التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب كلام الرب يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم

          ░36▒ باب كَلامِ الرَّبِّ ╡ يَوْمَ القِيَامَةِ مَعَ الأنبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ.
          ذكر فِيْهِ عدَّة أحاديث:
          7509- حَدِيْث حُمَيدٍ عن أنسٍ ☺ فِي الشَّفاعة مُخْتَصرًا، وفِيْهِ: (مَنْ كَاَنَ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى شَيءٍ) فَقَالَ أَنَسٌ ☺: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَصَابِعِ رَسُوْل اللهِ صلعم. ثُمَّ سَاقه مطوَّلًا.
          7511- وَحَدِيْث عَبِيدَةَ، عَنْ عَبْد اللهِ ☺ قَالَ: قَالَ رَسُوْل اللهِ صلعم: (إِنَّ آخِرَ أَهْلِ الجَنَّةِ دُخُولًا الجَنَّةَ، وآخِرَ أهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنَ النَّار). الحَدِيْث وقد سَلَف [خ¦6571].
          7512- وَحَدِيْث عَدِيِّ بن حاتِمٍ ☺: (مَا مِنْكم مِنْ أَحَدٌ إِلا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ) الحَدِيْث.
          ذكره من حَديث الأعْمَش، عَنْ خَيْثَمَةَ، عَنْ عَدِيٍّ، ثُمَّ قَالَ: قَالَ الأعْمَشُ: وَحَدَّثَنِي عَمرُو بْنُ مُرَّةَ، عَنْ خيْثَمَةَ مِثْلَهُ، بزيادة: (وَلَو بِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ).
          7513- وَحَدِيْث عَبِيدَةَ، عَنْ عَبْد اللهِ ☺: (جَاَءَ حَبْرٌ مِنَ اليَهُودِ فَقَالَ: إِنَّهُ إذَا كَاَنَ يَوْمَ القِيَامَةِ جَعَلَ اللهُ السَّمَواتِ عَلَى أِصْبَعٍ). الحَدِيْث وقد سَلَف [خ¦4811].
          7514- وَحَدِيْث صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ ابن عُمَرَ ☻: كَيْفَ سَمِعْتَ رَسُوْل اللهِ صلعم يَقُولُ فِي النَّجْوى؟ فَقَالَ: (يَدنُو أَحَدُكُمْ مِنْ رَبِّهِ تعالى حتَّى يَضَعَ عَلَيْهِ كَنَفَهُ فَيَقُولُ: أَعَمِلْتَ كَذَا وَكَذَا؟) الحَدِيْث.
          ساقه عن مُسَدَّدٍ، حدَّثنا أبُو عَوَانَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ صَفْوَانَ به.
          ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ آَدَمُ: حدَّثنا شَيْبَانُ، حدَّثنا قَتَادَةُ، حدَّثنا صَفْوَانُ، عَنِ ابن عُمَرَ ☻: سَمِعْتَ النَّبِيَّ صلعم.
          الشَّرْح: قد قدَّمنا إثبات كلام الربِّ جلَّ جلاله مَعَ الملائكة المشاهدة له، وأثبت فِي هَذَا الباب كلامَهُ مَعَ النبيِّين يوم القيامة بخِلاف ما حَرَمهم إيَّاه فِي الدُّنيا لحِجَابه الأبصار عن رُؤيته فيها، فيرفع فِي الآخرة ذلك الحِجَاب عن أبصارهم، ويكلِّمُهم عَلَى حال المشاهدة، كما قال ◙: ((ليس بينه وبينه تُرْجُمَانٌ)).
          وجميع أحاديث الباب فيها كلام الربِّ جلَّ جلاله مَعَ عباده، ففي حَديث الشَّفاعة قوله لمُحَمَّدٍ صلعم: ((أخرجْ مِن النَّار مَن فِي قلبه مِثْقال حبَّةٍ مِن خَرْدَلٍ مِن إيمانٍ)) إِلَى قوله: (وَعِزَّتي وجلالي لأخرجنَّ منها مَن قَالَ: لا إله إلَّا الله) فهذا كلامه لرسولهِ بدليل قوله: (فأستأذنُ عَلَى ربِّي) وفي بعض طُرُق الحَدِيْث: ((فإِذَا رأيته أَخِرُّ له ساجدًا)).
