التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب قول الله تعالى: {ولقد يسرنا القرآن للذكر}

          ░54▒ باب قَوْلِ اللهِ تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17]
          وقال صلعم: (كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَاَ خُلِقَ لَهُ). يُقَالُ: مُيَسَّرٌ: مُهَيَّأٌ.
          وقال مُجَاهِدٌ: يسَّرنا القُرآن للذِّكر بلسانكَ: هَوَّنَّا قِرَاءَتَهُ عليك.
          وَقَالَ مَطَرٌ الوَرَّاقُ: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17] قَالَ: هَلْ مِنْ طَالِبِ عِلْمٍ فَيُعَانَ عَلَيْهِ.
          7551- ثُمَّ ساق حَديث عِمْرَانَ ☺: قُلْتُ: يَا رَسُول اللهِ، فِيمَ يَعْمَلُ العَامِلُونَ؟ قَالَ: (كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَاَ خُلِقَ لَهُ).
          7552- وَحَدِيث عليٍّ ☺: أَنَّهُ ◙ كَاَنَ فِي جَنَازَةٍ فَأَخَذَ عُودًا فَجَعَلَ يَنْكُتُ فِي الأَرْض فَقَالَ: (مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ أَوْ من الجَنَّةِ) قَالُوا: أَلا نَتَّكِلُ؟ قَالَ: (اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى} [الليل:5]).
          الشَّرح: قد سلف الكلام فِي معنى هذه الأحاديث فِي كتاب: القدر فراجعه [خ¦6596]، وتيسير القُرآن للذِّكر: تسهيله عَلَى اللِّسان ومسارعته إِلَى القراءة حَتَّى إنَّه ربَّما سبق اللِّسان إليه فِي القراءة فيجاوز الحرفَ إِلَى مَا بعده وتُحذف الكلمة حِرصًا عَلَى مَا بعدها.
          وَقَوْلُهُ: ({فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17]) أي: متفكِّرٍ ومتدبِّرٍ لِمَا يقرأ ومُستيقِظٍ لِمَا يَسمع، فأمرهم أَنْ يَعتبروا وحذَّرهم أَنْ ينزل بهم مَا نزل بمَن هَلَك مِن الأمم قبلهم، وأصله: مذتكرٌ مُفْتَعِلٌ مِن الذِّكْر، أُدغمت الذال فِي التاء ثُمَّ قُلبت دالًا، وأُدغمت الذال فِي الدَّال؛ لأنَّها أشبه بالذال مِن التاء.
          فَصْلٌ: قَوْلُهُ: (مُيَسَّرٌ لِمَاَ خُلِقَ لَهُ) قد أسنده فيما مضى ويأتي.
          وَقَوْلُ مُجَاهِدٍ أخرجه وَرْقَاءُ عن ابن جُرَيجٍ عنه.
          وأثر مطرٍ أخرجه الحاكم فِي «مدخله إِلَى معرفة الإكليل»، حدَّثنا أحمدُ بن مُحَمَّدٍ، حدَّثنا عُثْمانُ بن سَعِيدٍ الدَّارمِيُّ، حدَّثنا يزيدُ بن مَوْهَبٍ، حدَّثنا ضَمْرةُ بن رَبِيعةَ، عن ابن شَوْذَبٍ، عن مَطَرٍ به، أنبأنا أبُو النُّون الدَّبُوسِيُّ، عن ابن المُقَيَّر عن الحافظِ السَّلَامِيِّ إجازةً عن زَاهِرٍ الشَّحَّامِيِّ، عن البَيْهَقِيِّ، عن الحاكم به.
          فَصْلٌ: الجَنازة بفتح الجيم وكسرها، والكَسر للسَّرير، والفتح للميِّت، قاله أبُو عُبَيدٍ، وقال غيره عكسه، وقال الهَرَويُّ: يُقال بالفتح والكسر وقد سلف ذَلِكَ غير مرَّةٍ، وفي «الصَّحاح»: الجِنازة واحدةُ الجنائز، قَالَ: والعامَّة تقول: واحد الجَنازة بالفتح، قَالَ: والمعنى للميِّتِ عَلَى السرير فَإِذَا لَمْ يكن عليه ميِّتٌ فهو سريرٌ ونَعْشٌ.
          وَقَوْلُهُ: (فَجَعَلَ يَنْكُتُ) هو بضمِّ الكاف أي: يضرِبُ فِي الأَرْض فيؤثِّر فيها.
          وَقَوْلُهُ: / ({فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} الآية [الليل:5])، قال ابن عبَّاسٍ ☻: {وَصَدَّقَ بِالحُسْنَى} [الليل:6]: بالخَلَفِ، وقال مُجَاهِدٌ: بالجنَّة، وقال عَطَاءٌ: بلا إله إِلاَّ الله.
          وروى مُحَمَّد بن إسحاقَ: أنَّ هَذَاَ القول فِي أبي بكرٍ الصِّدِّيق ☺، ومعنى لليُسرى: للحال اليُسرى، وَقَوْلُهُ: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ} هُوَ أبُو سُفْيَان.
          فَصْلٌ: لا بأس أَنْ نذكر طرفًا ممَّا أسلفناه عَلَى حَديث عُمَر مَعَ هِشَامٍ ☻ السَّالف فِي الباب قبلَه [خ¦7550].
