التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب ما جاء في قول الله تعالى: {إن رحمت الله قريب من المحسنين}

          ░25▒ باب مَا جَاءَ فِي قَوْلِ اللهِ ╡: {إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:56]
          7448- ذكر فِيْهِ حَديث أُسَامةَ ☺: (إِنَّمَا يَرْحَمُ اللهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ). وقَد سَلَفَ [خ¦1284].
          7449- وَحَدِيْث أبِي هُرَيْرَةَ ☺ فِي اختصام الجنَّة والنَّار، وقَد سَلَفَ أيضًا [خ¦4850].
          7450- وَحَدِيْث أنسٍ ☺ أنَّ النَّبِيَّ صلعم قال: (لَيُصِيبَنَّ أَقْوَامًا سَفْعٌ مِنَ النَّارِ بِذُنُوبٍ أَصَابُوهَا عُقُوبَةً، ثُمَّ يُدْخِلُهُمُ اللهُ الَجنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ يُقَالُ لَهُمُ الَجهَنَّمِيُونَ).
          وَقَالَ هَمَّامٌ: عن قَتَادَةَ، حدثَنَا أَنَسٌ ☺ عَنِ النَّبِيِّ صلعم.
          الشرح: إنَّما أتى بمتابعة همَّامٍ لتصريح قَتَادَة فيه بالتحديث، وقال: {قَرِيبٌ}، ولم يقل: قريبةٌ لأوجهٍ: لأنَّه أراد بالرَّحمة الإحسان، ولأنَّ ما لا يكون تأنيثه حقيقيًّا يجوز تذكيره وتأنيثه، وقال الفرَّاء: إذا كان القريب في معنى المسافة يُذكَّر ويُؤنَّث، وإن كان في معنى النَّسب فيُؤنَّث، فلا اختلاف إذًا.
          وفي بعض الأخبار أنَّه قال: ((يا ربِّ، إذا كان رحمتُكَ قريبٌ مِن المحسنين فمن للعَاصِين؟ قال: أنا بنفسي تباركَ وتَعَالى)).
          والرَّحْمة قسمان: صِفة ذاتٍ، وصِفة فعْلٍ:
          فالأوَّل: يرجع بها إلى إرادته إثابةَ المحسنين كما قلنا، وإرادته صِفة ذاتِهِ، وَمِثله قوله ◙: ((إنَّما يرحُمُ الله مِن عِبَاده الرُّحَماء)) معناه: إنَّما يريد إثابةَ الرُّحَماء لعباده مِن خَلْقه، ويحتمل أن تكون صِفة فِعْلٍ، فالمعنى: إنَّ نِعْمَةَ الله على عبادِهِ وَرِزْقَهُ لهم بنزول المطر وشبهه قريبٌ مِن المحسنين، فسمَّى ذلك رحمةً له؛ لكونه بقُدْرَتِهِ وعن إرادته مجازًا واتَّساعًا؛ لأنَّ مِن عادة العرب تسمية الشيء باسم مُسبِّبِهِ وما يتعلَّق به ضربًا مِن التعلُّق، وعلى هذا سمَّى الله الجنَّة رحمةً فقال:(أنتِ رَحْمَتِي)، فسمَّاها مع كونها رحمةً، إذ كانت حادثةً بِقُدْرتهِ وإرادتُهُ تنعيم الطائعين مِن عبادِهِ.
