التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب قول الله تبارك وتعالى: {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن}

          ░2▒ باب قَوْلِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء:110]
          7376- ذَكَرَ فِيْهِ حَديث زَيْدِ بْنِ وَهَبٍ وَأَبِي ظَبْيَانَ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ☺ قَالَ: قَالَ رَسُول اللِه صلعم: (لَا يَرْحَمُ اللهُ مَنْ لَا يَرْحَمُ النَّاسَ).
          وأبو ظَبْيَانَ اسمه حُصَينُ بن جُنْدُبِ بن عَمْرٍو المذْحِجِيُّ الجَنْبِيَّ، أخرجا له.
          7377- وَحَدِيْثُ أُسامةَ بن زيدٍ ☻ السالف فِي الجنائز، وفي آخره: (وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ) [خ¦1284].
          وغرضهُ فِي هذا الباب إثبات الرَّحمة، وهي صِفَةٌ مِن صفات ذاتِهِ لا مِن صفات أفعالِهِ، والرَّحمن وصفَ به نفسه تعالى، وَهْوَ متضمِّنٌ لمعنى الرَّحمة، كتضمُّن وصفِهِ لنفسِهِ بأنَّه عالِمٌ وقادِرٌ وحيٌّ وسَمِيعٌ وبَصِيرٌ ومُتكلِّمٌ ومُرِيدٌ للعِلم والقُدرة والحياة والسَّمع والبصر والكلام والإرادة التي جميعها صِفاتُ ذاته لا صِفات أفعالِهِ؛ لقيام الدليل عَلَى أنَّه تعالى لَمْ يزل ولا يزال حيًّا عالمًا قادرًا سميعًا بصيرًا متكلِّمًا مُرِيدًا، ومِن صِفات ذاتهِ الغضب والسَّخَط.
          والمراد برحمتهِ تعالى: إرادته لنفع مَن سبق فِي علمِهِ أنَّه ينفعُهُ ويُثيبه عَلَى أعماله فسمَّاها رحمةً.
          والمراد بغضبه وسَخَطهِ: إرادته لإضرار / مَن سبقَ فِي علمه إضراره وعِقَابه عَلَى ذنوبه، فسمَّاها غضبًا وسُخطًا.
          ووصف نفسه بأنَّه راحِمٌ ورحيمٌ ورحمنٌ وغاضبٌ وساخطٌ بمعنى أنَّه مُرِيدٌ لِمَا تقدَّم ذكْرُهُ، وإنَّما لَمْ يعرف بعض العرب مِن أسماء الله تعالى أنَّ أسماءَه كلَّها واجبٌ استعمالها ودعاؤه بها سواءٌ؛ لكون كلِّ اسمٍ منها راجعًا إِلَى ذاتٍ واحدةٍ وَهْوَ الباري تعالى وإنْ دلَّ كلُّ واحدٍ منها عَلَى صِفةٍ مِن صفاتِهِ تعالى يختصُّ الاسم بالدلالة عليها، وأمَّا الرحمة التي جعلَها الله فِي قلوب عبادِهِ يتراحمون بها فهي مِن صِفات أفعاله، أَلَا تراه أنَّه قد وَصَفها بأنَّ الله تعالى خَلَقَها فِي قلوب عباده، وجَعْلُهُ لها فِي القلوب خَلْقٌ مِنْهُ تعالى لها فِيْهِ، وهذه الرَّحمة رقَّة عَلَى المرحوم والله تعالى أن يُوصَف بذلك.
          فَصْلٌ: رُوي أنَّه لَمَّا نَزَلَت: {قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} قالوا: أندعوا اثنين؟! فأعلمَ الله سبحانه أن لا يُدعى غيره، فقال: {أيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}، وقال ابن عبَّاسٍ ☻ فِي قوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65]، قَالَ: هل تعلمُ أحدًا اسمه الرَّحمن سواه.
          وأصلُ الله: لاه عند سيبويه، ثمَّ أُدخلت عليه الألف واللام، فجرى مجرى الاسم العَلَم كالقياس، إلَّا أنَّه يُخَالِف الأعلام مِن حيث كَاَنَ صِفَةً، وَهْوَ مشتقٌّ مِن الألوهيَّةِ.
          والرَّحمن والرَّحيم مشتقَّةٌ مِن الرَّحمة، وقيل: هما اسمان عَلَى حالهما مِن غير اشتقاقٍ.
          وقيل: يرجعان إِلَى الإرادة، فرحمتُهُ: إرادته التنعيم مِن خَلْقه.
          وقيل: هما راجعان إِلَى ترك عِقَابِ مَن يستحقُّ العقاب.
          وقيل: أصله إلاه عَلَى فِعَال بمعنى: مفعول؛ لأنَّه مألوه أَيْ: معبودٌ، مثل إمامٍ بمعنى: مؤتمٍّ، يُقال: ألاه بالفتح إلاهةً أَيْ: عبد عبادةً، فلمَّا أُدخلت عليه الألف واللام حَذف الهمزة تخفيفًا لكثرته فِي الكلام، ولو كَانَت عوضًا منها لَمَا اجتمعا فِي المعوَّض مِنْهُ فِي قولهم: الإلاه فقُطعت الهمزة فِي النداء تفخيمًا لهذا الاسم.
          قَالَ أَبُو عليٍّ: الألف واللام عوضٌ مِن الهمزة بدليل استجازتهم لقطع الهمزة الموصولة الداخلة عَلَى لام التعريف فِي القَسَم، وذلك قولهم: أبألله لتفعلنَّ، ويا ألله اغفر لي.
          وقال الأَشْعَرِيُّ: إلهٌ أنَّه قادرٌ عَلَى اختراع الأجسام والأَعْرَاض، فعلى هذا يكون صِفَة ذاتٍ، وكذلك عَلَى قول مَن قَالَ: هُوَ الَّذِي وَلِهت العُقُول فِي معرفته، وقيل: هُوَ مَن يَقْدِرُ عَلَى كشف الضرِّ والبلوى، وأنكرَ بعضهم قول مَن قَالَ: إلاه بمعنى معبودٍ مُعَلِّلًا بأنَّ الأصنام معبودةٌ وليست بآلهةٍ.
          فَصْلٌ: إرساله ◙ إِلَى ابنته أوَّلًا فِي حَديث أُسامةَ: أنَّ لله ما أخذَ، ولم يمضِ أوَّل مرَّة لأنَّه كَاَنَ شفيقًا رقيقًا فترى ما به مِن الرِّقَّة فيشتدُّ حزنها، وكان عزْمُها عليه؛ لأنَّ تخلُّفَهُ عنها أشدَّ مِن مصيبتها ثانيها وأنَّ فِي مجيئه عزاءً مِن ذَلِكَ.
          ومعنى: (وَنَفْسُهُ تَقَعْقَعُ) أَيْ: تضطرِّبُ وتتحرَّكُ، وقَالَ الدَّاودِيُّ: يعني صارت فِي صَدْرِهِ، وكانت مِنْهُ كالفُوَاق، والشَّنُّ _بالفتح_ القِرْبَة الخَلَق و(الشَّنَّةُ) أيضًا، وكأنَّها صغيرةٌ.
          فَصْلٌ: وقول سعْدٍ ☺: (مَا هَذَا يَا رَسُولَ اللهِ) فِيْهِ استعمال الإشارة وهي لغة العرب، وعاتبه ابن عوفٍ ☺ أيضًا فِي البكاء مَعَ نهيه عنه فأجابَ بأنَّها رحمةٌ.