التوضيح لشرح الجامع البخاري

إن لله مائة اسم إلا واحدًا

          ░12▒ بابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلعم: (إنَّ للهِ مائَةَ اسْمٍ إِلَّا وَاحِدًا، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الجَنَّةَ).
          قَالَ ابن عبَّاسٍ ☻: {ذُو الجَلاَلِ} [الرحمن:27]: العظَمَةِ، و{البَرُّ} [البقرة:177]: اللطيف.
          7392- ثُمَّ ساق حَديث أبِي هُرَيْرَةَ ☺: أنَّ رَسُول اللِه صلعم قَالَ: (إِنَّ للهِ تِسْعَةً وَ تِسْعِينَ اسْمًا مائَةً إِلَّا وَاحِدًا، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الجَنَّةَ). {أَحْصَيْنَاهُ} [يس:12]: حَفِظْنَاه.
          الشَّرح: الإحصاءُ فِي اللُّغة يُطْلَق بمعنى: الإحاطةُ بِعِلم عَدَد الشيء وقَدْرِه، ومنه: {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} [الجن:28]، هذا قول الخليلِ، وبمعنى: الإطاقة له؛ لقوله تعالى {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} [المزمل:20] أي لن تُطِيقوه. وقال ◙: ((استقيموا ولن تُحْصُوا)) أَيْ: لن تُطِيقوا العمل بكلِّ ما لله عليكم، والمعنى فِي ذَلِكَ كلِّه متقاربٌ، وقد يجوز أَنْ يكون المعنى: مَن أحصاها عَدَدًا وحِفْظًا وعِلْمًا بما يمكن عِلْمه مِن معانيها المستفادة منها عِلْم الصفات التي تفيدُها لأنَّ تحتَ وصفِنا لهُ بعالِمٍ إثباتُ عِلْمٍ له تَعَالَى لَمْ يزل موصوفًا به لا كالعلومِ، وتحتَ وصفِنا له بقادرٍ إثباتُ قُدْرةٍ لَمْ يزل موصوفًا بها لا كَقُدرةِ المخلوق، وكذلك القول فِي الحياة وسائر صِفاته، ويحتمل أيضًا أَنْ يكون المراد العمل بالأسماء والتعبُّد لمن سُمِّي بها.
          فإن قلت: كيف وجه إحصائها عملًا؟ قيل له: وجه ذَلِكَ أنَّ ما كَاَنَ مِن أسماء الله تَعَالَى كالرَّحيم والكريم والعفوِّ والغفور والشَّكُور والتوَّاب، وشَبهها، فإنَّ الله يحبُّ أَنْ يرى عَلَى عبدهِ حَلَاها، ويرضى له معناها، والاقتداء به فيها، فهذا العمل بهذا النوع مِن الأسماء.
          وما كَاَنَ منها لا يليق بالعبد معناها: كالله والأحد والقدير والجبَّار والمتكبِّر والعظيم والعزيز والقَويِّ، وشَبهها، فإنَّه يجب عَلَى العبد الإقرارُ بها والتذلُّل والإشفاق منها.
          وما كَاَنَ بمعنى الوعيد كشديد العِقاب، وعزيزٍ ذي انتقامٍ، وسريع الحِساب، وشبهها، فإنَّه يجب عَلَى العبد الوقوف عند أمره واجتناب نهيه، واستشعار خَشيته ╡ مِن أجلها خوفَ وعيدهِ وشديدِ عِقَابه. هَذَا وجه إحصائها عملًا، فهذا يَدخل الجنَّة إن شاء الله تَعَالَى.
          وقد نقل عَنْ الأَصِيليِّ أنَّه أشار إِلَى هَذَا المعنى فقال: الإحصاء لأسمائه تَعَالَى هُوَ العملُ بها لا عدُّها وحِفْظُها، فقال: إنَّه قد يعدُّها الكافر والمنافق وذلك غير نافعٍ له.
          قال ابن بطَّالٍ: ويوضِّحه قوله ◙ فِي صِفة الخوارج ((يقرؤون القرآنَ لا يُجَاوز حَنَاجِرهم يَمْرُقُون مِن الدِّين)) فبيَّن أنَّ مَن قرأ القرآن ولم يعمل به لَمْ تُرفع قراءته إِلَى الله ولا جاوز حُنْجرته، فلم يُكتب أجرُها وخاب مِن ثوابها، كما قال تَعَالَى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10]، يعني: أنَّ العمل الصَّالح يَرْفع الكَلِم الطَّيِّب إِلَى الله، وكما قال ابن مَسْعُودٍ: إنَّك فِي زمانٍ كثيرٌ فقهاؤه وقليلٌ قرَّاؤه، تُحْفَظ فِيْهِ حُدُود القرآن وتُضيَّع حروفه، وسيأتي عَلَى الناس زمانٌ قليلٌ فقهاؤه وكثيرٌ قرَّاؤه يُحفظ فِيْهِ حُرُوف القرآن وتُضَيَّعُ حُدُوده.
          فذمَّ مَن حَفِظ الحروف وضيَّع العمل ولم يَقِف عند الحدود، ومدَحَ مَن عمل بمعاني القرآن وإن لَمْ يحفظ الحروف، فدلَّ هَذَا عَلَى أنَّ الحِفظَ والإحصاءَ المندوبَ إليه هُوَ العمل، ويوضِّح هَذَا أيضًا ما كتب به عُمَر ☺ إِلَى عُمَّاله: إنَّ أهم أموركم عندي الصَّلاة، فمن حَفِظها وحَافَظ عليها حَفِظ دينه. ولم يُرِد عُمَر ☺ بحفْظِها إلَّا المبالغة فِي إتقان العمل بها مِن إتمام ركوعها وسُجُودها وإكمال حدودها، لا حِفْظَ أحكامها وتضييعِ العمل بها.
          وقد ذَكَرَ البُخَارِيُّ هَذَا الحَدِيْث فِي الأدعية بلفظٍ: ((لا يَحْفَظُها أحدٌ إلَّا دَخَلَ الجَنَّةَ))، وَهْوَ مفسِّرٌ لِمَا ذكره البُخَارِيُّ هنا من أَنَّ الإحصاء الحِفْظ، وقد أسلفنا هناك أنَّها توقيفيةٌ [خ¦6410].
          واختلف الأصوليُّون فِي تسميته بما له مِن تعظيمٍ بقياسٍ أَوْ خبرٍ، واختار بعضهم أنَّه لا يُسمَّى إلَّا بما سمَّى به نفسه أَوْ رسوله مِن طريقٍ متواترٍ لا آحادٍ يوجِبُ عليه الظنَّ أَوْ مِن ناحية الإجماع، واحتجَّ بقوله تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180] قَالَ: وقد قام الدَّليل عَلَى أنَّ الحُسن لا يُعلم بالعقل وإنَّما يُعلم بالسَّمع.
          وَقَوْلُهُ: (إِنَّ لله تِسْعَةً وَ تِسْعِينَ اسْمًا) أَيْ: تسميةً؛ لأنَّ الاسم هُوَ المسمَّى عند الأَشْعَريَّة، ولو أبقيناه عَلَى ظاهره لكان (للهِ تِسْعَةً وَ تِسْعِينَ اسْمًا) أَيْ: فقط، وليس كذلك كما سلف.