التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب قول الله تعالى: {والله خلقكم وما تعملون}

          ░56▒ باب قَوْلِ اللهِ تَعَالى: {وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96] {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49].
          وَيُقَالُ لِلمُصَوِّرِينَ: (أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ).
          {إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} الآية [الأعراف:54].
          قَالَ ابن عُيَيْنَةَ: بَيَّنَ اللهُ الخَلْقَ مِنَ الأَمْرِ لِقَوْلِهِ: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف:54]. وَسَمَّى النَّبِيُّ صلعم الإيمانَ عَمَلًا.
          وَقَالَ أبُو ذّرٍّ وَأبُو هُرَيْرَةَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صلعم: أيُّ الأعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: (إِيْمَانٌ بِاللهِ وَجِهَادٌ فِي سَبِيْلِهِ). وَقَالَ: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17].
          وَقَالَ وَفْدُ عَبْدِ القَيْسِ لِلنَّبِيِّ صلعم: مُرْنَا بِجُمَلٍ مِنَ الأَمْرِ إِنْ عَمِلْنَاَ بِهَا دَخَلنَا الجَنَّةَ، فَأَمَرَهُمْ بِالإِيمَانِ وَالشَّهَادَةِ، وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيْتَاءِ الزَّكَاةِ، فَجَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ عَمَلًا.
          7555- ثُمَّ ساق حَديث أبي موسى ☺ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلعم فِي نَفَرٍ مِنَ الأشْعَرِيِّينَ نَسْتَحْمِلُهُ، فقَالَ: (وَاللهِ لاَ أَحْمِلُكُمْ). وذكر الحَدِيث إِلَى قَوْلُهُ: (لَسْتُ أَنَا حَمَلْتُكُم، وَلِكَنَّ اللهَ حَمَلَكُمْ..) إِلَى آخره.
          7556- ثُمَّ ساق حَديث ابن عبَّاسٍ ☻ فِي وفد عبد القَيْسِ بطوله.
          7557- وَحَدِيث عائِشَة ♦: أنَّه ◙ قَالَ: (إِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّور يُعَذَّبُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَيُقَالُ لَهُم: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ).
          7558- وَحَدِيث ابن عُمَر ☻ مرفوعًا مثله.
          7559- وَحَدِيث أبِي هُريرَة ☺: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلعم يَقُولُ: (قالَ اللهُ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي، فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً أَوْ لِيَخْلُقُوا حَبَّةً أَوْ شَعِيْرَةً).
          الشَّرح: قوله تعالى: ({وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}) [الصافات:96] قيل: أي: ما تعملون مِنْهُ الأصنام، وهي: الخَشَبُ والحجارة وغيرهما. وَقَالَ قَتَادَة: وما تَعْمَلُون بأيديكم.
          وقيل: يجوز أَنْ تكون (مَا) نفيًا أي: وما تَعْمَلون لكنَّ اللهَ خالقهُ، و يجوز أَنْ تكون مصدريَّةً أي: وعملكم، ويجوز أن تكون استفهامًا بمعنى التَّوبيخ.
          وغرضه فِي هَذَاَ الباب إثباتُ أفعال العِباد وأقوالهم خَلْقًا لله كسائر الأبواب المتقدِّمة، واحتجَّ بالآية المذكورة ثُمَّ فصَلَ بين الأمر بقوله للشيء: كُن وبين خَلْقه؛ قطعًا للمعتزلة القائلين بأنَّ الأمر هُوَ الخَلْق، وأنَّه إِذَا قال للشيء: كُن. معناه: أنَّه كَوَّنه، نفيًا منهم للكلامِ عن الله تعالى خِلافًا لقوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164]، وَقَد سَلَفَ بيان الردِّ عليهم فِي باب المشيئة والإرادة [خ¦7464]، ثُمَّ زاد فِي بيان الأمر، فَقَالَ تعالى: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} [الأعراف:54] فجعل الأمر غير خَلْقه لها وغير تسخيرها الَّذِي هُوَ عن أمره، ثُمَّ ذكر قول ابن عُيَينة أنَّه فَصْلٌ بين الخَلْق والأَمْر، وجعلهما شيئين بإدخاله حرف العطف بينهما، والأمرُ مِنْهُ تعالى قولٌ، وَقَوْلُهُ صِفةٌ مِن صِفاته غير مخلوقٍ.