          وكذلك قوله في حَدِيْثِ: آخِرُ مَن يدخل الجنَّة، قوله / تَعَالَى له: (ادْخُلِ الجنَّة، فيقول: ربِّ الجَنَّة مَلْأى) إِلَى قوله: (لَكَ مِثلُ الدُّنيا عَشرَ مَرَّاتٍ)، فأثبتَ بِذَلِكَ كلامه تَعَالَى مَعَ غير الأنبياء مشافهةً ونظرهم إليه، وكذلك حَديث النَّجوى يُدنيه الله تَعَالَى مِن رحمتهِ وكرامتهِ، ويقول له: ((سترتُها عليك فِي الدُّنيا وأنا أغفرها لك اليوم)) عَلَى الانفراد عن النَّاس.
          وقد أوضحنا الكلام فِي النَّجوى فِي كتاب الأدب، فِي باب ستر المؤمن عَلَى نفسه، فراجعه [خ¦6070].
          فَصْلٌ: قوله: (إذَا كَاَنَ يَوْم القِيَامَةِ شَفِعتُ، فقلت: يَا ربِّ، أدخل الجنَّة مِن كَانَ فِي قلبِهِ خَرْدَلَةٌ) فِيْهِ كلام الأنبياء معه لا كلامه هُوَ.
          وقوله: (ثُمَّ أَقُولُ أَدْخِلِ الجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى شَيْءٍ) كذا هُوَ فِي الأُصُول وعزاه ابن التِّين إِلَى رواية أبي ذرٍّ، وصدَّرَ أوَّلًا بقوله: <ثُمَّ نَقُولُ: أَدخِلِ الجنَّة> قَالَ: ورُوِّيناه بالنون ولم نعلم مَن رواه بالياء قَالَ: فإن كَاَنَ رُوي بالياء فيكون الحَدِيْث مطابقًا للتبويب ((ثُمَّ يقول الله))، وتخرج معارضة أبي جعفرٍ الدَّاودِيِّ أنَّ القائل هُوَ رَسُوْل اللهِ صلعم قال _أعني الدَّاودِيَّ_: وقوله: ((يَقُوْلُ النَّبِيُّ)) ليس فِي أكثر الروايات إِنَّمَا فيها أنَّ الله تَعَالَى أمرَهُ أَنْ يُخرج مَن كَاَنَ فِي قلبه، وزاد هنا: (أَدْنَى شَيْءٍ).
          وقول أنسٍ ☺: (كَأنِّي أنظر إِلَى أصابِعِ رَسُوْل اللهِ صلعم)، يعني بقوله: (أَدْنَى شَيْءٍ)، وكأنَّه يضمُّ أصابعَهُ ويشير بها.
          فَصْل: وقوله فِي الحَدِيْث المطوَّل، أعني مَعْبَدَ بْنُ هِلاَلٍ العَنَزِيَّ قَالَ: (اجْتَمَعْنَا نَاسٌ مِنْ أَهْلِ البَصْرَةِ فَذَهَبْنَا إِلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَذَهَبْنَا مَعَنَا بِثَابِتٍ إِلَيْهِ يَسْأَلُهُ لَنَا عَنْ حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ فإِذَا هُوَ فِي قصره).
          فِيْهِ: أن يقدَّم الرجل الَّذِي هُوَ مِن خاصَّةِ العالم يسألُهُ.
          وفِيْهِ: إباحة القُصُور لمن كَثُرت ذُرِّيتُهُ.
          وقوله: (إِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ مَاجَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ) أَيْ: اختلطوا، وَمِنْهُ: ماجَ البحْرُ: اخْتَلَطَت أمواجُهُ، وَهَذَا اللفظ مزيدٌ فِي هَذَا الحَدِيْث، وقال هنا: (لَسْتُ لَهَا)، وفي موضعٍ آخر: ((لستُ هُنَاكم))، وأسقط هنا ذكر نوحٍ وزاد فأقول: (أَنَا لَهَا)، وزاد هنا فيقول: (يَا رَبِّ، أُمَّتِي أُمَّتِي) وليس هُوَ فِي أكثر الروايات، قَالَ الدَّاوُدِيُّ: ولا أراه محفوظًا؛ لأنَّ الخلائق اجتمعوا واستشفعوا ولو كَانَت هَذِه الأمَّة لَمْ تذهب إِلَى غير نبيِّها، وأوَّلُ هَذَا الحَدِيْث ليس متَّصِلًا بآخره مِن قوله: (اشْفَعْ تُشَفَّعْ)، مَعَ ذكر أكثرِ أمورِ الآخرة، وإنَّما أتى فِيْهِ بأوَّل الأمرِ وآخره، بقي فِيْهِ: ((لتذهَبْ كلُّ أمَّةٍ مَعَ مَن كَانَت تعبدُ)). وبقي حَديث النَّجوى، وَحَدِيْث: ((يُؤتى بجهنَّم))، وَحَدِيْث ذكر الموازين والصِّراط وسائر الصُّحف والخصام بين يدي الربِّ جلَّ جلاله، وأكثر أمورِ يَوْم القِيَامَةِ هي فيما بين أوَّل هَذَا الحَدِيْث وآخره، وزاد: (فَأَقُولُ: يَا رَبِّ ائْذَنْ لِي فِيمَنْ يقولُ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللهُ).
