التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب قول الله تعالى: {فاقرؤوا ما تيسر من القرآن}

          ░53▒ باب قَوْلِ اللهِ تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل:20]
          7550- ذكر فِيْهِ حَديث عُمَر ☺: سمعتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيْمٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الفُرقَانِ فِي حَيَاةِ رَسُول اللهِ صلعم فَاسْتَمَعْتُ لِقِرَاءتِهِ، فَإِذَا هُوَ يَقْرَأُ عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرةٍ لَمْ يُقْرِئنِيهَا رَسُول اللهِ صلعم. الحَدِيث. وفِيْهِ: (إِنَّ هَذَاَ القُرآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ).
          وَقَد سَلَفَ فِي فضائل القُرآن وسلف مَا للعلماء فِيْهِ وتأويل السَّبعة أحرفٍ فراجعه [خ¦4992].
          معنى الآيَة: مَا تيسَّر عَلَى القلب حفظهُ مِن آياته وعَلَى اللِّسان مِن لُغاته وإعراب حركاته كما فسَّره الشارع فِي هَذَاَ الحَدِيث.
          فإن قلت: فإذا ثبتَ أنَّ القرآن نزل عَلَى سبعة أحرفٍ، فكيف ساغ للقرَّاء تكثير الآيات وإقراؤهم بسبعين روايةً وأزيد؟
          فالجواب: أنَّ عُثْمانَ ☺ لَمَّا أمر بكتابة المصاحف التي بعثَ بها إِلَى البلدان أخذ كلُّ إمامٍ مِن أئمَّة القرَّاء فِي كلِّ أفقٍ بنُسخةٍ، فما انفكَّ مِن سَوادها وحروف مِدَادها ممَّا وافق قراءته التي كَاَنَ يقرأ لَمْ يمكنه مُفَارقته لقيامه فِي سواد الخطِّ، وإن كَاَنَ عنده فِيه روايةٌ إِلَى أحدٍ مِن الصَّحابة مَعَ أنَّه لَمْ تكن النُّسخ التي بعثَ بها عُثْمانُ ☺ مضبوطةً بشكْلٍ لا يمكن تعدِّيه ولا تحقيق هِجَاءِ بعض معانيه؛ إِذ كانوا يَتسمَّحون فِي الهِجَاء بإسقاط الألف مِن كلمةٍ لعِلْمهم بها استخفافًا لكثرة تكريرها كألف العالمين والمساكين، وكلُّ ألفٍ هي فِي المُصْحَف ملحقةٍ بالحمرة.
          قال يَزِيدُ الرَّقَاشِيُّ: / كَاَنَ فِي المُصْحَف: {كانوا}: كنوا و{قالوا}: قلوا، فزدنا فيها ألفًا. يريد جماعة القرَّاء حين جمعهم الحجَّاج، وكذلك مَا زادوا فِي الخطِّ، وقد كَاَنَ فِي المصحف {مَاء غير يسنٍ} فردَّها الحجَّاج مَعَ جماعة القرَّاء {آسِنٍ}، وفي الزخرف: {معايشهم} فردَّها {مَعِيشَتَهُمْ}، فكلٌّ تأوَّلَ مِن ذَلِكَ الخطِّ مَا وافَقَ قراءته كيفما كَاَنَ مِن طريق الشَّكل وحركاتِ الحروفِ ممَّا يدلُّ المعنى.
          وقد يجوز أَنْ يكون ذَلِكَ مِن ذهل الأقلام، ويدلُّ عَلَى ذَلِكَ استجلابُ الحجَّاج مُصْحَف أهل المدينة وردِّ مَصَاحف البصرة والكوفة إليه وإبقاء مَا لا يغيِّر معنى وما له وجهٌ جائزٌ مِن وجوه ذَلِكَ المعنى.
          وصار خطُّ مُصْحف أهل المدينة سُنَّةً مُتَّبعةً لا يجوز فِيْهِ التغيير لأنَّها القراءة المنقولة سمعًا، وأنَّ الستَّة المتروكة قطعًا لذريعة الاختلاف مَا وافقَ منها المنفكَّ مِن شواهد الخطِّ لأهل الأمصار فتواطؤوا عليها، جوَّز لهم تأويلهم فِيْهِ بما وافقَ روايتهم عن صحابيٍّ؛ لخشية التحزُّب الَّذِي مِنْهُ هربوا، ولكثرة من اتَّبع القرَّاء فِي تلك الأمصار مِن العامَّةِ غير المأمور به عند مُنَازعتها، فهذا وجه تجويز العلماء أَنْ يقرأ بخِلاف أهل المدينة وبرواياتٍ كثيرةٍ.
          وأمَّا مَا ذُكر مِن قراءة ابن مَسْعُودٍ فهو تبديلُ كلمةٍ بأخرى كقوله: {صَيْحَةً وَاحِدَةً} [يس:49] قرأها: زَقْيةً واحدةً، و{بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} [الصافات:46] قرأها: صفراء لذَّةٍ للشاربين، فهذا تبديل اللَّفظ والمعنى.
          وكذلك أجمعتِ الأمَّة عَلَى ترك القراءة بها، ولو سمحَ فِي تبديل السَّواد لَمَا بقي مِنْهُ إِلاَّ الأقلُّ، لكنَّ الله تعالى حفظَهُ علينا مِن تحكُّم المتأوِّلين وتسلُّط أيدي الكائدين عَلَى تبديل حرفٍ بحرامٍ إِلَى حلالٍ، وحلالٍ بحرامٍ، وكلمة عذابٍ برحمةٍ، ورحمةٍ بعذابٍ، ونهيٍ بأمرٍ، وأمرٍ بنهيٍ، وأمَّا سوى ذَلِكَ ممَّا هُوَ جائِزٌ فِي كلام العرب مِن نصْبٍ وخفْضٍ ورفْعٍ ممَّا لا يُحيل معنًى ولا حرج فِيْهِ.
          وقد روى البَغَويُّ: حدَّثنا مُحَمَّد بن زِيَادٍ: حدَّثنا أبُو شِهَابٍ الحنَّاط، حدَّثنا داودُ بن أبي هِنْدٍ، عن عَمْرو بن شُعَيبٍ، عن أبيه، عن جدِّه قَالَ: جلس ناسٌ مِن أصحاب رَسُول اللهِ صلعم عَلَى بابه، فقال بعضهم: إنَّ الله قال فِي آيةِ كذا كذا، وقال بعضهم: لَمْ يقل كذا، فخرج رَسُول اللهِ صلعم كأنَّما فُقئ فِي وجهِهِ حبُّ الرُّمَّان وقال: ((أبهذا أُمرتم؟ إِنَّمَا ضلَّت الأُمم فِي مثل هَذَاَ، انظروا مَا أُمرتم به فاعملوا به، وما نُهيتم عنه فانتهوا)).
          فدلَّ هَذَاَ أنَّه لَمْ يكن فِي السَّبع التي نزل بها القُرآن مَا يُحيل الأمر والنَّهي عن مواضعه، ولا يُحِيل الصِّفات عن مواضعها لأنَّه مأمورٌ باعتقادها ومنهيٌّ عن قياسها عن المعاني؛ لأنَّه تعالى برئٌ مِن الأشباه والأنداد، وَبَقِيت حَرَكات الإعراب مستعملةً لِمَا انفكَّ مِن سواد الخطِّ فِي المجتمَع عليه، وعلى هَذَاَ استقرَّ أمر الإعراب عند العلماء.