          ثُمَّ بيَّن لكَ أنَّ قول الإنسان بالإيمان وغيره قد سمَّاه الشارع عملًا حين سُئل: أيُّ الأعمال أفضلُ؟ فَقَالَ: (إِيمَانٍ بِاللهِ) والإيمان: قولٌ باللِّسان، واعتقادٌ بالجَنان، وعملٌ بالجَوَارح، وكذلك أَمْره وفد عبد القيس لَمَّا سألوه أن يدلَّهم عَلَى مَا إنْ عَمِلوه دخلوا الجنَّة، فأمرهم بالإيمان بالقلب والشهادة باللِّسان وسائر أعمال الجوارح، يثبت أنَّ كلام ابن آدمَ بالإيمان وغيره عَمَلٌ مِن أعماله / وفِعْلٌ له، وأنَّ كلام الله سبحانه وتعالى المنزَّل بكلمة الإيمان غير مخلوقٍ، ثُمَّ بيَّن لك أنَّ أعمالَنا كلَّها مخلوقةٌ له تعالى خِلافًا للقَدَريَّة الَّذِين يزعُمُون أنَّها غير مخلوقةٍ لله تعالى بقوله فِي حَديث أبي مُوسَى ☺: (لَسْتُ أَنَا حملتكُمْ) عَلَى الإبل، بعد أن حَلَف لهم أنَّ مَا عندي مَا أحملكم عليه، وإنَّما الله الَّذِي حَمَلَكم عليها ويسَّرها لكم، فأثبت ذَلِكَ كلَّه فعلًا لله تعالى، وَهَذَا بيِّنٌ لا إشكالَ فِيْهِ.
          وأمَّا قوله فِي حَديث عائِشَة ♦: (يُقَالُ لِلْمُصَوِّرِيْنَ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ) فإنَّما نسبَ خَلْقها إليهم، توبيخًا لهم وتقريعًا لهم فِي مُضَاهاتهم الله تعالى فِي خَلْقه فبكَّتهم بأنْ قال لهم: فإذ قد شبَّهتم مخلوقات الله تعالى فأَحْيُوا مَا خَلَقتم كما أحيا هُوَ تعالى مَا خلقَ فينقطعون بهذه المطالبة حَتَّى لا يستطيعون نفْخَ الرُّوح فِي ذَلِكَ.
          ومثل هَذَاَ قول أبي هُريرَة ☺: (قالَ اللهُ تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي) يريد: يصوِّر صورةً تُشبه خَلْقي، فسمَّى فعل الإنسان فِي تصوير مثالها خلقًا له؛ توبيخًا له عَلَى تشبُّهه بالله تعالى فيما صوَّر وأحكم وأتقنَ عَلَى غير مِثالٍ احتذاه، ولا مِن شيءٍ قديمٍ ابتدأه، بل أنشأ مِن معدومٍ وابتدعَ مِن غير معلومٍ، وأنتم صوَّرتم مِن خَشَبٍ موجودٍ، وحَجَرٍ غير مفقودٍ، عَلَى شَبَهٍ معهودٍ، مُضَاهين له ومُوهِمين الأغمار أنَّكم خَلَقْتم كَخَلْقِه، فاخلقوا أقلَّ مخلوقاتهِ وأحقرها الذَّرة المتغذِّيَّةِ فِي أدقِّ مِن الشَّعر، وأنفذَ منكم بغير آلةٍ فِي نحْتِ الحجر فتتَّخِذَه مسكنًا وتدخَّر فِيْهِ قُوتها نظرًا فِي معايشها، أَوْ اخلقوا حبَّةً مِن هذه الأقوات التي خَلَقها الله تعالى لعباده ثُمَّ يخرج منها زرْعًا لا يُشبهها نباتُهُ، ثُمَّ يُطلع منها بِقُدْرَتهِ مِن جِنسها بعد أن أعدمَ شخصها عددًا مِن غير نوع نباتها الأخضر قُدْرةً بالغةً لمعتَبِرٍ، وإعجازًا لجميع البشر.