          فَصْلٌ: واختصام الجنَّة والنَّار يجوز أن يكون حقيقةً وأن يكون مجازًا، كما قال المهلَّب: بأن يخلق الله فيها حياةً وفهمًا؛ لقيام الدليل على كونه تعالى قادرًا على ذلك، أو على ما تتأوَّله العرب مِن نسبة الأفعال إلى ما لا يجوزُ وقوعها منه في تلك الحال، كقوله: امتلأَ الحوضُ وقال: قَطْني، فالحوضُ لا يقول، وإنَّما ذلك عبارةٌ عن امتلائه أو أنَّه لو كان ممَّن يقول لقال ذلك، وقولهم: قالت الضِّفْدَعُ، وعلى هذين التأويلين يُحمل قوله تعالى: {وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق:30] واختصامهما هو افتخار بعضهما على بعضٍ ممَّن يسكنهما، فالنَّار تتكبَّر بمن أُلقي فيها مِن المتكبِّرين وتظنُّ أنَّها أبرُّ بذلك عند الله مِن الجنَّة، وفي أصول البُخَارِيِّ: (وَقَالتِ النَّارُ) ولم يذكر القول، وزِيدَ في بعض النُّسَخ: / <أُوثِرتُ بِالمُتَكَبِّرينَ> فادَّعى ابن بطَّالٍ أنَّه سقَطَ قول النَّار مِن هذا الحديث في جميع النُّسَخ، وهو محفوظٌ ((وقالت النَّار: أُوثِرْتُ بالمتكبِّرين والمتجبِّرين))؛ رواه ابن وَهْبٍ عن مالكٍ، عن أبي الزِّناد، عن الأعرج، عن أبي هُرَيرَةَ ☺ مِن رواية الدَّارَقُطنِيِّ. وتظنُّ الجنَّة ضدَّ ذلك؛ لقولها: (مَا لِي لاَ يَدْخُلُنِي إِلَّا ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَقَطُهُمْ). فكأنَّما أَشْفَقَت مِن إيضاع المسألة عند الربِّ تعالى، فحكَمَ تعالى للجنَّة بأنَّها رحمةٌ لا يَسكنها إلَّا الرُّحَماء مِن عباده، وحكم للنار بأنَّها عذابُهُ يُصيب بها مَن يشاء مِن المتكبِّرين، وأنَّه ليس لإحداهما فضْلٌ مِن طريقِ مَن يُسْكِنها اللهُ مِن خَلْقه، إذ هما اللَّتان للرَّحمة والعذاب ولكِنْ قد قُضي لهما بالملءِ مِن خَلْقه.
          فَصْلٌ: قوله: (وَيُنْشِئُ لِلنَّارِ خَلْقًا) يريد: مَن قدَّمنا أن يُلقى فيها ممَّن قد سبق له الشقاء ممَّن عَصَاه أَوْ كفر به، قاله المهلَّب. وقال غيره: يُنشئ الله لها خَلْقًا لَمْ يكن فِي الدُّنيا، قال: وفيه حُجَّةٌ لأهل السُّنَّة فِي قولهم: إنَّ لله تعالى أَنْ يعذِّبُ مَن يشاء، عَلَى مَن يقول: إنَّ الله تَعَالَى لو عذَّب مَن لَمْ يكلِّفهُ لكان ظالمًا _حاشاه_ وهذا الحَدِيْث حُجَّةٌ عليهم.
          قال أَبُو الحسن: لا أعلمُ فِي شيءٍ مِن الأحاديث أنَّه يُنشئ للنَّار إلَّا فِي هَذَا الحَدِيْث والمعروف أنَّه للجنَّة، ويَضع قَدَمه فِي جهنَّم.
          فَصْلٌ: وَقَوْلُهُ: (حَتَّى يَضَعَ فِيهَا قَدَمَهُ) قد سلف قريبًا بسط القول فِيْهِ.
          فَصْلٌ: قوله فِي حَديث أُسامةَ: (وَنَفْسُهُ تَقَلْقَلُ) أَيْ: تصوِّت وتتحرَّك وتَضطرِبُ، يُقال: قَلْقَلَهُ قِلْقَالًا. إِذَا كَسَرته كَاَنَ مصدرًا، وإذا فتحتَهُ كَاَنَ اسمًا مثل: الزِّلزال. والشَّنَّة بالفتح: القِرْبة الخَلِق، وكأنَّها صغيرةٌ، ذكره فِي «الصَّحاح».
          فَصْلٌ: فِيْهِ: أنَّهما مخلوقتان، وأنَّهما يَنفعلان، وأنَّ الأشياء توصف بالأكثر؛ لأنَّ الجنَّة قد يدخلُها مَن ليس بضعيفٍ، ويدخُلُ النَّار مِن ضُعفاء الأمم مَن شاء الله دخوله، والسَّقَط: الفقراء. قاله الدَّاودِيُّ. وفي «الصَّحاح»: السَّاقط والسَّاقطة: اللَّئيم فِي حَسَبهِ ونفسهِ، ولعلَّه إنَّما مثَّل به فِي الحَدِيْث عَلَى ما عَهِدوه أنَّ اللئيم ليس بجبَّارٍ، وإنَّما هُوَ ضعيفٌ مِسكينٌ.
          فَصْلٌ: اختُلف فِي معنى قول النَّار: ({هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق:30])، فقيل: هُوَ سؤالٌ للزيادة، وَهْوَ معنى الحَدِيْث، وقيل: إنَّما تقول: هل فيَّ مَزِيدٌ؟
          والسَّفْع: السَّواد. قاله الدَّاودِيُّ، وفي «الصَّحاح»: سَفَعْتُهُ النَّار والسَّمُوم إِذَا لَفَحَتْهُ لَفْحًا يسيرًا فغيَّرت لون البَشَرة.