          وقوله: (لَوْ مَرَرْنَا بِالحَسَنِ وَهُوَ مُتَوَارٍ) أَيْ: مستترٌ.
          وقوله: (هِيهْ) هي كلمةُ استزادةٍ للكلام، عن صاحب «العين»، قال ابن التِّين: قرأناه بكسر الهاء مِن غير تنوينٍ، ومعناه: زدْ مِن هَذَا الحَدِيْث، والهاء بدلٌ مِن الهمزة كما أُبدلت فِي هَرَاق وأصله أَرَاق.
          وقال الجَوْهَرِيُّ عن ابن السَّرِيِّ: إذَا قلت: إيه يَا رجل _يريد بكسر الهاء غير منوَّنةٍ_ فإنَّما تأمره أَنْ يزيدك مِن الحَدِيْث المعهود، كأنَّك قلت: هاتِ الحَدِيْث، وإن نوَّنت كأنَّك قلت: هات حديثًا ما، لأنَّ التنوين تنكيرٌ، فأما إذا أسكته قلت: إيْهًا عنَّا، وإذا أردت التبعيد قلت: أَيْهًا بفتح الهمزة بمعنى هيهات.
          وأمَّا قول ذي الرُّمَّة:
وَقُمْنَا فَقُلْنَا إيهِ عَنْ أُمِّ سَالِمٍ                     وَمَا بال تَكْلِيم الدِّيَارِ البَلَاقِعِ
          فإنه أراد إذًا التنكير فتركه للضَّرورة، وقيل: إِنَّمَا تركه لأنَّه نوى الوَقْف.
          وقوله: (وَهُوَ جَمِيعٌ) أَيْ: مجتمِعٌ، أراد أنَّه كَاَنَ حينئذٍ شابًّا، قَالَ الجَوْهَرِيُّ: الرَّجُل المجتمِع الَّذِي بلَغَ أشُدَّه، ولا يُقال ذَلِكَ للأنثى.
          وقوله: (مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةً) مذْ ومنْذ يصحُّ أَنْ يكونا حرفا جرٍ، ويصحُّ أَنْ يكونا اسمَين؛ فيُرفع ما بعدهما عَلَى التأريخ أَوْ عَلَى التوقيت، تقول فِي التأريخ: ما رأيته منذ يوم الجمعة، أَيْ: أوَّل انقطاع الرُّؤية يوم الجُمُعة، وفي التوقيت: ما رأيته مذْ سنةٍ، أَيْ: أمدَ ذَلِكَ سنة، وناسٌ يقولون: منذ فِي الأصل كلمتان: مِنْ إِذْ، جعلناها واحدةً، ولا دليلَ عَلَى صِحَّة ذَلِكَ، كما قاله في «الصَّحاح».
          فَصْلٌ: قوله: (رَجُلٌ يَخْرُجُ حَبْوًا) قَالَ الجَوْهَرِيُّ: حَبَا الصَّبيُّ على رُكْبَتيهِ إذَا زَحَف وليس هَذِه الكلمة فِي أكثر الأحاديث، ورُوِّيناه منوَّنًا عَلَى أنَّه مصدرٌ.
          فَصْلٌ: وقوله: (وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ) أَيْ: أيسر وَهْوَ ذات الشِّمال.
          وقوله: (ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ بِيَدِهِ) أَيْ: يحرِّكنَ بيدِهِ، يُقَالُ: هَزْهَزهُ أَيْ حرَّكه، وتَهَزْهَزَ.
          ورُوي: (فَيَهُزُّهُنَّ) أَيْ: يُحَرْكُهنَّ، والنَّواجِذُ بين النَّاب والضِّرس، قاله ابن فارسٍ. قَالَ: قيل: الأضراس كلُّها نَوَاجِذٌ.