          فَصْلٌ: قال الدَّاودِيُّ: قال فِي القَدَر طائفتان: طائفةٌ تقول: الله سبحانه ليس له فِي العِباد شيءٌ، واختلف هؤلاء: أهل عَلِمَ اللهُ أفعالَ العِباد قبلَ أن يَخْلُقهم؟ وقال عبد الصَّمد ابن أخت عبد الواحد فِي طائفةٍ يسيرةٍ وهم المعتزلة المُحضُ: إنِّ الله تعالى خلقَ العِباد وخلق أفعالهم، ودليلهم هذه الآيَة وغيرها.
          قال بعض الجَهَلَة: إِنَّمَا عَمَلُ الصَّانع فيها النحت، وَهْوَ الَّذِي أخبر الله تعالى أنَّه خَلَقهم وخَلَق أعمالهم. وخَالَفَت القَدَريَّة أهل الحقِّ، وذلك أنَّ القَدَريَّة يقولون: الاستطاعة قبل الفِعل، وقالت أهل السُّنَّة: الاستطاعة معه؛ لأنَّه إِذَا شغل نفسه بالترك لَمْ يستطع أَنْ يَفعل شيئًا وضدَّه، وإذا أخذ فِي الفعل فارقَ التَّرك وكانت الاستطاعة مَعَ الفعل، ووقَّت الله تعالى الأوقات؛ إذ خَلَق أوَّلها ولم تكن مؤقَّتةً فِي الأزل إِلاَّ مِن حين أُقِّتت لَمْ يكن لها فِي الأزل مُؤقِّتًا، ولو كَاَنَ ذَلِكَ لكان الصَّانع مُحدَثًا تعالى عن ذَلِكَ.
          وقوله للمُصَوِّرين: (أحيوا مَا خلقتم) فإنَّما للمُصَوِّرين الصَّنعة ليس خلق الأجسام، وقد سبق عن ابن عُيَينة: (بيَّن الله الخَلْق مِن الأمر)، يريد: أنَّ الخلق هُوَ المخلوق، والأمرُ كلامه تعالى وليس بمخلوقٍ، وَهْوَ قَوْلُهُ: كن، وقيل: هُوَ مثل قَوْلُهُ: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن:68] وقيل: المعنى: وتصريف الأمر.
          وقيل: (الخَلق): كلُّ شيءٍ خُلق، و(الأَمْر): يعني: قضاءه فِي الخلق الَّذِي هُوَ فِي اللَّوح المحفوظ، وقيل: (الخَلق) الدُّنيا، و(الأَمرُ) الآخرة.
          فَصْل: والدَُِّجاج مثلَّث الدَّال كما سلف، ومعنى (قَذِرْتُهُ): كَرِهته، والنَّفر: مِن ثلاثة إِلَى عشرةٍ.
          وَقَوْلُهُ: (غُرِّ الذُّرَى): أي: بِيضُ أعلى السَّنام منهنَّ، فغرُّ جمع: أَغَرٍّ، وذُرَى جمع: ذُرْوَةٍ.
          فَصْلٌ: و(أَبوُ جَمْرَةَ): بالجيم والراء. و(وَفْدُ عَبْدِ القَيْسِ): هم ربيعةُ وهم يجتمعون مَعَ مُضَر فِي نزارٍ، هما أخوانِ.