          قال بعض العلماء: الخِلاف الَّذِي وقعَ بينهما غير معلومٍ، وقيل: ليس فِي السُّورة عند القرَّاء اختلافٌ فيما يَنْتَقِص فيها مِن كُتُب المُصْحَف سوى قوله تعالى: {وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا} [الفرقان:61] وقُرئ: {سُرُجًا} عَلَى أنَّه جمع سِرَاجٍ وباقي مَا فيها مِن اختلاف القراءة لا يُخالِف خطَّ المُصْحَف.
          فَصْلٌ: ممَّا أسلفنا هناك مِن الأحرف السبعة: القِرَاءات، قاله الخليل. أَوْ سبعةُ أنحاءٍ كلُّ نحو منها جُزْءٌ مِن أجزاء القُرآن لا نحا غيره، وذهبوا إِلَى أنَّ كلَّ حرفٍ منها صِنْفٌ مِن الأصناف نحو قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ} [الحج:11] أي: نوعٍ مِن الأنواع التي يُعبد عليها، فمنها مَا هُوَ محمودٌ، ومنها مَا هُوَ بخِلاف ذَلِكَ، مرادُه أنَّ منها زجرًا وأمرًا وحلالًا وحرامًا ومُحْكمًا ومُتَشابهًا وأمثالًا، أَوْ سبع لغاتٍ مُفترَقات فِي القُرآن عَلَى لُغاتِ العرب كلِّها يمنِها ونزارِها؛ لأنَّه ◙ لَمْ يَجهل شيئًا منها فكان أُوتي جوامع الكَلِم، وَهَذَا قول أبي عُبَيدٍ فِي تأويل هَذَاَ الحَدِيث.
          وقيل: هذه اللُّغة السَّبعة فِي مُضَر، ودليل ذَلِكَ قول عُثْمانَ ☺: نزل القُرآن بلسان مُضَرَ. وقبائلُ مُضَرَ: كِنَانةُ وأسدٌ وهُذَيلٌ وتميمٌ وضَبَّةُ وقيسٌ فهي سبعُ قبائلَ تستوعب سبعَ لُغَاتٍ، وأنكر آخرون أَنْ تكون كلٌّها في مُضَر، وقالوا: فِي مُضَر شواذٌّ لا يجوز قراءة القُرآن بها مثل كَشْكَشة قيسٍ، وعَنْعَنة تميمٍ، وكَشْكَشة قيسٍ يجعلون كاف المؤنَّث شينًا، يقولون: يَا هذه ادعي لي ربِّش: أي: ربِّك، وعَنْعَنة تميمٍ يقولون فِي أن: عن، وبعضهم يُبْدِل السِّين تاءً فيقولون فِي النَّاس: النَّات.
          وأنكر أكثر العلماء أنَّ معنى سبعةِ أحرفٍ: سبع لُغاتٍ؛ لأنَّه لو كان كذلك لم ينكر القوم في أوَّل الأمر بعضهم على بعض لأنَّه مَن كَاَنَت لُغته شيئًا قد حُملَ عليها لَمْ يُنكر عليه، وفي فِعل عُمَر ☺ دليلٌ، لأنَّ عُمَر ☺ قُرَشيٌّ عَدَويٌّ، وهِشَامُ بن حَكِيمٍ قُرَشيٌّ أَسَدِيٌّ، ومُحَالٌ أَنْ يُنكر عُمَر لُغَته، كما مُحَالٌ أَنْ يُقرئ أحدًا بغير مَا يَعْرفه مِن لغتهِ.
          والأحاديث الصِّحاح بمثل خبر عُمَر ☺. وقالوا: معنى سبعة أحرفٍ أي: أوجهٍ مِن المعاني المتَّفقة المتقاربة بألفاظٍ مختلفةٍ نحو: أقبِل وَتَعَال وهلمَّ.
          وذكر الشيخ أبُو الحسن فِي «تمهيده»: إجازة مالكٍ القراءةَ بما رُوي عن عُمَرَ ☺: {فامضوا إِلَى ذكر الله}، ولم يقرأه أحدٌ مِن القرَّاء الَّذِين ذكرهم ابن مُجَاهِدٍ، ثُمَّ قَالَ: ليس معنى قول مالكٍ هَذَاَ الإطلاق أن تُتَّخذ القراءة فهذا سنَّة. إِنَّمَا معناه: لا حرَجَ عَلَى مَن قرأ بشيءٍ قد قرئ به.
          وقيل: أراد مالكٌ لا بأس أَنْ يقرأ الإمام عَلَى المعنى ليبيِّنَ معنى {فاسْعَوا}.
          وقيل: إِنَّمَا جاز لهم ذَلِكَ فِي وقتٍ خاصٍّ للضَّرورة؛ وذلك أنَّه كَاَنَ يشقُّ عَلَى مَن له لغةٌ أن يتحوَّل عنها، فوسَّعَ لهم اختلاف اللَّفظ مَعَ اتِّفاق المعنى حَتَّى كَثُر مَن كتبَ منهم، وعَادَت لغاتهم إِلَى لسان رَسُول اللهِ صلعم فارتفع حُكم السَّبعة الأحرف.
          ورُوي عن ابن زِيَادٍ عن مالكٍ فِي معنى سبعة أحرفٍ قَالَ: هُوَ مثل: {وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} {غَفُورًا رَحِيمًا}، ونحو هَذَاَ يقول: يقرأ مكانَ هَذَاَ مَا لَمْ يجعل آيةَ رحمةٍ آيةَ عذابٍ.