          وقال الهَرَويُّ: اختُلف فيها، فقال الأصمعيُّ: هي الأضراسُ، وقال غيره: هي المَضَاحِك، / قال أبُو العبَّاس: الأنيابُ أحسنُ ما قيل فِي النَّواجِذ؛ لأنَّ في الخبر أنَّه ◙ كَاَنَ جلُّ ضحكِهِ التبسُّم.
          وفي «الصَّحاح»: النَّاجِذُ آخر الأضراس قَالَ: وللإنسان أربعةُ نَوَاجِذٍ فِي أقصى الأسنان بعد الأَرْحَاءِ ويُسمَّى ضِرْسَ الحلُم؛ لأنَّه ينبتُ بعد البُلُوغ وكمال العقل.
          وقوله: (فَلَقَد رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلعم يَضْحَكُ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ تَعَجُّبًا وتَصْدِيقًا لِقَوْلِهِ) يعني: قول الحَبْر. قال الخطَّابيُّ: قوله: (تَصْدِيقًا لِقَوْلِهِ) هُوَ ظنٌّ وحُسبانٌ، وقد رُوي هَذَا الخبر عن غير واحدٍ مِن أصحاب عَبْد اللهِ مِن غير طريق عَبِيدَةَ، فلم يذكروا فِيْهِ (تَصْدِيقًا لقول الحَبْر).
          قَالَ: والضَّحك يدلُّ عَلَى الرِّضا وعلى الإنكار أخرى، والآية محتملةُ الوجهَين ليس فيها للأصبع ذِكْرٌ، وقد ثبتَ قوله ◙: ((لا تصدِّقُوا أهل الكِتاب ولا تُكذِّبُوهم، وقولوا: آمنا بما أَنزلَ الله مِن كتابٍ)).
          والاستدلال بالتبسُّم والضَّحك فِي مثل هَذَا الأمر الجسيم غير سائغٍ مَعَ تكافؤ وَجْهي الدِّلالة المتعارضين فِيْهِ، ولو صحَّ الخبر لكان ظاهر اللَّفظ مِنْهُ متأوَّلًا عَلَى نوع المجاز وضَرْبٍ مِن المثَلِ قد جرت عادة الكلام بين النَّاس فِي عُرْف تخاطُبِهم، فيكون المعنى فِي ذَلِكَ مثل {مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67] أنَّ قُدْرته عَلَى طيِّها وسهولة الأمر فِي جمعِها بمنزلة مَن جمع شيئًا فِي كفِّه فاستخفَّ حملَهُ، فلم يَشتمل عليه بجميع كفِّه عليه لكنَّه نقلهُ ببعض أصابعه، وقد يقول الإنسان فِي الأمر الشاقِّ إذَا أُضيف إِلَى القُوَّة أنَّه يأتي عليه بأصبعٍ أَوْ أنَّه نقلَهُ بِخِنْصِرهِ.
          ويؤيِّدُ ما ذهبنا إليه حَديث أَبِي هُرَيْرَة ☺: ((يَقْبِضُ اللهُ الأرْضَ وَيَطْوِي السَّمَوات بِيَمِيْنِهِ ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا المَلِك)) وليس فِيْهِ ذكر إِصْبَعٍ وتقسيم الخَلِيقة عَلَى أعدادها، ودلَّ أنَّ ذَلِكَ مِن تَخْلِيط اليَهُود وتَحْرِيفهم، وأنَّ ضحكه ◙ إِنَّمَا كَاَنَ عَلَى مَعنى التعجُّب له والنَّكير، وقيل: الإِصْبَعُ خَلْقٌ مِن خَلْق الله.
          فَصْل: ومعنى: (يَدنُو أَحَدُكُمْ مِنْ رَبِّهِ) أَيْ: يقرُبُ مِن رَحْمَتِه، وَهَذَا سائغٌ فِي اللُّغة أَنْ يُقَالُ: إنَّ فلانًا قريبٌ مِن فلانٍ، ويُراد به قُرْب المنزلة وعلى هَذَا يُقَالُ: الله قريبٌ مِن أوليائه، بعيدٌ مِن أعدائه، ويدلُّ عَلَى ذَلِكَ قوله: (فَيَضَعَ كَنَفَهُ عَلَيْهِ) لأنَّ لفظ الكَنَف إِنَّمَا يُستعمل فِي مثل هَذَا المَعنى، ومَن رواه كَتِفه _بالتاء_ فهو تصحيفٌ مِن الراوي كما نبَّه عليه جمْعٌ مِن العلماء.