت فِي نفسه عداوة مَن كَذَّبهما والحرْص عَلَى قتلِهِ.
          وَقَوْلُهُ: (بِأَنْ يُدْخِلَهُ الجَنَّةَ) يريد إن أُصيب بموتٍ أَوْ قتْلٍ لأنَّ فِي اللَّفظ ما يختصُّ بالقتل دون غيره، ويحتمل أن يريد: يُدخله الجنَّة بإثْرِ قَتْلِهِ، ويكون هنا خصوصًا للشُّهداء كما خُصُّوا بأنَّهم يُرزقون، ويحتمل أَنْ يريد أَنْ يَدخلها بعد البَعْث فِي الآخرة، وتكون فائدة تخصيصهِ أنَّ ذَلِكَ يكون كفَّارةً لجميع خطاياه وإن كَثُرت إلَّا ما خصَّه الدَّليل فإنَّه لا موازنةَ بين ما اكتسبَ مِن الخطايا وبين ثواب جِهَاده إذ لَمْ يَرجع.
          ويؤيِّدُ هَذَا التأويل حَديث أبي قَتَادَة ☺: أرأيتَ إن قُتِلتُ صابرًا محتسِبًا مُقْبِلًا غيرَ مُدْبِرٍ أيكفِّرُ الله عنِّي خَطَاياي؟ فقال ◙: ((نعم)) ثُمَّ قال بعدَ أن ردَّ عليه: ((إلَّا الدَّين، كذلك قال لي جبريلُ)).
          وَقَوْلُهُ: (مَعَ مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ) يريد: مَعَ الَّذِي نالَ منها، إن أصاب غنيمةً فله أجْرٌ وغنيمةٌ، وإن لَمْ يُصِبها أُوجِر عَلَى كلِّ حالٍ، فتكون (أَوْ) بمعنى الواو كما فِي قول جَرِيرٍ:
نَالَ الخِلَافةَ أَوْ كَانَت لَهُ قَدَرًا                     كَمَا أَتَى ربَّه مُوسَى عَلَى قَدَرِ
          وفي الحَدِيْث: ((ما مِن غَازِيةٍ تَغْزو فِي سبيل الله فَيُصِيبون غنيمةً إلَّا تعجَّلُوا ثُلُثي أَجْرِهم مِن الآخرة ويبقى لهم الثُّلُث، فإن لَمْ يُصيبوا غنيمةً تمَّ لهم أجرُهم))، وطعن فِي هَذَا الحَدِيْث بعضهم فقال: رواه أبو هانِئٍ حُمَيدُ بن هَانئٍ / وليس بمشهُورٍ، ولو ثبتَ لكان معناه: أن يُصِيبوا غنيمةً عَلَى غير وجهها أَوْ يكونوا خرجوا قاصدين لها مَعَ إرادة الجهاد، ولا يصحُّ حملُهُ عَلَى عُمُومه لأنَّ أهل بدْرٍ أفضلُ الغُزَاة قد غَنِموا.
          ورُوي أنَّ جبريلَ قال لرسول الله صلعم: ((ما تعدُّون أهلَ بدْرٍ فيكم؟)) قال: ((مِن أفضل المسلمين _أَوْ كلمةً نحوها_ قال: وكذلك مَن شَهِد بدرًا مِن الملائكة))، فقال ◙: ((نعم، وما يُدْرِيك لعلَّ الله اطَّلع عَلَى أهل بدرٍ فقال: اعملوا ما شِئتم فقد غَفَرتُ لكم)).